شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من قال لا رضاع بعد حولين

          ░21▒ بَابُ مَنْ قَالَ: لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ
          لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}[البقرة:233]
          وَمَا يُحَرِّمُ مِنْ(1) قَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ.
          فيهِ عَائِشَةُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا رَجُلٌ، فَكَأَنَّهُ(2) تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ أَخِي، فَقَالَ: انْظُرْنَ مَا إِخْوَانُكُنَّ(3)، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ). [خ¦5102]
          اتَّفق أئمَّة الأمصار على أنَّ رضاع الكبير لا يُحَرِّم، وشذَّ اللَّيث وأهلُ الظَّاهر عنِ الجماعة، وقالوا: إنَّه يُحَرِّم، وذهبوا إلى قول عائشةَ في رضاعة سَالِمٍ مولى أبي حُذَيْفَةَ، وحجَّة الجماعة قوله تعالى: {وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ(4)}[البقرة:233]، فأخبر تعالى أنَّ تمام الرَّضاعة(5) حولان(6)، فعُلِمَ أنَّ ما بعد الحولين ليس برضاعٍ، إذ لو كان ما(7) بعده رضاعًا لم يكن كمال الرَّضاعة(8) حولين، ويشهدُ لهذا قوله ◙: (إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ)، وهذا المعنى لا يقع برضاع الكبير، وقد رَوَى هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ عن فاطمةَ بنتِ المُنْذِرِ عن أمِّ سَلَمَةَ عن النَّبِيِّ صلعم أنَّه قال: ((لَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ إلَّا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ وَكَانَ قَبْل الفِطَامِ(9))).
          وأمَّا خبر عائشةَ في رضاعة الكبير(10)، فلا يخلو أنْ يكونَ منسوخًا أو خاصًّا لسالمٍ وحده، وقد(11) قالت أمُّ سَلَمَةَ وسائر أزواج النَّبِيِّ صلعم: كان رضاع سالمٍ خاصًّا له وذلك مِنْ أجلِ التَّبنِّي الَّذي انضاف إليه، ولا يوجد هذا في غيره، وقد نسخَ اللهُ التَّبنِّي، فلا ينبغي أنْ يتعلَّق به(12) حكمٌ، وقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}[البقرة:233]، وقوله ◙: (الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ)، قاطع للخلاف في هذه المسألة، وما جعله الله حدًّا لتمام فلا مزيد لأحد عليه.
          قال المُهَلَّبُ: وقوله(13): (انظُرْنَ، مَا إِخْوَانِكُنَّ) أي ما سبب أخوته، فإنَّ حُرمة الرَّضاع إنَّما هي في الصِّغر(14) حين تُسَدُّ الرَّضاعة المجاعة، لا حين يكون الغذاء بغير(15) الرَّضاع في حال الكبر.
          واختلفوا في مقدار مدَّة الرَّضاع، فقال جمهور العلماء: ما كان في الحولين فهو(16) يُحَرِّمُ، وما كان بعد الحولين فلا يُحَرِّمُ، رُوِيَ هذا عن ابن مَسْعُودٍ وابنِ عبَّاسٍ وعنِ الشَّعْبِيِّ وابنِ شُبْرُمَةَ(17)، وهو قول الثَّوْرِيِّ والأوزاعيِّ وأبي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإِسْحَاقَ وأبي ثَوْرٍ، وهو قول مالكٍ في «الموطَّأ»، وفيها قولٌ ثانٍ: روى الوليدُ بنُ مسلمٍ عن مالكٍ: ما كان(18) بعد الحولين بشهرٍ أو شهرين أو ثلاثةٍ(19) يُحَرِّم، وفيها قولٌ ثالثٌ: حُكِيَ عن أبي حنيفةَ: ما(20) كان بعد الحولين بستَّة أشهرٍ فإنَّه يُحَرِّمُ، وفيها قولٌ رابعٌ: قال زُفَرُ: مادام يجتزئ باللَّبن ولم يطعم، وإنْ أتى عليه ثلاث سنين فهو رضاعٌ، والقول قول مَنْ قال بالحولين لشهادة كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله ◙.
          روى ابن عُيَيْنَةَ عن عَمْرِو بن دينارٍ عن ابن عبَّاسٍ أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: ((لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ في الحَولَينِ))، ودليلٌ آخر وهو قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}[لقمان:14]، فعُلِمَ أنَّ ما بعد الحولين بخلافهما، قال ابنُ المُنْذِرِ: والَّذي يعتمد عليه في ذلك قوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}[البقرة:233]، وليس لما بعد التَّمام حكمٌ.
          واختلفوا في مقدار الرَّضاع الَّذي تثبت به الحرمة، ولا تجوز الزِّيادة فيه(21)، قال ابنُ المُنْذِرِ: قالت(22) طائفةٌ: يُحَرِّمُ قليل ذلك وكثيره، وهو قول عليٍّ وابنِ مَسْعُودٍ وابنِ عُمَرَ وابنِ عبَّاسٍ، ورُوِيَ عن سَعِيْدِ بنِ المُسَيَّبِ والحَسَنِ وعَطَاءٍ ومكحولٍ وطَاوُسٍ والحَكَمِ، وهو قول مالكٍ والَّليْثِ والأوزاعيِّ والثَّوْرِيِّ والكوفيِّين.
          وقالت طائفةٌ: لا تُحَرِّمُ الرَّضعة والرَّضعتان، وإنَّما تُحَرِّمُ ثلاثٌ، رُوِيَ ذلك عن عائشةَ وابنِ الزُّبَيْرِ، وبه قال أحمدُ وإِسْحَاقُ وأبو ثَوْرٍ وأبو عُبَيْدٍ(23)، واحتجُّوا بقوله ◙: ((لَا تُحَرِّمُ الإِمْلَاجَةُ والإِمْلَاجَتَانِ)).
          وقالت طائفةٌ: لا يقع التَّحريم إلَّا بخمسِ رضعاتٍ مفترقاتٍ، رُوِيَ ذلك عن عائشةَ، وهو قول / الشَّافعيِّ، وحُكِيَ عن(24) إِسْحَاقَ، واحتجُّوا بقول عائشةَ(25): ((كَانَ فِيْمَا نَزَلَ فِي القُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فتُوُفِّي رَسُولُ اللهِ صلعم وهِيَ فيما يُقرَأُ مِنَ القُرْآنِ))، ورُوِيَ عن عائشةَ أيضًا(26) أنَّه لا يُحَرَّمُ إلَّا سبع رضعاتٍ، ورُوِيَ عنها أنَّها أمرت أختها أمَّ كلثومٍ(27) أنْ تُرضِعَ سالمَ بنَ عبدِ اللهِ عشرَ رضعاتٍ ليدخلُ عليها، ورُوِيَ مثله(28) عن حَفْصَةَ أمِّ المؤمنين.
          وحجَّة القول الأوَّل قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}[النِّساء:23]، ولم يخصَّ قليلُ الرَّضاع مِنْ كثيره، وقد قالت(29) العلماء: إنَّ أحاديث عائشةَ في الرَّضاع اضطربت، فوجب تركها والرُجوع إلى كتاب الله.
          قال الطَّحَاوِيُّ: وكيف يجوز أنْ تأمر عائشةُ بعشرِ رضعاتٍ وهي منسوخةٌ، وتركنا ونأخذ(30) بالخمس النَّاسخة لها، وحديث الإملاجة والإملاجتين(31) لا يثبت؛ لأنَّه يرويه مرَّةً(32) ابن الزُّبَيْرِ عن النَّبِيِّ صلعم، ومرَّةً عن عائشةَ، ومرَّةً عن أبيه، ومثل هذا الاضطراب يسقطه.
          قال الطَّحَاوِيُّ: والنَّظر في ذلك أنَّا رأينا الَّذي يُحَرِّمُ لا عدد فيه، ويُحَرِّمُ قليله وكثيره، ألا ترى لو(33) أنَّ رجلًا جامع امرأةً بنكاحٍ أو ملكٍ(34) مرَّةً واحدةً أنَّ ذلك يوجب حرمتها على أبيه(35) وعلى ابنه، ويوجب حرمة أمِّها وابنتها عليه، فكذلك الرَّضاع لما كان كثيره يُحَرِّمُ كان قليله في القياس أيضًا كذلك(36).


[1] قوله: ((مِنْ)) ليس في (ز) وهو مثبت مِنَ المطبوع.
[2] قوله: ((فكأنَّه)) ليس في (ص).
[3] في المطبوع: ((مِن إخوانكنَّ)).
[4] قوله: ((في رضاعة سالم مولى أبي حذيفة، وحجَّة الجماعة قوله تعالى:{وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ})) ليس في (ز)، وزاد في (ز): (({لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتَمَّ الرَّضَاعَةَ})).
[5] في (ز): ((الرَّضاع)).
[6] في (ص): ((حولين)).
[7] قوله: ((ما)) ليس في (ز).
[8] في (ز): ((الرَّضاع)).
[9] في (ز): ((الطَّعام)).
[10] في (ز): ((سالم)).
[11] قوله: ((وقد)) ليس في (ص).
[12] في (ز): ((التَّبنِّي، فلم يتعلَّق به)).
[13] في (ز): ((قوله)).
[14] في (ز): ((الصَّغير)).
[15] في المطبوع: ((يغيِّر)).
[16] قوله: ((يحرِّم)) ليس في (ص).
[17] قوله: ((وعن الشَّعبيِّ، وابن شُبْرُمَةَ)) ليس في (ز).
[18] في (ز): ((أنَّ ما)).
[19] قوله: ((ثلاثة)) ليس في (ص).
[20] في (ز): ((أنَّه ما))، وفي المطبوع: ((أنَّ ما)).
[21] قوله: ((ولا تجوز الزِّيادة فيه)) ليس في (ص).
[22] في (ز): ((فقالت)).
[23] في (ز): ((عبيدة)).
[24] في (ز): ((ويحكى هذا عن)).
[25] زاد في (ز): ((قالت)).
[26] قوله: ((أيضًا)) ليس في (ز).
[27] في (ز): ((أمَّ كلثومٍ أختها)).
[28] في (ز): ((وروى سليمان)).
[29] في (ز): ((قال)).
[30] في (ز): ((وتركنا من يأخذ)).
[31] في (ص): ((والإملاجتان)).
[32] في (ز): ((يرويه مرَّةً)).
[33] قوله: ((لو)) ليس في (ز).
[34] في (ز): ((بملك)).
[35] في (ص): ((أبيه)) غير واضحة.
[36] في (ز): ((كان قليله أيضًا في القياس كذلك)).