شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب النظر إلى المرأة قبل التزويج

          ░35▒ بَابُ النَّظَرِ إِلَى المَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ
          فيهِ عَائِشَةُ: قَالَ لِي(1) النَّبِيُّ صلعم: (أُرِيْتُكَ في المَنَامِ يَجِيءُ بِكِ المَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ لِي(2): هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَكَشَفْتُ(3) عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ، فَإِذَا هِيَ أَنْتِ، فَقُلْتُ: إِنْ يَكن هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ يُمْضِهِ). [خ¦5125]
          وفيهِ سَهْلٌ قَالَ(4): (جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلعم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ(5)، جِئْتُ لأَهَبَ(6) نَفْسِي لَكَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صلعم فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا(7) وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ) الحديثَ. [خ¦5126]
          ذهب جمهور العلماء إلى أنَّه لا بأس بالنَّظر إلى المرأة إذا أراد أنْ يتزوَّجها، وهو قول مالكٍ والثَّوْرِيِّ والكوفيِّين(8) والشَّافعيِّ وأحمدَ، وقالوا: لا(9) ينظر إلى غير وجهها وكفَّيها، وقال الأوزاعيُّ: ينظر إليها ويجتهد وينظر إلى مواضع اللَّحم، وحجَّتهم أنَّ النَّبِيَّ صلعم نظر إلى المرأة الَّتي وهبته نفسها وأراه اللهُ عائشةَ في منامه قبل تزويجه بها.
          قال الطَّحَاوِيُّ: ومِنْ حجَّتهم / ما حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ شُعَيْبٍ، قال: حدَّثنا يحيى بنُ حَسَّانَ حدَّثنا أبو شِهَابٍ الحَنَّاطُ عن الحَجَّاجِ بنِ أرطأةَ عن مُحَمَّدِ بنِ سُلَيْمَانَ بنِ أبي حَثْمَةَ قال: رأيت مُحَمَّدَ بنَ مَسْلَمَةَ يطارد ثبيتة بنت(10) الضَّحَّاكِ فوق إجارٍ(11) لها ببصره طردًا شديدًا، فقلت: أتفعل هذا وأنت مِنْ أصحاب رسول اللهِ صلعم؟ قال: سمعتُ(12) النَّبِيَّ صلعم يقول: ((إِذَا أُلْقِيَ فِي قَلْبِ امرئٍ خِطْبَةُ امْرَأَةٍ فَلَا بَأَسَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا)).
          وروى أبو مُعَاوِيَةَ عن عَاصِمِ الأَحْوَلِ عن بَكْرِ بنِ عبدِ اللهِ عن المُغِيْرَةِ بنِ شُعْبَةَ قال: ((خَطَبْتُ امْرَأَةً، فَقَالَ لِي النَّبيُّ صلعم: هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَانْظُرْ، فإنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَّمَ بَيْنَكُمَا))، ففي هذه الأحاديث إباحة النَّظر إلى وجه المرأة لِمَنْ أرادَ نكاحها، رواه(13) أبو حُمَيْدٍ وأبو هريرةَ وجابرٌ عَنِ النَّبي صلعم.
          واحتجَّ الشَّافعيُّ بأنْ(14) ينظرَ إليها بإذنها وبغير إذنها إذا كانت مستترةً لقوله(15) تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}[النُّور:31]، قال: الوجه والكفَّان، وخالفهم آخرون، وقالوا: لا يجوز لِمَنْ أراد نكاح امرأةٍ ولا لغيره أنْ ينظر إليها إلَّا أنْ يكونَ زوجًا لها أو ذا محرمٍ منها، ووجهها وكفَّاها عورةٌ بمنزلة جسدها، واحتجُّوا بحديث ابنِ إِسْحَاقَ عن مُحَمَّدِ بنِ إبراهيمَ عن سَلَمَةَ بنِ أبي طُفَيْلٍ(16) عن عليِّ بنِ أبي طَالِبٍ: ((أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ لَهُ: يَا عليُّ، لَا تُتْبِعْ بالنَّظْرَةِ(17) النَّظْرَةَ، فَإِنَّما لَكَ الأُوْلَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةَ)).
          قالوا: فلمَّا حرَّم رسولَ الله صلعم النَّظرة الثَّانية؛ لأنَّها تكوُن باختيار النَّاظر، وخالف بين حكمها وحكم(18) ما قبلها إذا كانت بغير اختيارٍ مِنَ النَّاظرِ، دلَّ على أنَّه ليس لأحدٍ أنْ ينظرَ إلى وجه امرأةٍ إلَّا أنْ تكونَ زوجةً(19) أو ذات محرمٍ.
          واحتجَّ عليهم أهلُ المقالة الأولى أنَّ الَّذي أباحه النَّبِيُّ صلعم في الآثار الأوَّل هو النَّظر للخطبة لا لغير ذلك، وذلك نظرٌ لسببٍ هو حلالٌ، ألا ترى لو أنَّ رجلًا(20) نظر إلى وجه امرأةٍ لا نكاح بينه وبينها ليشهد عليها أو لها أنَّ ذلك جائزٌ، وكذلك إذا نظر إلى وجهها ليخطبها، فأمَّا المنهيُّ عنه فالنَّظر إلى غير(21) الخطبة ولغير ما هو حلالٌ.
          ورأيناهم لا يختلفون في نظر الرَّجل إلى صدر(22) الأَمَة إذا أراد ابتياعها(23) أنَّ ذلك له جائزٌ حلالٌ، ولو نظر إليها(24) لغير ذلك كان(25) عليه حرامًا، فكذلك نظره إلى وجه المرأة إنْ كانَ فعلَ ذلك لمعنًى هو حلالٌ فهو غير مكروهٍ.
          وإذا ثبت أنَّ النَّظر إلى وجه المرأةِ لخطبتها حلالٌ خرجَ بذلك حكمه مِنْ حكم العورة؛ لأنَّا رأينا ما هو عورةٌ لا يُباح لِمَنْ(26) أراد نكاحها النَّظر إليه، ألا ترى أنَّه(27) مَنْ أرادَ نكاح امرأةٍ فحرامٌ عليه النَّظر إلى شعرها أو إلى(28) صدرها أو إلى(29) ما أسفل مِنْ(30) ذلك مِنْ بدنها، مِمَّا(31) يحرم ذلك منها على مَنْ لم يرد نكاحها، فلما ثبت أنَّ النَّظر إلى وجهها حلالٌ لِمَنْ أراد نكاحها، ثبت أنَّه حلالٌ أيضًا لِمَنْ لم يرد نكاحها إذا لم يقصد(32) بنظره ذلك(33) إلى معنًى هو عليه حرامٌ، وقد قال المفسِّرون في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}[النُّور:31]، أنَّ ذلك المستثنى هو الوجه والكفَّان.


[1] قوله: ((لي)) ليس في (ز).
[2] قوله: ((لي)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((وكشف)).
[4] قوله: ((قال)) ليس في (ز).
[5] قوله: ((يا رسولَ الله)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((لأهدي)).
[7] قوله: ((إليها)) ليس في (ص).
[8] في (ز): ((والكوفيِّين والثَّوريِّ)).
[9] في (ز): ((قالوا ولا)).
[10] في (ص): ((نبيهة ابنة)).
[11] في (ص): ((جدار)).
[12] في (ز): ((فقال إنِّي سمعت)).
[13] في (ز): ((ورواه)).
[14] في (ز): ((بأنَّه)).
[15] في (ص): ((وبغير إذنها بقوله)).
[16] في المطبوع: ((الطُّفيل))، وفي (ص): ((عن مسلمة عن أبي الطُّفيل)).
[17] في (ز): ((النَّظرة)).
[18] في (ز): ((بين حكمهما وبين حكم)).
[19] زاد في (ز): ((له)).
[20] في (ز): ((أنْ لو رجلًا)).
[21] في (ز): ((لغير)).
[22] في (ص): ((صورة)).
[23] في (ز): ((أنْ يبتاعها)).
[24] قوله: ((إليها)) ليس في (ز).
[25] زاد في (ز): ((ذلك)).
[26] في (ز): ((إنْ)).
[27] في (ز): ((أنَّ)).
[28] في (ز): ((وإلى)).
[29] في (ز): ((وإلى)).
[30] قوله: ((من)) ليس في (ص).
[31] في (ز): ((كما)).
[32] في (ز): ((إذا كان لا يقصد)).
[33] قوله: ((ذلك)) ليس في (ص).