شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير

          ░33▒ بَابُ عَرْضِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ عَلَى أَهْلِ الخَيْرِ
          فيهِ ابنُ عُمَرَ: (أَنَّ عُمَرَ حِيْنَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ(1) مِنْ خُنَيْسِ بنِ حُذَافَةَ _وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلعم_ فَتُوُفِّيَ بِالمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ لَقِيَنِي(2)، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ / الصِّدِّيقَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ(3) عُمَرَ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، فَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ أيَّامًا(4)، ثُمَّ خَطَبَهَا النَّبِيُّ صلعم فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِيْنَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ، فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا. قَالَ: عُمَرُ قُلْتُ:(5) نَعَمْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ قَدْ(6) عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صلعم، وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللهِ صلعم قَبِلْتُهَا). [خ¦5122]
          وفيهِ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ قَالَتْ للنَّبِيِّ صلعم: إِنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ(7) دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ(8) صلعم: (أَعَلَى أُمِّ سَلَمَةَ؟ لَوْ لَمْ أَنْكِحْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّ أَبَاهَا أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ). [خ¦5123]
          وفي(9) حديث عُمَرَ مِنَ الفقهِ الرُّخصة في أنْ يعرضَ الرَّجل ابنته على الرَّجل الصَّالح رغبةً فيه، ولا نقيصة عليه في ذلك.
          وفيه أنَّ مَنْ عرضَ عليه ما فيه الرَّغبة فله النَّظر والاختيار، وعليه أن يخبر بعد ذلك بما عنده لئلَّا يمنعها مِنْ غيره لقول عُثْمَانَ بعد ليالٍ(10): قَدْ بَدَا لِي(11) ألَّا أتزوَّجَ يَوْمِي هَذَا.
          وفيه الاعتذار لأنَّ عُثْمَانَ قال: لَا(12) أُرِيْدُ التَّزْوِيْج يَوْمِي هَذَا، ولم يقل أبو بَكْرٍ: لا أريد التَّزويج، وقد كان يريده حين قال: لَوْ تَرَكَهَا لَنَكَحْتُهَا، ولم يقل: نعم، ولا لا.
          وفيه الرُّخصة أنْ يجدَ الرَّجل على صديقه في الشَّيء يسأله، فلا يجيبه إليه ولا يعتذر بما يعذره به(13)؛ لأنَّ النُّفُوسَ جُبِلَت على ذلك، لاسيَّما إذا عُرِضَ عليه ما فيه الغِبطةُ له.
          وقوله: وَكَانَ وَجْدِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَشَدُّ مِنْ وَجْدِي عَلَى عُثْمَانَ لمعنيين: أحدهما: أنَّ أبا بَكْرٍ لم يردَّ عليه الجواب. والثَّاني: أنَّ أبا بَكْرٍ أخصُّ بعُمَرَ منه بعُثْمَانَ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلعم آخى بينَ أبي بَكْرٍ وعُمَرَ(14)، فكانت موجدته عليه أكثر لثقته به وإخلاصه له.
          وفيه كِتْمَانُ السِّرِّ، فإنْ أظهره الله أو أظهره صاحبه(15) جازَ للَّذي أسرَّ(16) إليه إظهاره، ألا ترى أنَّ النَّبِيَّ صلعم لمَّا أظهر تزويجها أعلم أبو بَكْرٍ عُمَرَ بما كان أسرَّ إليه منه، وكذلك فعلت فاطمةُ في مرض النَّبِيِّ صلعم حين أسرَّ إليها أنَّها(17) أوَّل أهله لحاقًا به، فكتمته حَتَّى توفِّي، وأسرَّ رسولُ اللهِ صلعم إلى حَفْصَةَ تحريم جاريته مَارِيَّةَ، فأخبرت حَفْصَةُ عائشةَ بذلك، ولم يكن النَّبِيُّ صلعم أظهره، فذمَّ اللهُ تعالى فعلَ حَفْصَةَ وقبول عائشةَ لذلك، فقال: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}[التَّحريم:4]، أي مالت وعدلت عَنِ الحقِّ.
          وفي قول أبي بَكْرٍ لعُمَرَ بعد تزويج رسولِ اللهِ صلعم بها(18): (لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ) دليلٌ على أنَّ(19) الرَّجل إذا أتى إلى أخيه ما لا يصلح أنْ يُؤتى إليه مِنْ سوءِ المعاشرةِ أنْ يعتذر ويعترف، وإنَّ(20) الرَّجل إذا وجب عليه الاعتذار مِنْ شيءٍ وطمع بشيءٍ تقوى به حجَّته أنْ يؤخِّر ذلك حَتَّى يظفرَ ببغيته ليكون أبرأَ له عند مَنْ يعتذرُ إليه.
          وفي قول عُمَرَ لأبي بَكْرٍ: (نَعَمْ(21))، دليلٌ على أنَّ الإنسان يخبر(22) بالحقِّ على(23) نفسه وإن كان عليه فيه شيءٌ.
          قال المُهَلَّبُ: والمعنى الَّذي(24) أسرَّ أبو بَكْرٍ عن عُمَرَ ما أخبره(25) به النَّبِيُّ صلعم هو أنَّه خَشِيَ أبو بَكْرٍ أنْ يذكر ذلك لعُمَرَ، ثُمَّ يبدو للنَّبِيِّ صلعم الإعراض(26) عن نكاحها فيقع في قلب عُمَرَ للنَّبِيِّ صلعم مثل ما وقع في قلبه لأبي بَكْرٍ.
          وفي قول أبي بَكْرٍ لعُمَرَ: (كُنْتُ(27) عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم ذَكَرَهَا)، فيه دليلٌ أنَّه جائزٌ(28) للرَّجل أنْ يذكرَ لأصحابِه ولِمَنْ يثقُ برأيه أنَّه يخطب امرأةً قبلَ أنْ يظهرَ خطبتها، وقول أبي بَكْرٍ: لم أكنْ لأفشي سرَّ رسولِ اللهِ صلعم، يدلُّ أنَّه مَنْ ذكرَ امرأةً قبلَ أنْ يظهرَ خطبتها، فإنْ ذكرَه في معنى السِّرِّ، فإنَّ(29) إفشاءَ السِّرِّ في النِّكاح وفي(30) غيره مِنَ المباح لا يجوز.
          وفيه أنَّ الصَّديق لا يخطب امرأةً علم أنَّ الصَّديق يريدها(31) لنفسه، وإنْ كانَ لم يركن إليه(32) لما يخاف مِنَ القطيعة بينهما، ولم تخف القطيعة بين غير الإخوان؛ لأنَّ الاتِّصال بينهما ضعيفٌ غير اتِّصال الصَّداقة في اللهِ ╡.
          وفي قول أبي بَكْرٍ: لو تركها تزوَّجتها، / دليلٌ أنَّ الخطبة إنَّما تجوز بعد أنْ يتركها الخاطب.
          وفيه الرُّخصة في تزويج مَنْ عرضَ النَّبِيُّ صلعم فيها بخطبةٍ أو أراد أنْ يتزوَّجها(33)، ألا ترى قول أبي بَكْرٍ: لو تركها تزوَّجتها، وقد جاء في خبر آخر الرُّخصة في نكاح مَنْ عقدَ النَّبِيُّ صلعم فيها النِّكاح ولم يدخل بها، وأنَّ أبا بَكْرٍ كرهه فرخَّص(34) فيه عُمَرُ.
          روى دَاوُدُ بنُ أبي هندٍ عن عِكْرِمَةَ، قال: تزوَّجُ النَّبِيُّ صلعم امرأةً مِنْ كِنْدَةَ يُقَالُ لَهَا: قَتِيْلَةٌ، فمات ولم يدخل بها ولا حجبها، فتزوَّجها عِكْرِمَةُ بنُ أبي جهلٍ، فغضب أبو بَكْرٍ، وقال: تزوَّجتَ مِنْ نساء رسول اللهِ صلعم؟ فقالَ عُمَرُ: ما هي مِنْ نسائه ما(35) دخل بها ولا حجبها، ولقد ارتدَّت مع مَن ارتدَّ فسكت(36).
          وفيه أنَّ الأبَ تخطب إليه بنته(37) الثَّيب كما تخطب إليه البِكْرُ، ولا تخطب إلى نفسها، وأنَّه يزوِّجها.
          وفيه فساد قول مَنْ قال: إنَّ للمرأةِ البالغة المالكة أمرها(38) تزويج نفسها وعقد النِّكاح عليها دون وليِّها، وإبطال قول مَنْ قال:(39) للبالغ الثَّيِّب(40) إنكاح(41) مَنْ أحبَّت دون وليِّها، وسيأتي بيان ذلك في باب مَنْ قال: لا نكاح إلَّا بوليٍّ إن شاءَ الله [خ¦5127].
          وفي تركه أن يأمره باستئمارها _ولم نجد(42) عن عُمَرَ أنَّه استأمرها_ دليلٌ أنَّ للرَّجل أنْ يزوِّجَ ابنته الثَّيب(43) مِنْ غير أنْ يستأمرَها إذا علم أنَّها لا تكره ذلك(44)، وكان الخاطب لها(45) كفؤًا لأنَّ حَفْصَةَ لم تكنْ لترغبَ عن رسولِ اللهِ صلعم، فأغنى علمُ عُمَرَ(46) عن استئمارها.
          وقوله: تأيَّمت حَفْصَةُ، أي صارت غير ذات زوجٍ بموت زوجها عنها، والعرب تدعو كلَّ امرأةٍ لا زوج لها وكلَّ رجلٍ لا امرأة له: أيِّمًا، ومنه قولُ الشَّاعرِ:
فَإِنْ تَنْكَحِـي أَنْكِـحُ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي                     وَإِنْ كُنْتُ أَفْتَى مِنْكُـْم أَتَأَيَّمُ


[1] قوله: ((بنت عمر)) ليس في (ز).
[2] قوله: ((ثُمَّ لقيني)) ليس في (ص).
[3] في (ز): ((ابنة)).
[4] في (ز): ((ليالي)).
[5] قوله: ((عمر قلت)) ليس في (ز).
[6] قوله: ((قد)) ليس في (ز).
[7] في (ص): ((تنكح)).
[8] في (ز): ((فقال النَّبِيُّ)).
[9] في (ز): ((في)).
[10] في (ص): ((ليالي)).
[11] قوله: ((قد بدا لي)) ليس في (ص).
[12] في (ز): ((ما)).
[13] في (ص): ((يعتذر له)).
[14] في (ص): ((أنَّ أبا بكرٍ أخا عمرَ)).
[15] في (ز): ((فإنْ أظهرَه صاحبه أو أظهره الله)).
[16] زاد في (ز): ((إليه)).
[17] في (ص): ((أنَّ)).
[18] في (ز): ((لها)).
[19] في (ز): ((أنَّ على)).
[20] في (ز): ((فإنَّ)).
[21] قوله: ((نعم)) ليس في (ص).
[22] في (ز): ((أنَّ على الإنسان أن يخبر)).
[23] في (ز): ((عن)).
[24] زاد في (ز): ((له)).
[25] في (ز): ((أخبر)).
[26] قوله: ((الإعراض)) ليس في (ز) و(ص).
[27] زاد في (ز): ((قد)).
[28] في (ص): ((حاجة)).
[29] في (ز): ((وإنَّ)).
[30] في (ز): ((أو)).
[31] في المطبوع: ((صديقه يريدها))، وفي (ز): ((صديقها يذكرها)).
[32] في المطبوع: ((إليها)).
[33] في (ز): ((تزويجها)).
[34] في (ز): ((ورخَّص)).
[35] في المطبوع: ((وما)).
[36] زاد في (ز): ((أبو بكر)).
[37] في (ز): ((ابنته)).
[38] في (ز): ((لأمرها)).
[39] زاد في (ز): ((إنْ)).
[40] في (ز): ((للثَّيِّب البالغة)).
[41] زاد في (ز): ((نفسها)).
[42] في (ز): ((يحمل)).
[43] قوله: ((الثَّيِّب)) ليس في (ز).
[44] قوله: ((ذلك)) ليس في (ص).
[45] قوله: ((لها)) ليس في (ز).
[46] زاد في (ز): ((بها)).