شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا تزوج الثيب على البكر

          ░101▒ بَاب إِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ على الْبِكْرِ.
          فيه أَنَسٌ: (إنَّ مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ على الثَّيِّبِ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ قَسَمَ. وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولُ(1): إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إلى النَّبيِّ صلعم). [خ¦5214]
          اختلف العلماء في هذا الباب، فقالت طائفةٌ: يقيم عند البكر سبعًا وعند الثيِّب ثلاثًا إذا كانت له امرأةٌ أخرى(2) أو أكثر على نصِّ هذا الحديث، ثمَّ يقسم بينهنَّ ولا يقضي المتقدِّمات بدل ما أقام عند الجديدة، هذا قول مالكٍ والشافعيِّ وأحمد وإسحاق وأبي ثورٍ وأبي عبيدٍ، واحتجُّوا بحديث أنسٍ.
          وقال ابن المسيِّب والحسن: للبكر ثلاثًا، وللثيِّب ليلتين، وهو قول الأوزاعيِّ قال: إذا تزوَّج البكر على الثيِّب مكث ثلاثًا، وإذا تزوَّج الثيِّب على البكر أقام يومين.
          وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يقيم عند البكر إلَّا كما يقيم عند الثيِّب، وهما سواءٌ في ذلك، واحتجُّوا بحديث أمِّ سلمة: ((أنَّ النبيَّ صلعم قال لها: إن شئت سبَّعت عندك وسبَّعت عندهنَّ، وإن شئت ثلَّثت ودرت، قالت: ثلِّث ودر(3)))، قالوا: فلم يعطها في السبع شيئًا إلَّا أعلمها أنَّه يعطي غيرها مثله(4)، فدلَّ ذلك على المساواة بينهنَّ.
          قالوا: وكذلك قوله: ((وإن شئت ثلَّثت ودرت))، أي أدور(5) مثلِّثًا أيضًا لهنَّ، كما أدور مسبِّعًا إن سبَّعت لك(6)، قالوا: ولو استحقَّت الثيِّب ثلاثة أيَّام قسمةً لها لوجب إذا سبَّع عندها أن يربِّع لهنَّ.
          وقال لهم أهل المقالة الأولى: قوله(7) ◙: ((ليس بك على أهلك هوانٌ))، يدلُّ أنَّه رأى منها أنَّها استقلَّت الثلاث التي هي حقُّ الثيِب، فآنسها ◙ بقوله: ((ليس بك على أهلك هوانٌ))، أي لست(8) أقسم ثلاثًا لهوانك عندي، وإنَّما أقسمها لك لأنَّه حقُّ الثيِّب، وخيَّرها بين أعلى حقوق النساء وأشرفها عندهنَّ وهي السبع وبين الثلاث، على شرط أنَّها(9) إن اختارت السبع قسم لكلِّ ثيِّبٍ مثلها، وإن اختارت الثلاث(10) التي هي حقُّها لم يقسم لغيرها مثلها، فرأت أنَّ الثلاث التي هي حقُّها أفضل لها، إذ لا يقسم لغيرها مثلها ولسرعة رجوعه إليها، فاختارتها وطابت نفسها عليها، ورأت أنَّها أرجح عندها من أن يسبِّع عندها على أن يسبِّع عند غيرها.
          وفي هذا ضربٌ من اللطف والرفق بمن يخشى منه كراهية قبول(11) الحقِّ حتَّى يتبيَّن له فضله ويختار الرجوع إليه، وممَّا يبطل قول الكوفيِّين أنَّه إن ثلَّث عندها ثلَّث عندهنَّ ثمَّ يستأنف القسم أنَّه ◙ لمَّا ذكر السبع قرنها بالقضاء، فقال: ((سبَّعت عندك وسبَّعت عندهنَّ))، ولمَّا ذكر الثلاث لم يقرنها بالقضاء؛ لأنَّ الدوران عليهنَّ يقتضي ابتداء قسمٍ لا قضاء، فسقط قولهم، هذا قول ابن القصَّار، قال: وقد خالف الكوفيُّون حديث أمِّ سلمة؛ لأنَّ النبيَّ صلعم قال لها: ((إن شئت سبَّعت عندك))، فجعل لها الخيار في القسم، وأبو حنيفة يجعل الخيار للزوج(12)، وفي هذا مخالفة الخبر.
          قال أحمد بن خالدٍ: وهذا(13) الباب عجبٌ؛ لأنَّه صار فيه أهل المدينة إلى ما رواه أهل العراق؛ لأنَّ حديث / أنسٍ حديثٌ بصريٌّ، وصار فيه أهل العراق إلى ما رواه أهل المدينة، وقول أهل المدينة أولى؛ لقول أنسٍ: ((السنَّة للبكر سبعٌ، وللثيِّب ثلاثٌ))، والصحابيُّ إذا ذكر السنَّة بالألف واللام(14) أشار إلى سنَّته ◙، واللام في قوله: ((للبكر سبعٌ وللثيِّب ثلاثٌ))، لام الملك، فدلَّ أنَّ ذلك حقٌّ من حقوقها، فمحالٌ أن يحاسبها بذلك، وقول ابن المسيِّب والحسن خلاف الآثار، فلا معنى له.


[1] في (ص): ((شئت قلت)).
[2] قوله: ((أخرى)) زيادة من (ص).
[3] في (ص): ((ودور)).
[4] في (ص): ((مثلها)).
[5] في (ص): ((دورا)).
[6] قوله: ((لك)) زيادة من (ص).
[7] في (ص): ((قول النبي)).
[8] في (ص): ((ليس)).
[9] قوله: ((أنها)) ليس في (ص).
[10] قوله: ((الثلاث)) ليس في (ص).
[11] في (ص): ((كراهة سؤال)).
[12] في (ص): ((إلى الزوج)).
[13] في (ص): ((هذا)).
[14] زاد في (ص): ((فإنما)).