شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله جل وعز: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة}

          ░34▒ بابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا(1) جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ}(2) الآية[البقرة:235].
          وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ(3)} يَقُولُ: إنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيْجَ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّي تَيَسَّرَ لِي امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ. وَقَالَ القَاسِمُ: يَقُولُ: إِنَّكِ عَلَيَّ لكَرِيمَةٌ(4)، وَإنِّي(5) فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَإِنَّ اللهَ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا _أَوْ نَحْوَ هَذَا_ وَقَالَ عَطَاءٌ: يُعَرِّضُ وَلَا يَبُوحُ، يَقُولُ: إِنَّ لِي حَاجَةً، وَأَبْشِرِي وَأَنْتِ بِحَمْدِ اللهِ نَافِقَةٌ. وَتَقُولُ هِيَ: قَدْ أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، وَلَا تَعِدُ شَيْئًا، وَلَا يُوَاعِدُ(6) وَلِيُّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهَا، وَإِنْ وَاعَدَتْ رَجُلًا في عِدَّتِهَا، ثُمَّ نَكَحَهَا بَعْدُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ الحَسَنُ: {لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا}[البقرة:235]: الزِّنَا. وَيُذْكَرُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: {حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ}(7)[البقرة:235]أي حتى(8) تَنْقَضِي العِدَّةُ.
          وَحَرَّمَ(9) اللهُ تعالى عقد النِّكاح في العِدَّة بقوله: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ}[البقرة:235]، وهذا مِن المحكم المجتمع على تأويله أن بلوغ أجله انقضاء العدَّة، وأباح ╡ التَّعريض(10) في العدَّة بقوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء} الآية[البقرة:235]، ولم يختلف العلماء في إباحة ذلك.
          قال المُهَلَّب: وإنَّما منعَ مَنْ عقد النِّكاح في العدَّة، والله أعلم؛ لأنَّ ذلك ذريعةٌ إلى المواقعة في العدَّة الَّتي هي محبوسةٌ فيها على ماء الميِّت(11) المطلق، كما منع المحرم بالحجِّ مِنْ عقد النِّكاح؛ لأنَّ ذلك داعيه إلى المواقعة، فحرم عليه السَّبب والذَّريعة إلى فساد ما هو فيه وموقوفٌ عليه، وأباح التَّعريض في العدَّة خشية أنْ تفوت نفسها.
          (12): واختلفوا في ألفاظ التَّعريض، والمعنى واحدٌ، وقال قَتَادَةُ وسَعِيْدُ بنُ جبيرٍ في قوله تعالى: {وَلَكِنْ(13) لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا}[البقرة:235]، قال: لا يأخذ عهدها في عدَّتها ألَّا تنكحَ غيره.
          قال إِسْمَاعِيْلُ بنُ إِسْحَاقَ: وهذا أحسن(14) مِنْ قول مَنْ تأوَّل في قوله: {وَلَكِنْ(15) لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا(16)}[البقرة:235]أنَّه الزِّنا لأنَّ ما قبل الكلام وما بعده لا يدلُّ عليه، ويجوز في اللُّغة أنْ يُسمَّى الغشيان سرًّا، / سرًّا، إذ كان الغشيان يكون فيه كما يسمَّى التَّزويج نكاحًا، وهو أشبه في المعنى لأنَّه لمَّا أجيز لهم(17) التَّعريض في النِّكاح لم يؤذَن لهم في غيره، فوجب أنْ يكون كلُّ شيءٍ يجاوز التَّعريض فهو محظورٌ، والمواعدة تجاوز التَّعريض(18)، فوسَّع الله تعالى على عباده في التَّعريض في الخطبة لما علم منهم.
          وبلغني عَنِ الشَّافعيِّ أنَّه احتجَّ بهذا التَّعريض في القذفِ(19)، وقال: كما لم يجعل التَّعريض في هذا الموضع بمنزلة التَّصريح، كذلك لا يجعل التَّعريض في القذفِ بمنزلة التَّصريح(20)، واحتجَّ(21) بما هو حجَّةٌ عليه وكان(22) التَّعريض بالنِّكاح قد فهم عن صاحبه ما أراد، فكذلك ينبغي أنْ يكون التَّعريض بالقذف قد فهم عن صاحبه ما أراد(23)، فإذا فهم أنَّه قاذفٌ، حكم عليه بحكم القذف، وينبغي له على قوله هذا أنْ يزعم أنَّ التَّعريض بالقذف مباحٌ كما أُبيح التَّعريض بالنِّكاح، وسيأتي استيعاب الحجَّة عليه في كتاب الحدود إنْ شاءَ الله تعالى.
          واختلفوا في الرَّجل يخطب امرأةً(24) في عدَّتها جاهلًا ويواعدها، ويعقد بعد العدَّة، فكان مالكٌ يقول: فراقها أحبُّ إليَّ دخل بها أو لم يدخل، وتكون تطليقةً واحدةً، ويدعها حَتَّى تحلَّ ويخطبها(25). وقال الشَّافعيُّ: إنْ صرَّح بالخطبة وصرَّحت له بالإجابة(26)، ولم يعقد النِّكاح حَتَّى تنقضي العدَّة، فالنِّكاح ثابتٌ والتَّصريح لهما مكروهٌ؛ لأنَّ النِّكاح حادثٌ بعد الخطبة.
          واختلفوا إذا تزوَّجها في العدَّة ودخل بها(27) فقال مالكٌ والَّليْثُ والأوزاعيُّ: يفرَّق بينهما ولا تحلُّ له أبدًا، قال مالكٌ والَّليْثُ: ولا بملك اليمين، واحتجُّوا بأنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، قال: لا يجتمعان أبدًا وتعتدُّ منهما جميعًا.
          وقال الثَّوْرِيُّ والكوفيُّون(28)، والشَّافعيُّ: يفرَّق بينهما، فإذا(29) انقضت عدَّتها مِنَ الأوَّل(30) فلا بأسَ أنْ يتزوَّجها، واحتجَّوا بإجماع العلماء أنَّه(31) لو زنى بها لم يحرم عليه تزويجها، فكذلك وطؤه إيَّاها في العدَّة، قالوا: وهو قولُ عليِّ بنِ أبي طَالِبٍ، ذكره عبدُ الرَّزَّاقِ، وذكر عن ابنِ مَسْعُودٍ مثله، وعن الحَسَنِ أيضًا.
          وذكر عبدُ الرَّزَّاقِ عن الثَّوْرِيِّ عن الأَشْعَثِ(32) عن الشَّعْبِيِّ عن مَسْرُوقٍ أنَّ عُمَرَ رجع عن ذلك وجعلهما يجتمعان.
          واختلفوا هل تعتدُّ منهما جميعًا، فروى المدنيُّون(33) عن مالكٍ أنَّها تتمُّ بقيَّة عدَّتها مِنَ الأوَّل وتستأنف عدَّةً أخرى مِنَ الآخر، رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ وعَليٍّ، وهو قولُ الَّليْثِ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإِسْحَاقَ. وروى ابنُ القَاسِمِ عن مالكٍ: أنَّ عدَّةً واحدةً تكون لهما جميعًا، سواءٌ كانت العدَّة(34) بالحيض أو الحمل أو الشُّهور، وهو قول الأوزاعيِّ والثَّوْرِيِّ وأبي(35) حنيفةَ، وحجَّتهم الإجماع على أنَّ الأوَّل لا ينكحها في بقيَّة العدَّة منه، فدلَّ ذلك على أنَّها في عدَّةٍ مِنَ الثَّاني، ولولا ذلك لنكحها في عدَّتها منه، وهذا غير لازمٍ؛ لأنَّ(36) منع الأوَّل مِنْ أنْ ينكحها في بقيَّة عدَّتها إنَّما وجب لما يتلوها مِنْ عِدَّة الثَّاني، وهما حقَّان قد وجبا عليها لزوجين كسائر حقوق الآدميين لا يدخل أحدهما في(37) صاحبه.


[1] في (ز): ((باب قوله تعالى لا)).
[2] قوله: ((أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)) ليس في (ص).
[3] قوله: ((به مِنْ خطبة النِّساء)) ليس في (ز).
[4] في (ز): ((لكريمة عليَّ)).
[5] في (ص): ((إنِّي)).
[6] في (ص): ((يعد)).
[7] قوله: ((حتَّى يبلغ)) ليس في (ز).
[8] في (ز): ((قال إنَّ)).
[9] في (ز): ((حرم)).
[10] في (ز): ((التَّعراض والتَّعريض)).
[11] زاد في (ز): ((أو)).
[12] زاد في (ز): ((قال)).
[13] قوله: ((ولكن)) ليس في (ز).
[14] قوله: ((وهذا أحسن)) ليس في (ص).
[15] قوله: ((ولكن)) ليس في (ز).
[16] قوله: ((سرًّا)) ليس في (ص).
[17] في (ز): ((لهما)).
[18] في (ز): ((للتَّعريض)).
[19] في (ز): ((بهذا التَّعريض في التَّعريض بالقذف)).
[20] قوله: ((كذلك لا يجعل التَّعريض في القذف بمنزلة التَّصريح)) ليس في (ص).
[21] في (ز): ((فاحتجَّ)).
[22] في (ز): ((إذ كان)).
[23] قوله: ((فكذلك ينبغي أن يكون التَّعريض بالقذف قد فهم عن صاحبه ما أراد)) ليس في (ص).
[24] في (ز): ((المرأة)).
[25] قوله: ((ويخطبها)) ليس في (ص).
[26] في (ص): ((بالإباحة)).
[27] في (ص): ((معها)).
[28] في (ز): ((الكوفيُّون والثَّوريُّ)).
[29] في (ز): ((وإذا)).
[30] في (ص): ((الآخر)).
[31] قوله: ((أنَّه)) ليس في (ز).
[32] في (ز): ((أشعث)).
[33] صورتها في (ز): ((المنصور)) وهي غير واضحة.
[34] قوله: ((العدَّة)) ليس في (ص).
[35] في (ص): ((وأبو)).
[36] في المطبوع: ((لأنَّه)).
[37] في (ز): ((على)).