التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب بيع الميتة والأصنام

          ░112▒ بَابُ: بَيْعِ المَيْتَةِ وَالأَصْنَامِ.
          2236- ذكر فيه حديث يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ: (عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِر: أَنَّهُ: سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ عَامَ الفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ، وَالمَيْتَةِ وَالخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ، فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: لاَ، هُوَ حَرَامٌ. ثمَّ قَالَ النَّبيُّ صلعم عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ إِنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا أَجْمَلُوهُ ثمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمنَهُ).
          (وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ، حدَّثنا عَبْدُ الحَمِيدِ، حدَّثنا يَزِيدُ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ عَطَاءٌ، سَمِعْتُ جَابِرًا، عَنِ النَّبيِّ صلعم نَهَى عَنْ بَيْعِ الخَمْرِ).
          الشَّرح: حديثُ جابر أخرجه مسلم، وتعليقُ أبي عاصم أخرجه مسلم عن محمَّد بن مثنًّى عن أبي عاصم به، و(أَبُو عَاصِمٍ) هو الضَّحَّاك بنُ مَخْلَدٍ النَّبيلُ.
          و(عَبْدُ الحَمِيدِ) هو ابن جعفرِ بن عبد الله بن أبي الحَكم رافعِ بن سِنانٍ حليفِ الأنصار، مات سنة ثلاث وخمسين ومئة بالمدينة، حدَّث هو وابنه سعدٌ، وأبوه جعفرٌ، وجدُّه أبو الحَكم رافعٌ وله صُحبة، وابن عمِّه عمرُ بن الحَكم بن رافعِ بن سِنانٍ، وهو مِنْ ولد الفِطْيَوْنِ مِنْ ولد مخرقِ بن عمرٍو مزيقِيا، وقيل: الفِطْيَونُ مِنَ اليهود، وليس مِنْ ولد مخرق كان يهوديًّا وولده فخذُ على حدتهم يهود بالمدينة منفردون عن سائر بني مخرق، وقيل: إنَّه ليس مِنْ ولد الفِطْيَون وقد طُعن في نسبهم.
          إذا علمت ذلك فالإجماع قائمٌ على أنَّه لا يجوز بيع الميتة والأصنام، لأنَّه لا يحلُّ الانتفاع بها، ووضعُ الثَّمن فيها إضاعةُ مالٍ وقد نُهي عن إضاعته.
          قال ابن المنذِر: فإذا أجمعوا على تحريم بيع الميتة فبيعُ جيفة الكافر مِنْ أهل الحرب كذلك، وقد سلف فيه حديثٌ، فإن قلتَ: فما وجهُ الجواب المذكور لمَّا سُئِلَ عن شحوم الميتة، فأجاب بما ذُكر؟
          فالجواب أنَّ وجهَه أنَّه كان عن مسألته عن بيع الشُّحوم لا عن دُهنِ الجلود والسُّفن، وإنَّما سأله عن بيع ذلك إذْ ظنَّه جائزًا / مِنْ أجلِ ما فيه مِنَ المنافع كما جاز بيعُ الحمر الأهليَّة لما فيها مِنَ المنافع وإن حرُم أكلُها، فظنَّ أنَّ شحوم الميتة مثلُ ذلك يحلُّ بيعُها وشراؤها، وإن حرُم أكلها، فأخبره صلعم أنَّ ذلك ليس كالَّذي ظنَّ، وأنَّ بيعَها حرامٌ وثمنَها حرامٌ إذ كانت نَجسةً، نظيرُه الدَّمُ والخمرُ فيما يحرُم مِنْ بيعها وأكلِ ثمنها، فأمَّا الاستصباحُ ودهنُ السُّفن والجلود بها فهو يخالف بيعَها وأكلَ ثمنها، إذ كان ما يُدهَن بها مِنْ ذلك يُغسل بالماء غَسْلَ الشَّيء الَّذي أصابته النَّجاسةُ، فيطهِّرُه الماءُ.
          هذا قولُ عطاءِ بن أبي رباح وجماعةٍ مِنَ العلماء، وممَّن أجاز الاستصباحَ بما تقع فيه الفأرة عليٌّ وابن عبَّاس وابن عمر كما سيأتي واضحًا في الذَّبائح في باب: إذا وقعت الفأرة في سمنٍ جامد أو ذائب، وقال القُرْطُبيُّ: اختُلف في جواز بيع كلِّ محرَّم نجسٍ فيه منفعةٌ كالزِّبل والعَذِرَةِ، فمَنعَ مِنْ ذلك الشَّافعيُّ ومالكٌ وأجازه الكوفيُّون والطَّبريُّ، وذهب آخرون إلى إجازة ذلك مِنَ المشتري دون البائع، ورأَوا أنَّ المشتري أعذرُ مِنَ البائع، لأنَّه مضطرٌّ إلى ذلك، رُوِيَ ذلك عن بعض أصحابنا.
          وقوله: (إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ) فيه جوازُ قول ذلك، وقال بعضُ النَّاس: إنَّما يُقال: إنَّ الله ثمَّ إنَّ رسولَه ولا يُنْسَقُ عليه.
          وقوله: (حَرَّمَ) إنَّما قال: (حَرَّمَ) ولم يقل: حرَّما لأنَّ التَّقدير أنَّ الله حَرَّمَ ورسولَه حَرَّمَ، كقوله:
نَحْنُ بما عِنْدَنا وأَنْتَ بما                     عِنْدَكَ راضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
          وقال الدَّاوُديُّ: إنَّما وحَّد، يعني أنَّ الله حرَّم على لسان رسوله ◙ فأخلص ذلك لله لأنَّه إنَّما يقوله بأمره. وبيعُ الخمر حرامٌ بالإجماع كما سلف، ولا شيء في إراقتها لذمِّيٍّ عندنا خلافًا لمالكٍ، ووافقَنا عبدُ الملك، والميتةُ تعمُّ جميع ما احتوت عليه مِنْ قرنٍ ولحمٍ ودمٍ وعظمٍ وجلدٍ، إلا أنَّ الجلدَ إذا دُبغ ينتفع به كما سلف، والخِنزير قد سلف حكمُه، وسلف حكمُ شَعرِه.
          والأصنام لا يصحُّ بيعُها وإن كانت مِنْ جوهرٍ نَفيسٍ، وقال ابنُ التِّين: بيعُها ما دامت مصوَّرةً ممنوعٌ، فإذا طُمست صورُها جاز بيعُها كانت فضَّةً أو نحاسًا أو حَجرًا، والنَّهيُ في الشُّحوم منصبٌّ عند أكثر العلماء إلى البيع دون الانتفاع، وأجاز أبو حنيفة بيعَ شحومِ الميتةِ وخالف الحديثَ، ونحا إليه ابنُ وَهْبٍ وسلف، واستدلَّ الخطَّابيُّ بجواز الانتفاعِ بإجماعهم أنَّ مَنْ ماتت له دابَّةٌ ساغ له إطعامُها لكلابه، فكذلك الدُّهن وظاهر كلام عبد الملك منعُه. وأَجْمَلَهُ: لغةٌ في جَمَلَهُ كما سلف.