شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب العزل

          ░96▒ بَاب الْعَزْلِ.
          فيه: جَابِرٌ: (كُنَّا نَعْزِلُ على عَهْدِ النَّبيِّ صلعم، وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ). [خ¦5028] [خ¦5209]
          وفيه: أَبُو سَعِيدٍ: (أَصَبْنَا سَبيًا(1)، فَكُنَّا نَعْزِلُ، فَسَأَلْنَا النَّبيَّ صلعم، فَقَالَ: أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟ _(2) ثَلاثًا_ مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَهي كَائِنَةٌ). [خ¦5210]
          اختلف السلف في العزل، فذكر مالكٌ في «الموطَّأ» عن سعد بن أبي وقَّاصٍ وأبي أيُّوب الأنصاريِّ، وزيد بن ثابتٍ وابن عبَاسٍ أنَّهم كانوا يعزلون، وذكره ابن المنذر عن عليِّ بن أبي طالبٍ وخبَّاب بن الأرتِّ وجابر بن عبد الله وقال: كنَّا نفعله على عهد رسول الله صلعم، وروي ذلك عن جماعةٍ من التابعين منهم ابن المسيِّب وطاوسٍ، وبه قال مالكٌ والكوفيُّون والشافعيُّ وجمهور العلماء.
          وكرهت طائفةٌ العزل، ذكره ابن المنذر عن أبي بكرٍ الصدِّيق وعمر بن الخطَّاب وعليِّ(3) بن أبي طالبٍ روايةً أخرى، وعن ابن مسعودٍ وابن عمر.
          وحجَّة من أباحه حديث جابرٍ، وروى ابن أبي شيبة عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي الزبير، عن جابرٍ: ((أنَّ النبيَّ صلعم(4) أذن في العزل))، واحتجُّوا أيضًا بحديث أبي سعيدٍ وقوله(5): (أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذلك، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إلى يوْمِ القِيامة، إِلَّا وَهي كَائِنَةٌ)، قالوا: ولا يفهم من قوله ◙: (أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذلك)، إلَّا الإباحة.
          ويشهد لذلك قوله في آخر الحديث: (مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ(6) إ ِلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ)، يقول: إنَّه(7) قد فرغ من الخلق، فاعزلوا أو لا تعزلوا، فإن قدِّر أنَّه(8) يكون ولدٌ لم يمنعه العزل؛ لأنَّه قد يكون مع العزل إفضاءٌ(9) بقليل الماء الذي قدَّر الله تعالى أن يكون منه ولدٌ(10)، وقد يكون الاسترسال والإفضاء ولا يكون ولدٌ، فالعزل والإفضاء سواءٌ في ألَّا يكون منه ولدٌ إلَّا بتقدير الله ╡، هذا معنى قول الطَّحاويِّ.
          قال: واحتجَّ من كره العزل بما حدَّثنا إبراهيم بن محمَّد بن يونس قال: حدَّثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدَّثنا سعيد بن أبي(11) أيُّوب، عن أبي الأسود محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفلٍ، عن عروة، عن عائشة قالت: حدَّثتني جُدَامة بنت وهبٍ الأسديَّة، أنَّ النبيَّ صلعم ذكر عنده العزل فقال: ((ذاك(12) الوأد الخفي))، وأنكر الذين أباحوا العزل حديث جُدَامة. ورووا عن النبيِّ صلعم إنكار ذلك.
          روى أبو داود قال(13): حدَّثنا هشامٌ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن محمَّد بن عبد الرحمن، عن أبي رِفاعة، وقال مرَّةً: عن أبي مُطِيع بن رِفاعة، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ: أنَّ النبيَّ صلعم أتاه رجلٌ، فقال: يا رسول الله، إنَّ عندي جاريةً، وأنا أعزل عنها وأكره أن تحمل، وإنَّ اليهود يقولون: هي الموءودة الصغرى، فقال رسول الله صلعم: ((كذبت يهود، لو أنَّ الله أراد أن يخلقه لم يستطع أحدٌ أن يصرفه)).
          قال الطَحاويُّ: فهذا أبو سعيدٍ قد حكى عن النبيِّ صلعم إكذاب من زعم أنَّ العزل موءودةٌ، ثمَّ قد روي عن عليٍّ دفع ذلك والتنبيه(14) على فساده بمعنًى لطيفٍ حسنٍ، روى الليث، عن معمر بن أبي حبيبة(15)، عن عبيد الله بن عديِّ بن الخيار قال: تذاكر أصحاب رسول الله صلعم عند عمر العزل، فاختلفوا فيه، فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم! فقال عليٌّ: إنَّها لا تكون موءودةً حتَّى تمرَّ بالتارات السبع، قوله تعالى: / {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} إلى آخر(16) الآية[المؤمنون:12]، فعجب عمر من قوله، وقال: جزاك الله خيرًا، فأخبر عليٌّ أنَّه لا يوأد إلَّا ما(17) قد نُفِخ فيه قبل ذلك، وما لم يُنفَخ فيه الروح(18) مواتٌ غير موؤودٍ. وروى سفيان عن أبي الوَدَّاك أنَّ قومًا سألوا ابن عبَّاسٍ عن العزل، فذكر مثل كلام عليٍّ سواءً.
          فهذا عليٌّ وابن عبَّاسٍ قد اجتمعا على ما ذكرنا وتابعهما عمر، ومن كان بحضرتهما(19) من الصحابة، فدلَّ على أنَّ العزل غير مكروهٍ، وذهب مالكٌ والشافعيُّ وجمهور العلماء إلى أنَّه لا يعزل عن الحرَّة إلَّا بإذنها، فإن منعت زوجها(20) لم يعزل.
          واختلفوا في العزل عن الزوجة الأمة، فقال مالكٌ والكوفيُّون: لا يعزل عنها إلَّا بإذن سيِّدها. وقال الثوريُّ: لا يعزل عنها إلَّا بإذنها. وقال الشافعيُّ: يعزل عنها دون إذنها ودون إذن مولاها.


[1] في (ص): ((سبايا)).
[2] زاد في (ص): ((قالها)).
[3] في (ص): ((وعن علي)) وقوله: ((بن أبي طالب)) ليس فيها.
[4] في (ص): ((رسول الله)).
[5] في (ص): ((واحتجوا أيضًا بقوله)).
[6] زاد في (ص): ((إلى يوم القيامة)).
[7] قوله: ((إنه)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((أن)).
[9] في (ز): ((أيضًا)) والمثبت من (ص).
[10] في (ص): ((الولد)).
[11] قوله: ((أبي)) ليس في (ص).
[12] في (ص): ((ذلك)).
[13] قوله: ((قال)) ليس في (ص).
[14] في (ص): ((والبيِّنة)).
[15] في (ص): ((خيثمة)).
[16] قوله: ((إلى آخر)) ليس في (ص).
[17] في (ص): ((من)).
[18] قوله: ((الروح)) ليس في (ص).
[19] في (ص): ((يحضر)).
[20] قوله: ((زوجها)) ليس في (ص).