التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب بيع المزابنة

          ░82▒ بَابُ: المُزَابَنَةِ، وَهِيَ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالكَرْمِ، وَبَيْعُ العَرَايَا.
          وَ قَالَ أَنَسٌ: نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنِ المُزَابَنَةِ، وَالمُحَاقَلَةِ.
          2183- 2184- ذَكر فيه حديثَ سالم، عن ابن عمر: (لاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ حتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ، وَلاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ).
          (قَالَ سَالِمٌ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ العَرِيَّةِ بِالرُّطَبِ، أَوْ بِالتَّمْرِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِهِ).
          2185- وحديثَ نافع عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم نَهَى عَنِ المُزَابَنَةِ)، وَالمُزَابَنَةُ: اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا، وَبَيْعُ الكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا.
          2186- وحديثَ أَبِي سُفْيَانَ، مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم نَهَى عَنِ المُزَابَنَةِ، وَالمُحَاقَلَةِ، وَالمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ فِي رُؤُوسِ النَّخْلِ).
          2187- وحديثَ ابن عبَّاس (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم عَنِ المُحَاقَلَةِ، وَالمُزَابَنَةِ).
          2188- وحديثَ نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابتٍ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَرْخَصَ لِصَاحِبِ العَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا).
          ░83▒ بَابُ: بَيْعِ الثَّمَرِ عَلَى رُؤُوسِ النَّخْلِ بِالذَّهَبِ والفِضَّةِ.
          2189- ذَكر فيه حديثَ عَطَاءٍ، وَأَبِي الزُّبَير، (عَنْ جَابِرٍ: نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حتَّى يَطِيبَ، وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْه إِلَّا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، إِلَّا العَرَايَا).
          2190- وحديثَ أَبِي سُفْيَانَ، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم رَخَّصَ فِي بَيْعِ العَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ).
          2191- (حدَّثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حدَّثنا سُفْيَانُ، قَالَ: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: سَمِعْتُ بُشَيْرًا عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي العَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا، يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا / رُطَبًا).
          (وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً أُخْرَى: إِلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي العَرِيَّةِ يَبِيعُهَا أَهْلُهَا بِخَرْصِهَا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا، قَالَ: هُوَ سَوَاءٌ، قَالَ سُفْيَانُ: فَقُلْتُ لِيَحْيَى: وَأَنَا غُلاَمٌ إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ النَّبيَّ صلعم رَخَّصَ فِي بَيْعِ العَرَايَا فَقَالَ: وَمَا يُدْرِي أَهْلَ مَكَّةَ؟ قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَرْوُونَهُ عَنْ جَابِرٍ، فَسَكَتَ، قَالَ سُفْيَانُ: إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنَّ جَابِرًا مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، قِيلَ لِسُفْيَانَ: وَلَيْسَ فِيهِ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ؟ قَالَ: لاَ).
          ░84▒ بَابُ: تَفْسِيرِ العَرَايَا.
          (وَقَالَ مَالِكٌ: العَرِيَّةُ: أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ النَّخْلَةَ، ثمَّ يَتَأَذَّى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ، فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْه بِتَمْرٍ وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: العَرِيَّةُ: لاَ تَكُونُ إِلَّا بِالكَيْلِ مِنَ التَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ، لاَ يَكُونُ بِالْجِزَافِ وَمِمَّا يُقَوِّيهِ قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: بِالأَوْسُقِ المُوَسَّقَةِ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فِي حَدِيثِهِ عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ: كَانَتِ العَرَايَا: أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ فِي مَالِهِ النَّخْلَةَ، وَالنَّخْلَتَيْنِ وَقَالَ يَزِيدُ: عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ: العَرَايَا: النَّخْلُ كَانَتْ تُوهَبُ لِلْمَسَاكِينِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْتَظِرُوا بِهَا، فَرُخِّصَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهَا بِمَا شَاؤوا مِنَ التَّمْرِ).
          2192- ثمَّ ساق حديثَ (مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم رَخَّصَ فِي العَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلًا.
          قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: العَرَايَا: نَخَلاَتٌ مَعْلُومَاتٌ تَأْتِيهَا فَتَشْتَرِيهَا).
          الشَّرح: أمَّا حديثُ أنسٍ المعلَّقُ فقد سلف، ويأتي مسندًا في باب: بيع المخاضَرة، وهو مِنْ أفراده، وأمَّا حديثُ ابن عمر فأخرجه مسلم، وكذا حديثُ زيد بن ثابت وابن عمرَ في المزابَنة سلف. وحديثُ أبي سعيد أخرجه مسلم.
          وأبو سُفيانَ مولى ابنِ أبي أحمد اسمُه وَهْب، وقال مالك: قُزْمانُ مولى ابن أبي أحمدَ بن جحشٍ الشَّاعر ويُقال: كان له انقطاع إلى ابن جحشٍ فنُسب إلى ولائهم، وقيل: هو مولى بني عبد الأَشْهل.
          وحديثُ ابن عبَّاس مِنْ أفراده، وحديثُ جابرٍ أخرجه مسلمٌ، وكذا حديثُ أبي هريرة، ومِنْ تراجم البخاريِّ عليه فيما سيأتي: باب: الرَّجل يكون له ممرٌّ أو شِرْب في حائط أو في نخل.
          وحديث سهلٍ أخرجه مسلم أيضًا.
          و(حَثْمَةَ) بالثَّاء المثلَّثة، واسمُ أبي حَثْمَةَ عبدُ الله، وقيل: عامر، وكان دليلَه _◙_ إلى أُحد، وكان بعثه إلى خيبرَ هو وأبو بكر وعمر وعثمان للخرص، توفي رسول الله صلعم ولولده سهلٍ ثماني سنين وقد حفظ عنه.
          و(بُشَيْر) بضمِّ الموحَّدة. والوَسْق ستُّون صاعًا. والصَّاع: أربعة أمداد والمُدُّ: رِطْلٌ وثلثٌ.
          وقوله: (وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ...) إلى آخره، هو الإمام محمَّد بن إدريس الشَّافعيِّ، كما نبَّه عليه الحافظ المِزِّيُّ، وأنَّ له هذا الموضع وموضعًا آخر سَلف في الزَّكاة.
          وقال ابن التِّين فيهما: قيل هو الشَّافعيُّ، وقيل _وهو الأكثر_: هو عبد الله بن إدريسَ الأَوْديُّ الفقيه الكوفيُّ.
          وقوله: (وَمِمَّا يُقَوِّيهِ) ذكرَ ابنُ بَطَّال أنَّه مِنْ قول البخاريِّ، وكذا ابن التِّين فقال: احتجاج البخاريِّ له بقولِ سهلٍ لا دليلَ فيه، لأنَّها تكون مؤجَّلة، وإنَّما يشهد له قولُ سفيانَ بن حسين المذكورُ بعدُ، وصرَّح مَنْ سلف أنَّه مِنْ تتمَّة كلام الشَّافعيِّ، قال ابن بَطَّال: وهو إجماعٌ مستغنٍ عن تقوية، ولم يأتِ ذكرُ الأوساق الموسَّقة إلَّا في حديث مالكٍ، عن داودَ بن الحُصَيْن، وفي حديث جابرٍ مِنْ رواية ابنِ إسحاقَ، لا في رواية ابن أبي حَثْمةَ، وإنَّما يُروى عن سهلٍ مِنْ قولِه، مِنْ رواية اللَّيث عن جعفرِ بن أبي ربيعةَ عن الأعرجِ عن سهلٍ: لا يُباع التَّمر في رؤوس النَّخل بالأوساق الموسَّقة إلَّا أوسقٍ ثلاثةٍ أو أربعةٍ أو خمسةٍ يأكلُها النَّاس، وهي المزابَنة ففي قول سهلٍ حجَّة لمالكٍ في مشهور قوله: إنَّه يجوز العَرايا في خمسة أوسُقٍ، وقد يجوز أن يكون الشَّكُّ في دونِ خمسة أوسُقٍ، واليقينُ في خمسةٍ، إذ الواوُ لا تعطي رُتبةً.
          وقوله: (وَقَالَ يَزِيدُ) هو ابن هارونَ أبو خالدٍ السُّلَميُّ، وسُفيان بن حسين سُلَميٌّ أيضًا أبو محمَّد، وقيل: أبو المؤمِّل، روى له الجماعةُ إلَّا البخاريَّ فاستَشهد به، وروى له مسلم في مقدَّمة كتابه، وشيخُ شيخِ البخاريِّ في الحديث الأخير (عَبْدُ اللهِ) هو: ابنُ المباركِ الإمامُ، وشيخ البخاريِّ مُحَمَّدٌ هو: ابن مُقاتِلٍ أبو الحسن المَرْوَزيُّ، مات سنة ستٍّ وعشرين ومئتين.
          إذا عرفتَ ذلك: (فالمُزَابَنَةُ) مفاعَلة لا تكون إلَّا بين اثنين، مِنَ الزَّبْنِ، وهو الدَّفعُ الشَّديدُ، ومِنْه الزَّبانِيَةُ، وقيل: مِنَ الحظر، أي: التَّحريم، وهي بيعُ الرُّطَب على رؤوس النَّخل بتمرٍ على وجه الأرض، ومثلُه بيعُ العِنب في الكرم بالزَّبيب، لأنَّ الغَبْنَ فيها يكثُرُ، لبنائها على التَّخمين، فيريدُ المغبونُ دَفْعَه والغابنُ إمضاءَه فيتدافعان. ووجهُ البُطلان أنَّه بيعُ مال الرِّبا بجنسه مِنْ غير تحقيقِ المساواةِ في المعيار الشَّرعيِّ، وهو الكيلُ، وذلك إجماع.
          قال الدَّاوُديُّ: كانوا قد كثُر فيهم المدافَعة بالخِصام، فسُمِّي مزابَنةً، ولمَّا كان كلُّ واحدٍ مِنَ المتبايعين يدفعُ الآخر في هذه المبايَعة عن حقِّه سُمِّيت بذلك، وفي «الجامع» للقزَّاز: المزابَنة: كلُّ بيعٍ فيه غَرَرٌ، وهو بيعُ كلِّ جِزاف لا يُعلم كيلُه ولا وزنُه ولا عددُه، وأصلُه أنَّ المغبونَ يريدُ أن يفسَخ البيعَ، ويريدُ الغابنُ ألَّا يفسخه، فيتزابَنان عليه، أي: يتدافعان.
          وعند الشَّافعيَّ: هو بيعُ مجهولٍ بمجهولٍ، أو معلومٍ مِنْ جنسٍ يحرُم الرِّبا في نقده، وخالفَه مالكٌ في هذا القيد فقال: سواء كان ممَّا يحرُم الرِّبا في نقده أو لا، مطعومًا كان أو غيرَ مطعوم. وعبارة ابن الجلَّاب: إنَّها بيعُ معلومٍ بمجهول مِنْ جنسه. زاد القاضي في «معونته»: أو مجهولٍ بمجهول، وذكر ابنُ جَريرٍ اختلافَ العلماء في معناها، فقال قوم: هي بيع ما في رؤوس النَّخل بالتَّمر / وكذا ذكر ابن فارس وهو ما في البخاريِّ، وقال آخرون: هو بيع السُّنْبُل القائم بالحنطة. وقيل: هي بيع الثَّمر قبل بدوِّ صلاحِه. وقال قوم: هي المزارَعة.
          وقام الإجماع على المنع مِنْ بيع ما على رؤوس النَّخل بثمر، لأنَّه مزابنةٌ وقد نُهِيَ عنه. واختلفوا في بيع رُطَب ذلك مقطوعًا وأمكن فيه المماثلةُ، فالجمهورُ على المنعِ أيضًا بجنسه لا مماثلةً ولا متفاضلًا، وبه قال أبو يوسفَ ومحمَّد، وقال أبو حنيفة: يجوز بيعُ الحِنطة الرَّطْبة باليابسة، والتَّمر بالرُّطَب مِثْلًا بمثل، ولا نُجيزُه متفاضلًا.
          قال ابن المنذِر: وأظنُّ أبا ثورٍ وافقَه، ولا خلافَ بين العلماء أنَّ تفسير المزابَنة في هذا الحديث مِنْ قول ابن عمر، أو مرفوعًا كما قال ابنُ عمر، وأقلُّ ذلك أن يكون مِنْ قوله، وهو راويه، كيف ولا مخالفَ فيه؟ قال: وقام الإجماعُ على تحريمِ بيع العِنب بالزَّبيب، وعلى تحريم بيع الحِنطة في سُنبُلِها بصافيةٍ، وهو المحاقَلة وسواء عند الجمهور كان الرُّطَب والعنبُ على الشَّجر أو مقطوعًا.
          فرع: عندنا حكمُ الرُّطَب على الأرض والتَّمرِ على رؤوس النَّخل كعكسه، ولو باع الرُّطَب على رؤوس النَّخل بالبُسْرِ أو البَلَحِ على الأرض فهو كبيعه بالرُّطَبِ، ولو باعَه بالطَّلْع ففيه ثلاثةُ أوجهٍ في الماوَرْديِّ، ثالثها: يجوزُ بِطَلْعِ الذَّكَر دون طلعِ الإناث. وأمَّا العَرَايَا فهي مستثناة مِنَ المزابنة، وهو جمعُ عَرِيَّةٍ، وهي ما يُفْرِدُها صاحبُها للأكل، فَعِيلَةٌ بمعنى فاعلةٍ، لأنها عُرِّيت عن حكم ما في البستان، وقيل: بمعنى مفعولة، لأنَّ صاحبها يَعْرُوها، أي يأتيها، قاله الجوهريُّ. والعَرِيَّةِ أيضًا: النَّخلة المُعْراة، وهي الَّتي وُهِبتْ ثمرةُ عامِها، والعَريَّة أيضًا: الَّتي تُعزل عن المساوَمة عند بيع النَّخل. وقيل: هي النَّخلة الَّتي أُكل ما عليها، واستعرى النَّاس في كلِّ وجهٍ: أكلوا الرُّطَب مِنْ ذلك، وأنتَ مُعْرٍ، وأُدخلت فيها الهاء، لأنَّها أُفردَت فصارت في عِداد الأسماء كالأَكيلة والنَّطيحة، وعَرَاه يَعْرُوه إذا أتاه يطلب مِنْه عريَّةً، وأعراه: أعطاه إيَّاها، وهي اسم للنَّخلة المعطى ثمرُها، كما قالوا: المَنيحة للشَّاة تُعطى للَّبن، وفسَّرها مالكٌ وأحمدُ وإسحاقُ والأوزاعيُّ بأنَّها إعطاءُ الرَّجل مِنْ جملة حائطِه نخلةً أو نخلتين عامًا على ما اقتضاه أهل اللُّغة، غير أنَّهم اختلفوا في شروطٍ لها وأحكام.
          وحاصلُ مذهبِ مالكٍ أنَّها عطيَّةُ تمرِ نخلةٍ أو نخلات مِنْ حائط، فيجوزُ لِمَنْ أُعطيَها أن يبيعَها إذا بدا صلاحُها مِنْ كلِّ أحدٍ بالعين والعُروض ومِنْ معطيها خاصَّةً بخِرصها تمرًا، وذلك بشرط أن يكون أقلَّ مِنْ خمسة أوسُق، وفي الخمسة أوسقٍ خلافٌ، وأن يكون خِرصُها مِنْ نوعها ويابسها نخلًا وعِنبًا، وفي غيرهما ممَّا يُوسق ويدَّخر للقوت خلافٌ، وأن يقوم بالخَرص عند الجِداد، وأن يشتريَ كلَّها لا بعضَها، وأن يكون بيعُها عند طِيبها، فلو باعَها مِنَ المُعْرِي قبلَه على شرط القطعِ لم يجزْ، لتعدِّي محلِّ الرُّخصة.
          وأمَّا أبو حنيفة فإنَّه فسَّرها بما إذا وَهب رجلٌ تمر نخلةٍ أو نخلاتٍ ولم يقبضْها الموهوبُ له، فأراد الواهبُ أن يعطيَ الموهوبَ له تمرًا، أو يتمسَّك بالثَّمرة جاز له ذلك، إذ ليس مِنْ باب البيع، وإنَّما هو مِنْ باب الرُّجوع في الهبة الَّتي لم تَجبْ بناءً على أصله أنَّ الهبة لا تجبُ إلَّا بالقبض، وهذا المذهبُ إبطالٌ لحديث العَرِيَّة مِن أصله، وذلك أنَّه يضمن أنَّه نفعٌ مرخَّص فيه في مقدارٍ مخصوص.
          وقال الطَّحاويُّ: معناها عند أبي حنيفة أن يُعْريَ الرَّجلُ الرَّجلَ ثمرةَ نخلةٍ مِنْ نخلِه فلم يسلِّم ذلك إليه حتَّى يبدوَ له، فرخَّص له أن يَحبس ذلك، ويعطيَه مكانَه خِرْصَه تمرًا، وهذا التَّأويلُ كأنَّه أشبَهُ، لأنَّ العَرِيَّة إنَّما هي العطيَّة، ألا ترى إلى مدح الأنصارِ إذ مدَحهم إذ يقول، يعني سُويدَ بن أبي الصَّلْتِ فيما ذكرَه القُرْطُبيُّ، أو حسَّانَ بنَ ثابتٍ فيما ذكرَه ابنُ التِّين:
لَيْسَتْ بِسَنْهاءٍ ولا رُجَّبِيَّةٍ                     ولكنْ عَرَايا في السِّنينَ الجَوائِحِ
          أي: كأنَّهم يُعْرونها في السِّنين الجوائح، فلو كانت العَرِيَّة كما ذهب إليه مالكٌ لم يكونوا ممدوحين بها إذا كانوا يُعْطَون كما يُعْطُون، ولكنَّ العَرِيَّة بخلافِ ذلك، فإن قلتَ: فقد ذُكر في حديث زيد بن ثابت: (نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي العَرَايَا) فصارت في الحديث بيع ثَمَرٍ بتمرٍ فالجواب: أنَّه ليس في الحديث مِنْ ذلك شيءٌ، إنَّما فيه ذكرُ الرُّخصة في العَرايا، مع ذكرِ النَّهي عن بيع الثَّمر بالتَّمر، وقد يُقْرَنُ الشَّيءُ بالشَّيء وحكمُهما مختلفٌ.
          فإن قلتَ: قد ذُكر التَّوقيفُ في حديث أبي هريرة على (خَمْسَةِ أَوْسُقٍ)، وفي ذكرِ ذلك ما يَنفي أن يكون حُكْمُ ما هو أكثرُ مِنْ ذلك كحكمه فالجواب: أنَّه ليس فيه ما ينفي شيئًا ممَّا ذكرتَ، وإنَّما يكون ذلك كذلك لو قال: لا تكون العَرِيَّة إلَّا في خمسة أوسقٍ، وأمَّا إذا كان الحديثُ إنَّما فيه: رخَّص في العرايا في خمسةِ أوسُقٍ أو فيما دونَ خمسةِ أوسُقٍ، فذلك أنَّه _◙_ رخَّص فيه لقومٍ في عَرِيَّةٍ لهم هذا مقدارُها. فنقل أبو هريرة ذلك وأَخبر بالرُّخصة فيما كانت.
          وفي «الاستذكار» لابن عبد البرِّ: عن محمودِ بن لَبِيدٍ بطريقٍ فيها انقطاعٌ أنَّه قال لرجل مِنَ الصَّحابة _إمَّا زيدِ بنِ ثابتٍ وإمَّا غيرِهِ_: ما عَراياكم هذه؟ قال: فسمَّى رجالًا محتاجين مِنَ الأنصار شَكَوا إلى رسول الله صلعم أنَّ الرُّطَب يأتي ولا بيدِنا ما نبتاعُه به، فرخَّص لهم أن يبتاعوا العَرايا بخِرْصها مِنَ التَّمر الَّذي بيدِهم يأكلونها رُطَبًا. قال الطَّحاويُّ: ولا ينفي ذلك أن تكون تلك الرُّخصة جاريةً فيما هو أكثرُ مِنْ ذلك.
          فإن قلت: ففي حديث جابرٍ وابن عمر: ((إِلَّا أَنَّهُ أَرْخَصَ فِي العَرَايَا)) فصار ذلك مستثنًى مِنْ بيع الثَّمر بالتَّمر فثبَت بذلك أنَّه بيعُ ثمرٍ بتَمْر، فالجواب: أنَّه قد يجوز أن يكون قَصَدَ بذلك إلى المُعْرِي، ورخَّص له أن يأخذ ثمرًا بدلًا مِنْ تمر في رؤوس النَّخل، لأنَّه يكون بذلك في معنى البائع وذلك له حلالٌ، فيكون الاستثناءُ لهذه العلَّة، وفي حديث سهلٍ: (إِلَّا أَنَّهُ أَرْخَصَ فِي بَيْعِ العَرِيَّةِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا)، فقد ذَكرَ للعَرِيَّة أهلًا وجعلهم يأكلونها رُطَبًا، ولا يكون ذلك إلَّا ومَلَكَها الَّذين عادتْ إليهم بالبَدَل الَّذي أُخذ مِنْهم، وبذلك ثبَت قولُ أبي حنيفة.
          ثم ساق حديثَ ابن عمر: ((نهى رسول الله صلعم البائعَ والمبتاعَ / عن المزابنة، قال: قال زيد بن ثابت: رُخِّصَ فِي العَرَايَا فِي النَّخْلَة وَالنَّخْلَتَيْنِ تُوهَبَانِ لِلرَّجُلِ فَيَبِيعُهَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا)). فهذا زيد بن ثابت، وهو أحد مَنْ روى الرُّخصةَ في العَرِيَّة، فقد أجراها مُجرى الهِبة. وعن مكحولٍ أنَّه _◙_ قال: ((خَفِّفُوا الصَّدَقات فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْوَصِيَّةَ)) فدلَّ على أنَّ العَرِيَّة ما يَمْلِكُه أربابُ الأموال يومًا في حياتهم كما يملكون الوصايا بعد مماتهم. قال ابن رُشْدٍ: وإلى كونها هِبَةً مالَ مالكٌ.
          وقال ابنُ التِّين: دَعوى أنَّ العَرِيَّة مِنَ الإعارة غيرُ جيِّد، لأنَّ الإعارة فعلٌ معتلُّ العين، والإعراء معتلُّ اللَّام، ثم لو كانت الإعطاءَ لما نُهِيَ عن بيعها، لأنَّ الإعطاء لا يُباع وإنَّما يُباع المعطَى، ثمَّ حقيقةُ الاستثناءِ الاتِّصالُ، لا كما قالوه، ثمَّ الرُّجوع في الهِبة لا يحتاج إلى خَرْصٍ ولا إلى أوسُقٍ.
          وأمَّا الشَّافعيُّ فالعَرِيَّة عنده بيعُ الرُّطَبِ على رؤوس النَّخْلِ بتمرٍ معجَّلٍ على وجه الأرض لحديث سهلٍ السَّالف، أو العِنَبِ في الشَّجر بزبيبٍ، بجامع أنَّه زَكَوِيٌّ يمكن خَرْصُه ويُدَّخَر يابسُه، وكان كالرُّطَبِ.
          قال القُرْطُبيُّ: لم يعرِّج الشَّافعيُّ على اللُّغة المعروفة فيها، وكأنَّه اعتمد على تفسيرِ يحيى بن سعيد راوي الحديث، فإنَّه قال: العَرِيَّة أن يشتريَ الرَّجلُ ثمرَ النَّخلات لطعام أهله رُطَبًا بخِرْصِها تمرًا. قال: وهذا لا ينبغي أن يعوَّل عليه، لأنَّه ليس صحابيًّا فيُقالَ: فَهِمَ عن الشَّارع، ولا رفعَه إليه ولا ثبَت عنه عُرف غالبٌ شرعيٌّ حتَّى نرجِّحَه على اللُّغة، وغايتُه أن يكون رأيًا ليحيى لا روايةً له، ثمَّ يعارضُه تفسيرُ ابن إسحاقَ، فإنَّه قال: العَرايا أن يَهَبَ الرَّجلُ الرَّجلَ النَّخلات فيشُقَّ عليه أن يقومَ عليها، فيبيعَها بمثل خَرْصِها، ثمَّ هو عين المزابَنة المنْهيِّ عنها، ووضعُ رخصةٍ في موضعٍ لا ترهق إليها حاجةٌ أكيدة، ولا يندفع بها مَفْسَدة، فإنَّ المشتريَ لها بالتَّمر يتمكَّن مِنْ بيع تمره بعَين أو عُروض، ويشتري ذلك رُطَبًا، لا يُقال: قد يتعذَّر هذا فأخذ بيع الرُّطب بالتَّمر إذا كان الرُّطَب لا على رؤوس النَّخل، إذ قد يتعذَّر بيعُ التَّمر على مَنْ هو عندَه ممَّنْ يريد أن يشتريَ الرُّطَب به، ولا يجوز ذلك.
          قلت: التَّفسير ملحَقٌ في آخر الحديث، فيجوزُ أن يكون مِنْ راويه وهو أعرَفُ، وما ذكره البخاريُّ عن مالك في تفسيرها، ذكر أبو عمر بنُ عبد البرِّ عن ابن وَهْب عنه أنَّه قال: العَرِيَّة أن يُعْرِيَ الرَّجلُ الرَّجلَ النَّخلةَ أو النَّخلتين أو أكثرَ مِنْ ذلك، سنةً أو سنتين أو ما عاش، فإذا طاب التَّمر وأَرْطَب، قال صاحب النَّخل: أنا أكفيكم سقيَها وضمانَها ولكم خَرْصُها تمرًا عند الجداد، فكان ذلك مِنْه معروفًا كلُّه عند الجداد ولا أحبُّ أن يتجاوز ذلك خمسةَ أوسُقٍ. قال: وتجوز العَرِيَّة في كلِّ ما يَبس ويُدَّخَر نحو التِّين والزَّيتون، ولا أرى لصاحب العَرِيَّة أن يبيعَها إلَّا بتمرٍ في الحائط ممَّنْ له تمرٌ يخرُصُه، وقال ابن القاسم عنه: لا يجوز بيعُ العَرِيَّة بخِرْصها حتَّى يحلَّ بيعُها، ولا يجوز بعدما حلَّ بيعُها أن يبيعها بخِرْصها تمرًا إلَّا إلى الجِداد، وأما بالطَّعام فلا يصْلُح.
          وروى محمَّد بن شُجاع الثَّلْجيُّ، عن عبد الله بن نافعٍ عن مالكٍ أنَّ العَرِيَّةَ النَّخلةُ والنَّخلتان للرَّجل في حائطٍ بعينه، والعادة بالمدينة أنَّهم يَخرجون بأهليهم في وقت الثِّمار إلى حوائطهم، فكرِهَ صاحبُ النَّخل الكثيرِ دخولَ الآخَر عليه، فيقول: أنا أعطيك خَرْصَ نخلك تمرًا فأرخَصَ لهما في ذلك. قال أبو عمر: هذه الرِّواية مخالفةٌ لأصل مالكٍ في العَرِيَّة.
          وروى ابنُ القاسم عنه وسُئِلَ عن نَخْلة في حائطِ رجل لآخر له أصلُها، فأراد صاحبُ الحائط أن يشتريَها مِنْه بعدما أَزْهت بخَرْصِها تمرًا يدفعه إليه عند الجِداد، فقال: إن كان إنَّما يريد به الكفايةَ لصاحبه والرِّفقَ به فلا بأس، وإن كان إنَّما ذلك لدخوله وخروجه، وضررِ ذلك عليه فلا خير فيه. قال ابن القاسم: وليس هذا مثلَ العَرِيَّة. قال أبو عمر هذه الرِّواية تضارِع روايةَ ابن نافع. وعبارة القاضي في «معونته» أنَّها على مذهب مالكٍ: أن يَهَبَ الرَّجل ثمرَ نخلة أو نخلات لرجل. قال ابنُ التِّين: وهذا إنَّما يصحُّ على مذهب أشهبَ وابنِ حَبيب، وأمَّا مالكٌ ففرَّق بين العَرِيَّة والهِبَة، فقال: زكاةُ العَرِيَّة وسَقْيُها على المُعْري وزكاةُ الهِبة وسقيُها على الموهوب، ولا تُشترى بخِرْصها.
          وذَكر أبو عبد الله الأثرمُ في «سننه» عن أحمد: العَرِيَّة أنا لا أقولُ فيها بقول مالكٍ، أقول: هي أن يُعْرِيَ الرَّجلُ الجارَ أو القرابةَ للحاجة والمَسْكَنة، فإذا أَعْراه إيَّاها فللمُعْرَى أن يبيعَها ممَّن شاء، ثمَّ قال مالكٌ: نقول: يبيعُها مِنَ الَّذي أعراها إيَّاه، وليس هذا وجهَ الحديثِ عندي، بل يبيعُها ممَّنْ شاء كذا فسَّره ابنُ عُيَينةَ وغيره. قلت له: فإذا باعها، له أن يأخُذ الثَّمنَ السَّاعةَ أو عند الجداد؟ قال: يأخذ السَّاعة. قلت: إنَّ مالكًا يقول: ليس له أن يأخذ التَّمر السَّاعة حتَّى تُجَدَّ. قال: بلى يأخذُه على ظاهر الحديث. قلت: كأنَّه إنَّما أرخص له مِنْ أجل الحاجة، فله أن يأخذَه السَّاعة، قال: نَعَمْ مِنْ أجل الحاجة يأكلُها أهلُها رُطَبًا، ثمَّ قال: الَّذي يشتريها إنَّما له أن يأكلَها رُطَبًا.
          حدَّثنا الحَكم بن موسى، حدَّثنا عيسى بن يونس، حدَّثنا عثمان بن حَكيم، عن عطاء بن أبي رَباح عن ابن عبَّاس أنَّه قال: لا يصلُح أن يُباع ما في رؤوس النَّخل بمَكيله مِنَ التَّمر إذا كان بينَهما فضلُ دينار أو عشرةِ دراهمَ. قال الأثرم: فذكرتُ هذا لأبي عبد الله، فقال: هذا حديثٌ منكرٌ.
          قال أبو عمر: ويجوز للرَّجل أن يُعْرِيَ الرَّجلَ حائطَه ما شاء، ولكنَّ البيع لا يكون إلَّا في خمسةِ أوسُقٍ فما دونَها. وفي «شرح الموطَّأ» لابن حَبيب: العَرِيَّة في الثِّمار بمنزلة العُمْرَى في الدَّار، وبمنزلة المِنحة في الماشية.
          فرع: لو باع رُطبًا بمثله فأوجهٌ عندنا، أصحُّها: المنع، لأنَّه ليس في معنى الرُّخصة.
          وثانيها: الجواز، لأنَّه قد يشتري ما عند غيره.
          ثالثها: إن اختلف النَّوع جاز وإلَّا فلا.
          رابعها: إن كان أحدُهما على الأرض جاز وإلَّا لم يجزْ، وإن كانا على النَّخل جرى فيه التَّفصيل، فإن اختلفَ النَّوعُ جاز وإلَّا فلا.
          فرعٌ: الأصحُّ عندنا أنَّه لا يجوز إلَّا فيما دونَ خمسة أوسُقٍ، ولا يجوز في سائر الثِّمار، ولا يختصُّ بالفقراء، وذلك مبسوط في كتب الفروع وشروحنا.
          تنبيهاتٌ: أحدُها: بيع الثَّمر على رؤوس النَّخل إذا بدا صلاحه، بالذَّهب والفضَّة لا خلاف بين الأمَّة في جوازه، كما ترجم له البخاريُّ، وكذا بيعُها بالعُروض قياسًا على النَّقدَين.
          ثانيها: قال ابن المنذِر: ادِّعاءُ الكوفيِّين أنَّ بيع العرايا منسوخٌ بنهيه عن بيع الثَّمر بالتَّمر هو نفس المُحال، لأنَّ راويَ المزابنة هو راوي الرُّخصة في العَرايا، فأثبتَ الرُّخصة والنَّهي معًا على ما ثبت في حديثِ سهلٍ وجابر.
          ثالثها: كان مالكٌ يقول: العَرايا تكون في الشَّجر كلِّه مِنْ نخلٍ وعِنَبٍ وتينٍ ورمَّانٍ / وزيتونٍ فالثِّمارِ كلِّها، وبه قال الأوزاعيُّ إلَّا أنَّ مالكًا قال: إذا أَعراه الفاكهةَ مثلَ الرُّمَّان والتُّفَّاح وشبهِه لا يجوز أن يشتريَها بخَرْصِها، لأنَّه يقطعُ أخضرَ ويشتريها بعدما طابت ممَّا يجوز به شراء التَّمرة بالعين والعرض نقدًا وإلى أجل، وبالطَّعام نقدًا مِنْ غير صنفها إذا جدَّها مَكيلةً قبل أن يفترقا، وقد أسلفنا شروطَه فيه، وكان اللَّيث يقول: لا تكون العرايا إلَّا في النخل خاصَّة. وقال الشَّافعيُّ: في النَّخل والعِنَبِ. وفي غيرهما قولان، أصحُّهما لا.
          وفي «صحيح البخاريِّ» كما سلف [خ¦2184] ومسلمٍ ((عن زيد بن ثابت: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم رَخَّصَ بَعَدَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ العَرِيَّةِ بِالرُّطَبِ أَوْ بالتَّمْرِ، وَلَمْ يُرَخِّص فِي غَيْرِ ذَلِكَ)). وعَزَاه ابنُ بَطَّال إلى النَّسائيِّ إثر حديثٍ عَزاه إلى مسلم، فأوهم أنَّه ليس فيه، وأغربُ مِنْه أنَّه في البخاريِّ الَّذي يشرحُه.
          رابعها: قال أبو عبيد: في العرايا تفسيرٌ آخرُ غيرُ ما فسَّره مالكٌ، وهو أنَّ العرايا يستثنيها الرَّجل مِنْ حائطه إذا باع ثمرته لا يُدخلها في البيع، فيبقيها لنفسه وعيالِه، فتلك الثُّنْيا لا تُخْرَصُ عليهم، لأنَّه قد عُفِيَ لهم عمَّا يأكلون. سُمِّيَت عرايا، لأنَّها عَرِيت مِنْ أن تُباع أو تُخرَص في الصَّدقة، فأرخص _◙_ لأهلِ الحاجة والمسكنة، الَّذين لا وَرِقَ لهم ولا ذهب، وهم يقدرون على التَّمر أن يبتاعوا بتمرهم مِنْ تمر هذه العرايا بخِرْصِها، رفقًا بأهل الفاقة الَّذين لا يقدرون على الرُّطَب، ولم يرخِّص لهم أن يبتاعوا مِنْه ما يكون لتجارةٍ ولا ادِّخار، قال أبو عُبيد: وهذا أصحُّ في المعنى.
          خامسها: قد أسلفنا أنَّ العَرايا مستثناةٌ مِنْ جملة نهيِه _◙_ عن بيعِ الثَّمر بالتَّمر وهي المزابَنة، هذا قولُ عامَّة أهل العلم، ويجوز عند مالكٍ أن يُعْري مِنْ حائطه ما شاء، غيرَ أنَّ البيع لا يكون إلَّا في خمسة أوسُقٍ فما دونَ في حقِّ كلِّ واحد ممَّنْ أعرى، كما سلف. وبالخلاف في الخمسة، وإنما تُباع العَرايا بخِرْصِها من التَّمر في رؤوس النَّخل إلى جدادها، ولا يجوزُ أن يبتاعها بخِرْصِها نقدًا وليست له مَكيلة، لأنَّه أُنزل بمنزلة التَّولية والإقالة والشَّرِكة، ولو كان بمنزلة البيوع ما أشرَك أحدٌ أحدًا في طعام حتَّى يستوفيَه، ولا أقاله مِنْه، ولا ولاية حتَّى يُقْبِضَه المبتاعُ، قال: ولا يبيعُها إلَّا مِنَ المُعْري خاصَّة، ولا يجوز مِنْ غيره إلَّا على سنَّة بيع الثِّمار في غير العرايا، ولا يشتريها بطعامٍ إلى أجلٍ، ولا بتمرٍ نقدًا وإن جدَّها في الوقت، ذكره ابن بَطَّال، وأسلفنا بعضَه.
          ونُقل عن ابن القصَّار موافقةُ مالكٍ للشَّافعيِّ في أنَّها بيعُ ما دون خمسةِ أوسُقٍ مِنَ التَّمر، وأنَّه مخصوصٌ مِنَ المزابَنة، قال الشَّافعيُّ: ويجوز بيعُها مِنَ المُعْري وغيرِه يدًا بيد، ومتى افترقا ولم يُنْفِذه بطَلَ العقدُ، وبه قال أحمدُ، وقد أسلفنا أنَّ الأصحَّ المنعُ في الخمسة، لأجلِ شكِّ الرَّاوي ودُونَه المحقَّقُ، فثبَتت الرُّخصة فيه.
          واحتَجَّ أيضًا بحديث أبي سعيد الخُدْريِّ أنَّه _◙_ قال: ((لَا صَدَقَةَ فِي الْعَرِيَّة)) فلو كانت العَريَّة في خمسة أوسقٍ جائزةً لوجبت فيها الصَّدقة، فعُلم سقوطُها عنها بما دون خمسة أوسق، واحتج الشَّافعيُّ بما رواه محمَّد بن إسحاق، عن محمَّد بن يحيى بن حَبَّان، عن جابر بن عبد الله: ((أَنَّ النَّبيَّ صلعم رَخَّصَ فِي العَرَايَا فِي الْوَسْقِ وَالْوَسْقَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ)).
          قال: فجاءت رواية جابرٍ بغير شكٍّ، وبيَّنت روايةَ مالك عن داود الَّتي جاءت بالشَّكِّ في الخمسة ودونها، ووجهُ قولِ مالك أنَّه لا يجوز بيعُها إلَّا مع المُعْري خاصَّة، قوله _◙_ في حديث سهلٍ: ((يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا))، ولا أهلَ لها إلَّا الَّذي أعراها، فجاز أن يبيعَها مِنَ المُعْري خاصَّة، لمَا يقطَعُ مِنْ تطرُّق المعرَى على المعرِي، لأنَّهم كانوا يسكنون بعيالهم في حوائطهم ويتضرَّرون بدخول المعرَى ولم يكن قصدُهم المعروفَ، فرخَّص لهم في ذلك، ولذلك قال مالك: لا يجوز بيعُها يدًا بيد، لأنَّ المشتريَ لم يقصد بشرائها الفضلَ والمتجَرَ. وأمَّا الكوفيُّون فإنَّهم أبطلوا سُنَّة العَرِيَّة، وقالوا: هي بيعُ الثَّمر بالتَّمر، وقد نهى رسول الله صلعم عن ذلك.
          قال ابن المنذِر: فبيعُ العَرايا جائزٌ على ما ثبَتت به الأخبارُ عنه صلعم، والذي رخَّص في بيع العرايا هو الَّذي روى النَّهي عن بيع الثَّمر بالتَّمر في لفظٍ واحدٍ ووقت واحدٍ مِنْ حديث جابرٍ وسهلٍ على ما سلف، وليس قَبولُ إحدى السُّنَّتين أولى مِنَ الأخرى، ولا فرق بين نهيِه _◙_ عن بيع ما ليس عندَك، وبين إذنه في السَّلم، وهو بيعُ ما ليس عندك، وبين نهيِه عن بيع الثَّمر بالتَّمر وإذنه في العرايا، ومَنْ قَبِلَ إحدى السُّنَّتين وتَرَكَ الأخرى فقد ناقَضَ.
          سادسها: وقع في حديث أبي سعيدٍ وأنسٍ وابن عبَّاس: (المُحَاقَلَةِ)، وهي بيعُ الحنطة في سُنْبُلها بصافيةٍ، وذَكر ابنُ التِّين فيها ثمانيةَ أقوال: مِنْها قولُ مالك: إكراءُ الأرض بالحنطة، وفسَّره بذلك في حديث أبي سعيد في «الموطَّأ». وقيل: المزارَعة بالثُّلث والرُّبع ونحوِه. قال ابن بَطَّال: وهو الأشبَهُ بها على طريق اللُّغة، لأنَّ المحاقَلة مأخوذة مِنَ الحَقْل، والمفاعَلة مِنِ اثنين في أمرٍ واحدٍ كالمزارعة، ويُقال للأرض الَّتي لم تُزرع: المَحَاقل، كما يُقال لها المَزارع، عن الزَّجَّاجيِّ. وفي حديثِ ابن عمر: نهى عن بيع الثَّمر حتَّى يبدُوَ صلاحُه. وسيأتي له باب.
          سابعها: معنى (رَخَّصَ فِي بَيْعِ العَرَايَا) أي في بيع ثمرِها، أو يسمَّى الثَّمر عَرايا، لما بينها وبين النَّخل الَّتي هي محلُّ العرايا مِنَ التَّعلُّق.
          ثامِنها: يجوز أن يكون اختصَّت بما دون الخمسة أوسقٍ للرِّفق، لأنَّه عادةً ما جرى بإعرائه، وما زاد عليه فنادرٌ، وشكَّ داود بن الحُصَين في الخمسة، لم يروِهِ أحدٌ مِنْ طريقٍ صحيحٍ غيرُه، وعليه عَوَّل الفقهاء، وفي الحديث دليلٌ على أبي حنيفة، لأنَّ العريَّة لو كانت رجوعًا عن هبةٍ لما اختصَّت بمقدار.
          تاسعها: قوله: (بِخِرْصِهَا) هو بكسر الخاء أي: المخروص، قال ابنُ التِّين، عن أبي الحسن: ما علمت أحدًا قرأه بالفتح ولا يذكره في المذاكرة. وقال ابن فارس: خَرَصْتُ: حَزَرْتُ ثمرَ النَّخل خَرْصًا، وكم خِرْصُ ذا بالكسر. وفي «المطالع»: الخِرص _بالكسر_ اسمٌ للشَّيء المقدَّر، وبالفتح اسمٌ للفعل. وقال يعقوب: هما لغتان مِنَ الشَّيء المخروص، وأمَّا المصدر فبالفتح، والمستقبَلُ بالضَّمِّ والكسرِ في الرَّاء.
          قال بعض أهل العلم: ذكرُ الخَرْصِ دليلٌ على أنَّ ذلك لا يكون إلَّا بعد الطِّيب، / إذ لو كان لها خَرْصٌ قبل بدوِّ صلاحها لخُرِصَ الثَّمر حينئذٍ على أهله لأكلهم له بلحًا.
          قال الدَّاوُديُّ: رُوِيَ بإسناد فيه نظرٌ: ((أَنَّهُ _◙_ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّة قَبْلَ بُدوِّ صَلَاحِهَا بِخِرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ)). ولمَّا ذكر ابن التِّين مقالة ابن إدريس وأنَّها يدًا بيد، قال: خالفه مالك، فقال: لا يجوز إلَّا إلى أجل، قال: وخالفه في تفسيرها. فعند مالك أنَّها الموهوبُ ثمرُها، وعند الشَّافعيِّ اسمٌ للبيع، وعند مالك أنَّ جواز بيعها يختصُّ بالمُعْري، وعنده يجوزُ مِنْ كل أحدٍ.