شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الغيرة

          ░107▒ بَاب الْغَيْرَةِ.
          وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: (لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ. فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لأنَا أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ(1)، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي).
          فيه: ابنُ مَسعُودٍ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ). [خ¦5220]
          وفيه عَائِشَةُ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِي، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا). [خ¦5221]
          وفيه أَسْمَاءُ: قَالَ النَبيُّ صلعم: (لا شَيْءَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ). [خ¦5222]
          وفيه أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِنَّ اللهَ يَغَارُ(2)، وَغَيْرَةُ اللهِ أَنْ لاَ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللهُ). [خ¦5223]
          وفيه أَسْمَاءُ: (تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ في الأرْضِ مِنْ مَالٍ وَلا مَمْلُوكٍ، وَلا شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ، وَغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَسْقِي الْمَاءَ، وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ، وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لي / مِنَ الأنْصَارِ، وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ التي أَقْطَعَهُ النَّبيُّ صلعم على رَأْسِي، وَهي مِنِّي على ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ، فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى على رَأْسِي، فَلَقِيتُ النَّبيَّ صلعم(3) وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَدَعَانِي، ثُمَّ قَالَ: إِخْ، إِخْ، لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ(4) أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ _وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ_ فَعَرَفَ النَّبيُّ صلعم أَنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ، فَمَضَى، فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ، فَقُلْتُ: لَقِيَنِي النَّبيُّ صلعم(5) وَعلى رَأْسِي النَّوَى، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَنَاخَ لأرْكَبَ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ، وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: وَاللهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ، قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بِخَادِمٍ تَكْفِينِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي). [خ¦5224]
          وفيه: أَنَسٌ(6): (كَانَ النَّبيُّ صلعم عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبيُّ صلعم في بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ، فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبيُّ صلعم فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الذي كَانَ في الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: غَارَتْ أُمُّكُمْ) الحديث. [خ¦5225]
          وفيه جَابِرٌ: قَالَ النَّبيُّ صلعم(7): (دَخَلْتُ الْجَنَّةَ(8)، فَأَبْصَرْتُ قَصْرًا، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا: لِعُمَرَ(9)، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي إِلَّا عِلْمِي بِغَيْرَتِكَ، قَالَ عُمَرُ: بأبي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ الله، أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ؟) [خ¦5226]
          وفيه أَبُو هُرَيْرَةَ: (بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبيِّ صلعم جُلُوسٌ فَقَالَ: بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِي في الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إلى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا القصر؟ فقَالُوا: لِعُمَرَ(10)، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، فَبَكَى عُمَرُ..) الحديث(11). [خ¦5227]
          قال المُهَلَّب: وهذه(12) الغيرة التي جاءت في هذه الأحاديث في وصف الله ╡ ليست منه(13) تعالى على حسب(14) ما هي عليه في المخلوقين؛ لأنَّه لا تجوز صفات النقص عليه(15) تعالى، إذ لا تشبه تعالى صفاته صفات المخلوقين، والغيرة في صفاته تعالى بمعنى الزجر عن الفواحش والتحريم لها والمنع منها؛ لأنَّ الغيور هو الذي يزجر عمَّا يغار عليه، وقد بيَّن ذلك بقوله ◙: (ومِنْ غَيْرَتِهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ)، أي: زجر عنها ومنع منها، وبقوله ◙ في حديث أبي هريرة: (وَغَيرَةُ اللهِ أَنْ لَا يَأْتِيَ المُؤمِنُ مَا حَرَّمَ اللهُ)، وقوله في(16) سعدٍ: (لأنَا أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي)، ومعنى ذلك أنَّه لزجورٌ عن المحارم وأنا أزجر منه، والله أزجر من الجميع عمَّا لا يحلُّ، وكذلك قوله: (غَارَت أُمُّكُم)، أي: زجرت عن إهداء ما أهدت صاحبتها.
          قال المُهَلَّب: وأمَّا نقل النوى وسياسة الفرس وخرز الغرب، فلا يلزم المرأة شيءٌ من ذلك إلَّا أن تتطوَّع به، كما تطوَّعت أسماء.
          قال ابن حبيبٍ: وكذلك الغزل والنسج ليس للرجل على امرأته ذلك بحالٍ إلَّا أن تتطوَّع، وليس عليه إخدامها إذا كان معسرًا، وإن كانت ذات قدرٍ وشرفٍ، وعليها الخِدمة الباطنة كما هي على الدنيَّة، وهكذا أوضح لي ابن الماجِشون وأصبغ، وسأتقصَّى مذاهب العلماء في هذه المسألة في كتاب النفقات بعد هذا، إن شاء الله. [خ¦5361]
          قال المُهَلَّب: وفي حديث أسماء من الفقه أنَّ المرأة الشريفة إذا تطوَّعت من خدمة زوجها بما لا يلزمها كنقل النوى وسياسة فرسه(17) أنَّه لا ينكر ذلك عليها(18) أبٌ ولا سلطانٌ.
          وفيه: إرداف المرأة خلف الرجل وحملها في جملة ركب من الناس، وليس في الحديث أنَّها استترت، ولا أنَّ(19) النَبيَّ صلعم أمرها بذلك، فعُلِم منه أنَّ الحجاب إنَّما هو فرضٌ على أزواج النَّبيِّ صلعم خاصَّةً كما نصَّ الله تعالى في القرآن بقوله: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ(20)}[الأحزاب:32].
          وفيه: غيرة الرجل عند ابتذال أهله فيما يشقُّ عليهنَّ من الخدمة، وأنفة نفسه من ذلك، لاسيَّما إذا كانت ذات حسبٍ وأبوَّةٍ، وكذلك عزَّ على النَبيِّ صلعم إفراط امتهانها ولم يلمها على ذلك، ولا وبَّخ / الزبير على تكليفه لها ذلك لما علم من طيب نفسها به.
          وفي حديث القصعة الصبر للنساء على أخلاقهنَّ وعوجهنَّ؛ لأنَّه ◙، لم يوبِّخها على ذلك ولا لامها، ولا زاد على قوله: (غَارَتْ أُمُّكُم)، وقد تقدَّم اختلاف العلماء فيمن استهلك شيئًا لصاحبه هل يلزمه غرم مثله، في كتاب المظالم والغصب عند ذكر حديث القصعة، فأغني عن إعادته. [خ¦2481]
          وفي حديث(21) جابرٍ، أنَّه إذا عُلِم من إنسانٍ(22) خلقٌ، فلا يتعرَّض لما ينافر خلقه ويؤذيه في ذلك الخلق، كما فعل النَّبيُّ صلعم حين لم يدخل القصر الذي كان لعمر لمعرفته بغيرته.
          وفي قوله: (أَعَلَيْكَ أَغَارُ(23) يَا رَسُول الله) أنَّ الرجل الصالح المعلوم الخير(24) والصلاح لا يجب أن يُظَنَّ به شيءٌ(25) من السوء.
          وقوله: (لَضَرَبْتَهُ بِالسَّيفِ غَيرَ مُصْفَحٍ)، هو(26) من صفحة السيف، وهو عرضه. قال ابن قتيبة: يقال(27): أصفحت بالسيف فأنا مُصْفَحٌ، والسيف يُصفَحُ به إذا أنت ضربت بعُرْضِه، وأراد سعدٌ أنَّه لو وجد رجلًا مع أهله لضربه بحدِّ سيفه لا بعُرضه، ولم يصبر إلى(28) أن يأتي بأربعة شهداء، وسيأتي في كتاب الديات(29) الحكم فيمن وجد رجلًا مع امرأته فقتله إن شاء الله.
          وذكر ابن قتيبة في قوله ◙: (فَإذَا اِمْرَأةٌ تَتَوضَّأ إِلَى جَانِبِ قَصْر): ((فإذا امرأةٌ شوهاء إلى جانب قصرٍ))، من حديث ابن شهابٍ، عن سعيد بن المسيِّب، وفسَّره فقال الشوهاء: الحسنة الرائعة، حدَّثني بذلك أبو حاتمٍ، عن أبي عبيدة، عن المنْتَجِع قال: ويقال: فرسٌ شوهاء، ولا يقال للذكر أشوه، ويقال: لا تشوِّه عليَّ، إذا قال: ما أحسنك، أي: لا تصبني بعين. وقال الزبيريُّ: ذكره أبو عليٍّ في «البارع» بفتح التاء والواو وتشديد الواو.
          قال المؤلِّف: ويشبه(30) أن تكون هذه الرواية الصواب. و(تَتَوَضَّأُ) تصحيفٌ، والله أعلم؛ لأنَّ الحور طاهراتٌ ولا وضوء عليهنَّ، وكذلك(31) كلُّ من دخل الجنَّة لا تلزمه طهارةٌ ولا عِبَاْدَةٌ، وحروفُ شوهاء يمكن تصحيفها بحروف (تَتَوَضَّأُ) لقرب صور بعضها من بعض، والله أعلم.


[1] في (ص): ((أغير منه)).
[2] في (ص): ((غيور)).
[3] في (ص): ((فلقيني رسول الله)).
[4] في (ص): ((و اسْتَحْيَيْتُ)).
[5] في (ص): ((رسول الله)).
[6] زاد في (ص): ((قال)).
[7] في (ص): ((الرسول)).
[8] زاد في (ص): ((أو أوتيت)).
[9] زاد في (ص): ((بن الخطاب)).
[10] في (ص): ((لمن هذا؟ قال: هذا لعمر)).
[11] في (ص): ((فَبَكَى عُمَرُ وَهُوَ في الْمَجْلِسِ، ثُمَّ قَالَ: أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللهِ؟!)).
[12] في (ز): ((وغيره)) والمثبت من (ص).
[13] في (ص): ((فيه)).
[14] قوله: ((حسب)) ليس في (ص).
[15] في (ص): ((لأنه لا تجوز عليه صفات النقص)).
[16] زاد في (ص): ((حديث)).
[17] في (ص): ((الفرس)).
[18] في (ص): ((عليها ذلك)).
[19] في (ص): ((ولأن)).
[20] في (ز): ((في القرآن. النبي)) والمثبت من (ص).
[21] قوله: ((القصعة، فأغني عن إعادته. وفي حديث)) ليس في (ص).
[22] في (ص): ((الإنسان)).
[23] في (ص): ((وقوله: أغار عليك)).
[24] في (ص): ((المعروف بالخير)).
[25] في (ص): ((شيئًا)).
[26] في (ص): ((وهو)).
[27] قوله: ((يقال)) ليس في (ص).
[28] قوله: ((إلى)) ليس في (ص).
[29] بل في كتاب الحدود [خ¦6846].
[30] في (ص): ((يشبه)).
[31] في (ص): ((فكذلك)).