شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد؟

          ░29▒ بَابُ هَلْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لأحَدٍ؟
          فيهِ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ: أَنَّها كَانَتْ مِنَ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِيِّ صلعم فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا تَسْتَحِي المَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ؟ فَلَمَّا نَزَلَتْ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ(1)}[الأحزاب:51]قُلْتُ: / (يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ في هَوَاكَ). [خ¦5113]
          قال ابنُ القَاسِمِ عن مالكٍ: الموهوبة خاصَّةً لرسولِ اللهِ صلعم لا يحلُّ لأحدٍ(2) بعده أنْ يتزوَّج بغير صَدَاقٍ لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُوْنِ المُؤْمِنِينَ}[الأحزاب:50]، ولا خلاف في هذا بين العلماء.
          واختلفوا(3) في عقد النِّكاح، هل يصحُّ بلفظ الهبة مثل أنْ يقولَ الرَّجل: قد وهبت لك ابنتي ووليَّتي(4)، ويُسَمِّي صَدَاقًا أو لم يُسَمِّ، وهو يُريد بذلك النِّكاح، فقال ابنُ القَاسِمِ: هو عندي جائزٌ كالبيع عندَ مالكٍ؛ لأنَّ(5) مَنْ قالَ: أهبُ لكَ هذه السِّلعة على أنْ تعطيني كذا وكذا، فهو بيعٌ.
          وقال ابنُ المَوَّازِ: لم يختلف مالكٌ وأصحابه إذا تزوَّج على الهبة أنَّه يُفْسَخُ قبل البناء، واختلفوا إذا دخلَ بها، فقال ابنُ القَاسِمِ وعبدُ الملكِ: لا يُفْسَخُ ولها صَدَاق المثل، وبهذا قال أبو حنيفةَ والثَّوْرِيُّ، وقال أَشْهَبُ وابنُ عبدِ الحَكَمِ وابنُ وَهْبٍ(6) وأَصْبَغُ: أنَّه يُفْسَخُ وإنْ دَخَلَ، قال أَصْبَغُ: لأنَّ فسادَه في البضع، وبهذا قال الشَّافعيُّ، قالَ: لا يصحُّ النِّكاح بلفظ الهبة [ولا ينعقد عنده إلَّا بأحِد لفظين إمَّا: قد أنكحتك أو زوَّجتك، وهو قول المُغِيْرَةِ وابنِ دينارٍ وأبي ثَوْرٍ.
          وحجَّة مَنْ قالَ: لا يصحُّ بلفظ الهبة، أنَّ الله تعالى جعل انعقادَ النِّكاح بلفظ الهبة]
(7) خاصًّا للنَّبِيِّ صلعم فلو انعقد نكاح به لم يقعِ الخصوصُ(8)، ولمَّا أجمعوا أنَّه لا تنعقدُ هبةٌ بلفظِ نكاح، كذلك لا ينعقد نكاحٌ بلفظ هبةٍ، وأيضًا فإنَّ الهبةَ لا تتضمَّنُ العِوَضَ فوجبَ ألَّا ينعقَد به النِّكاحُ كالإحلال والإباحة.
          قال ابنُ القَصَّارِ(9): واحتجَّ(10) أهلُ المقالة الأولى بأنَّ الَّتي وهبت نفسها للنَّبِيِّ ◙ إنَّما قَصَدَت بلفظِ الهبة التَّزويج لرسولِ(11) اللهِ صلعم، ولم يقلْ ◙ أنَّ النِّكاحَ بهذا الَّلفظ لا ينعقدُ، وقولهم: إنَّ لفظَ الهبةِ خاصٌّ للنَّبِيِّ صلعم فإنَّنا(12) نقولُ: إنَّ الخصوصيَّةَ له(13) أنَّه بلا مهرٍ، وليس ذلك لغيره.
          وقولهم(14): أنَّه(15) لمَّا لم تنعقدْ هبةٌ بلفظ نكاحٍ، فكذلك(16) لا ينعقد نكاحٌ بلفظ هبةٍ، فالفرق بينهما أنَّه إذا قال: أنكحتك مملوكتي، فلا يفهم منه أنَّه وهبها(17)، ولا يقع بذلك تمليكٌ(18)، والهبة يقع بها التَّمليك، فافترقا.
          وقولهم: إنَّ الهبةَ لا تتضمَّنُ العِوَض، فإنَّه يبطلُ بقوله(19): قد زوَّجتك على ألَّا مهر، فالنِّكاحُ ينعقدُ عندهم، ولفظ الهبة إذا قصد بها(20) النِّكاح يتضمَّن العِوَض لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ}[الأحزاب:50]، وكذلك الإحلال والإباحة إذا قصد به النِّكاح صحَّ وضُمِّنَ العِوَض عندنا.


[1] زاد في (ز): (({وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ})).
[2] في (ز): ((لمن)).
[3] في (ز): ((فاختلفوا)).
[4] في (ز): ((أو وليَّتي)).
[5] في (ز): ((أنَّه قال)).
[6] في (ز): ((وابن وهب وابن عبد الحكم)).
[7] من قوله: ((لا ينعقد)) إلى قوله: ((الهبة)) ليس في (ز).
[8] زاد في (ز): ((به)).
[9] قوله: ((قالَ ابنُ القصَّار)) ليس في (ص).
[10] في (ص): ((واحتجُّوا)).
[11] في (ز): ((برسول)).
[12] في (ز): ((فإنَّما)).
[13] قوله: ((له)) ليس في (ز).
[14] في (ص): ((وقوله)).
[15] قوله: ((أنَّه)) ليس في (ز).
[16] في (ز): ((وكذلك)).
[17] زاد في (ز): ((له)).
[18] في (ز): ((التَّمليك بذلك)).
[19] في (ز): ((بقولهم)).
[20] في (ز): ((به)).