التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات

          ░2▒ بَابٌ: الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ.
          2051- ذَكر فيه حديثَ النُّعْمَان بْن بَشِيرٍ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم: (الحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالمَعَاصِي حِمَى اللهِ / مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ).
          هذا الحديثُ سلف في الإيمان في باب: فضل مَنِ استبرأ لِدِينه. وذَكر هنا سنده مرَّتين متَّفقًا ومرَّتين مختلفًا، قال في الأوَّل: ((عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم)). وقال في الثَّاني: ((عَنْ أَبِي فَرْوَةَ _واسمه عُروةُ بن الحارثِ بنِ فَرْوةَ الهَمْدانيُّ الكوفيُّ_ عَنِ الشَّعْبِيِّ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم))، وفي الثَّالث: ((عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ مثل هذا))، وقال في الرَّابع: ((عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: قَالَ رسولُ الله صلعم)) والحاصلُ أنَّ النُّعمان صرَّح بسماعه في الرِّواية الأولى مِنْ رسول الله صلعم وأتَى في الثَّانية والثَّالثة بـ عَنْ، وفي الرَّابعة بـ قالَ.
          وعند أبي داودَ: عَنِ الشَّعْبِيِّ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ، وَلَا أَسْمَعُ أَحَدًا بَعْدَهُ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم: ((إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ...)) الحديث.
          وقد أسلفنا في الإيمان بُطلانَ مَنِ ادَّعى عدم سماعه مِنْ رسول الله صلعم، يوضِّحه سماعُ ابن النُّعمان حديث: ((نَحَلني أبي..))، كما ستعلمُه في موضعِه. و(سُفْيَانُ) الرَّاوي عن أبي فَرْوةَ في الرَّابع هو الثَّوريُّ كما صرَّح به أبو نُعَيم وغيره.
          قال أبو نُعَيم: وهذا لفظُ الثَّوريِّ، وجَمع البخاريُّ بين ابن عَوْنٍ وأبي فَرْوةَ ظنًّا أنَّ الرِّوايتين في إسنادٍ واحد، وساق الحديثَ بلفظ الثَّوريِّ، وفي «كتاب الإسماعيليِّ» لمَّا قال: ((أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً)) قال: قال فلان _يعني أحدَ رواته_: لا أدري هذا مِنْ لفظِ رسول الله صلعم أم لا؟
          ولا بدَّ لنا أن نذكر نَبْذة هنا فنقول: هذا الحديث أصلٌ في باب الوَرَع وَمَا يُجتنب مِنَ الشُّبَه، والشُّبَه: كلُّ ما أشبه الحلالَ مِنْ وجهٍ والحرامَ مِنْ آخرَ، والورعُ: اجتنابها، فالحلال البيِّن: ما عَلم المرء مِلكَه يقينًا لنفسه، والحرام البيِّنُ عكسُهُ، والشُّبهة: ما يجده في بيته فلا يدري أهو له أو لغيره، وقد اختُلف في حكم المشتبِهات على أقوال أسلفناها هناك.
          فرواية: ((لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)) دالَّة على الوقف، ورواية: ((مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ)) دالَّة على أنَّ تَرْكها واجبٌ، ورواية: ((مَنْ رَتَعَ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ)) تدلُّ على الحِلِّ. وقيل: قوله: (حَوْلَ الحِمَى) نهيٌ عمَّا يَشُكُّ فيه هو مِنَ الحمى أو ممَّا حوله، فنزَّهه عمَّا قرُب مِنْه ولم يشكَّ فيه خوفًا أن تُزيِّن النَّفس أنَّه ليس مِنْه، ويُحمل على النَّدْب.
          والمشتبِهات في الدِّماء والأموال والأعراض والفُتْيا والقضاء وغير ذلك، فأشدُّها الاجتراء على الفُتيا بغير علم، لأنَّه قد تُزيِّن له نفسُه أنَّه أهلٌ لها وهو خلافُه، قال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ} الآية [ص:26]. وفي الحديث: ((حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ)) ويُقال: أشقى النَّاس مَنْ باع دينَه بدنياه، وأشقى مِنْه مَنْ باع دينَه بدنيا سِواه، قال سُحْنُون: إنَّما ذلك في الفُتْيا، وممَّا يجتنب مِنَ الشُّبهات: الظَّنُّ أنْ يقطع به، فإنَّ النَّفس ربَّما تزيِّن عند الظنِّ خلافَ الحقِّ، تغطِّي عند الرِّضا العيبَ، وتُبدي في عكسه المساوئ، وقسَّم بعضُهم الوَرَع ثلاثة أقسام:
          واجبٌ: وهو اجتناب ما يحقِّقه لغيره، ومستحبٌّ: وهو اجتنابُ معامَلةِ مَنْ أكثرُ مالِه حرامٌ، ومكروهٌ: ألَّا يقبلَ الرُّخَص، ولا يجيبَ الدَّاعيَ، ولا يقبل الهديَّة، ويجتنبَ الأشياءَ المباحةَ مثل المياه الَّتي يتوضَّأ بها، واجتناب الغريب التَّزويجَ مع الحاجة، لقيام قدوم أبيه البلدةَ المذكورة والتزوُّجِ بها، وكُره ذلك لأنَّ النَّادر لا عبرة به.
          وقوله: (مَنْ يَرْتَعْ) قال ابن فارسٍ: يُقال رَتَعَ إذا أكل ما شاء، وقيل: رَتَعَتْ أقامت في المَرْتَع.
          وعبارة ابنِ بَطَّال: (الحَلَالُ البَيِّنُ) ما نصَّ الله على تحليله، أي ورسولُه، و(الحَرَامُ البَيِّنُ): ما نصَّ على تحريمه، وكذا ما جُعل فيه حدٌّ أو عقوبةٌ أو وعيدٌ، والمشتبه: ما تنازعتْه الأدلَّة مِنَ الكتاب والسُّنَّة، وتجاذبتْه المعاني فوجهٌ مِنْه يَعْضُده دليلُ الحرام، وآخرُ عكسُه، وقال فيه: مَنْ ترك الشُّبهات إلى آخره، فالإمساك عنه وَرَعٌ، والإقدام عليه لا يقطع عالم بتحريمه.
          وقال القُرْطُبيُّ: أقلُّ مراتب الحلال أن يستويَ فعلُه وتركُه فيكونَ مباحًا، وما كان كذلك لم يُتصوَّر فيه الورعُ مِنْ حيثُ هو متساوي الطَّرفين، فإنَّه إنْ ترجَّح أحد طرفيه على الآخر خَرج عن كونِه مباحًا فحينئذٍ يكون تركُه راجحًا على فعله وهو المكروه، أو عكسه فالمندوب، وفيه دليلٌ أنَّ الشُّبهة لها حكمٌ خاصٌّ بها.
          قال الخطَّابيُّ: وقوله: (لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) معناه أنَّها تشتبه على بعض النَّاس دون بعضٍ والعلماءُ يعرفونها، لأنَّ الله جعل عليها دلائلَ عرَّفها بها، لكن ليس كلُّ أحدٍ يقدِر على تحقيق ذلك، ولهذا قال ذلك ولم يقل: لا يعلمُها كلُّ النَّاس.
          وقوله: (كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى) هو مثلٌ يحتمل أنَّ صاحبه يقع في الحرام ولا يدري، وقال الخطَّابيُّ: إذا اعتادها قادتْه إلى الوقوع في الحرام، فيتجاسر عليه ويواقعُه عالمًا ومتعمِّدًا لخفَّة الزَّاجر عنده، ولِمَا قد أَلِفه مِنَ المساهَلة.