التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: هل يسافر بالجارية قبل أن يستبرئها؟

          ░111▒ بَابٌ: هَلْ يُسَافِرُ بِالْجَارِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؟
          (وَلَمْ يَرَ الحَسَنُ بَأْسًا أَنْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يُبَاشِرَهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا وُهِبَتِ الوَلِيدَةُ الَّتي تُوطَأُ، أَوْ بِيعَتْ، أَوْ عَتَقَتْ فَلْيُسْتَبْرَأْ رَحِمُهَا بِحَيْضَةٍ، وَلاَ تُسْتَبْرَأُ العَذْرَاءُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ الحَامِلِ مَا دُونَ الفَرْجِ. قَالَ اللهُ تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6]).
          2235- ثمَّ ساق حديث أنس قال: (قَدِمَ النَّبيُّ صلعم خَيْبَرَ، فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا، وَكَانَتْ عَرُوسًا، فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللهِ صلعم لِنَفْسِهِ، فَخَرَجَ بِهَا حتَّى بَلَغنا سَدَّ الرَّوْحَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا...) الحديث.
          الشَّرح: التَّعليق الأوَّل رواه ابنُ أبي شَيبةَ عن ابن عُليَّة قال: سُئِلَ يونسُ عن الرَّجل يشتري الأمَة يستبرئها يصيبُ مِنْها القُبلة والمباشَرة، فقال ابن سِيرينَ: يُكره ذلك. ويُذكر عن الحسن أنَّه كان لا يرى بالقبلة بأسًا، وعن عِكرمة في الرَّجل يشتري الجاريةَ الصغيرة، وهي أصغرُ مِنْ ذلك قال: لا بأس أن يمسَّها قبل أن يستبرئها. وقال إياسُ بن معاوية في رجلٍ اشترى جاريةً صغيرةً لا يُجامَع مثلُها قال: لا بأس أن يطأها، ولا يستبرئها. وكَره قَتادةُ تقبيلَها حتَّى يستبرئها. وقال أيُّوب اللَّخْميُّ: وقعتْ في سهمِ ابنِ عمر جاريةٌ يوم جَلُولاءَ، فما مَلك نفسَه أن جَعل يقبِّلها.
          قال ابن بَطَّال: ثبتَ هذا عنه.
          وأثرُ ابن عمر رواه أيضًا ابن أبي شَيبةَ عن عبد الوهَّاب عن سعيدٍ عن أيُّوب عن نافعٍ عن ابن عمر قال: إن اشترى أمَة عذراءَ فلا يستبرئها. قال ابنُ التِّين: وهذا خلافُ ما يقوله مالك. قلت: والشَّافعيُّ، وقيل: تُستبرأ استحبابًا.
          و(عَتَقَتْ) بفتح العين هو الصَّحيح، وَرُوِيَ بضمِّها وليس بشيء. وعن ابن سِيرينَ في الرَّجل يشتري الأمَة العَذراء قال: لا يَقرَبنَّ ما دون رحمِها حتَّى يستبرئَها. وعن الحسنِ يستبرئُها وإن كانت بِكرًا، وكذا قاله عِكرمةُ. وقال عطاءٌ في رجل اشترى جاريةً مِنْ أبويها عذراءَ: يستبرئُها بحيضتين. ومذهبُ جماعةٍ مِنْهم ابنُ القاسم وسالمٌ واللَّيثُ وأبو يوسفَ: لا استبراءَ إلَّا على البالغة، وكان أبو يوسفَ لا يرى استبراءَ العذراء وإن كانت بالغةً، ذكره ابن الجوزيِّ عنه. وأثرُ عطاءٍ لا يحضرني، قال ابن التِّين إن أراد الحاملَ مِن سيِّدها فهو فاسد، وإن أراد / غيرَهُ وهي مسبيَّة أو زانية فسيأتي إذا لم يكن الحملُ مِنْ زوجها.
          وفي «مصنَّف ابن أبي شَيبةَ»: سُئِلَ ابنُ عبَّاس عن رجلٍ اشترى جاريةً وهي حاملٌ أيطؤها؟ قال: لا، ونهى عنه أبو موسى الأشعريُّ وناجيةُ بن كعب وسعيدُ بن المسيِّب، وفيه أحاديثُ تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى، وحديثُ أنسٍ يأتي أيضًا.
          إذا تقرَّر ذلك، فالحديث دالٌّ على أنَّ الاستبراء أمانةٌ، يُؤتمن المبتاع عليها بألَّا يطأها حتَّى تحيضَ حيضةً إن لم تكن حاملًا، فإنَّه _◙_ جعل رِداءه على صَفِيَّة، وأمرَها أن تَحْتَجِبَ بالجِعِرَّانة حين صارت في سهمه، ومعلومٌ أنَّ مِنْ سنَّته أنَّ الحائلَ لا تُوطأ حتَّى تَحيض حَيضةً، خَشية الحمل، وأنَّ الحامل لا توطَأ حتَّى تضعَ، لئلَّا يسقيَ ماؤه زرعَ غيرِه، فلمَّا كان أمانةً ارتفعت فيه الحكومةُ.
          وفيه حجَّةٌ لِمَنْ يوجِب المواضَعة على البائع، وهو قولُ جماعةِ فقهاء الأمصار غيرِ رَبيعةَ ومالكٍ، فإنَّهما أوجبا المواضَعة في الجواري المرتفعات المتَّخذات للوطء خاصَّة. قال مالك في «المدوَّنة»: أَكرهُ تركَ المواضعة وائتمان المبتاع على الاستبراء، فإن فعلا أجزأهما، وهي مِنَ البائع حتَّى تدخُل في أوَّل دمها، وإنَّما قال مالكٌ بها خشية أن يتذرَّع المشتري إلى المواضعة قبل الاستبراء، حياطةً على الفروج، وحفظًا للأنساب، ولقوله ◙: ((لَا تُوطَأُ حَائِلُ حتَّى تَحِيضَ)).
          واحتجَّ مَنْ لم يرَ المواضعة بأنَّ عطاءَ بن أبي رَباحٍ قال: ما سمعنا بها قطُّ. وقال محمَّد بن عبد الحَكم: أوَّل مَنْ قال بها ربيعةُ.
          وقال الطَّحاويُّ: الدَّليل على أنَّها غيرُ واجبةٍ أنَّ العقد إنَّما يوجِب تسليمَ البَدلين، وقد وافقَنا مالكٌ على أنَّ غير المرتفعات مِنَ الجواري لا يجبُ فيهنَّ استبراء، فوجب أن يكون كذلك حكمُ المرتفعات.
          وأجمع الفقهاءُ على أنَّ حَيضةً واحدةً براءةٌ في الرَّحم، إلَّا أنَّ مالكًا واللَّيث قالا: إنِ اشتراها في أوَّل حيضها اعتدَّ بها، وإن كانت في آخرها لم يعتدَّ بها. وقال ابن المسيِّب: حيضتان. وقال ابنُ سِيرينَ: ثلاث. واختُلف إذا أُمن فيها الحملُ، فقال مالك: تُستبرأ. وقال مُطَرِّفٌ وابن الماجِشُونِ: لا.
          واختلفوا في قُبلة الجارية ومباشرتها قبل الاستبراء. فأجاز ذلك الحسن البصريُّ وعِكرمةُ، وبه قال أبو ثور، وقد أسلفنا فعلَ ابن عمر فيه، وكَرهه ابنُ سِيرينَ، وهو قول مالكٍ واللَّيثِ وأبي حنيفةَ والشَّافعيِّ، ووجهُه قطعًا للذَّريعة وحفظًا للأنساب.
          وحجَّة مَنْ أجاز، الآيةُ الَّتي ذكرها البخاريُّ وهي خرجت مَخرجَ العموم أُريد بها الخصوصُ، فقد يملك ذات مَحْرَمٍ مِنْه، أو يطلِّقها بائنًا، أو تكون مُحْرِمةً، أو حائضًا، وقوله ◙: ((لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حتَّى تَحِيضَ)) فدلَّ هذا أنَّ ما دون الوطء مِنَ المباشرة والقبلة في حيِّز المباح.
          وسفرُه _◙_ بصَفِيَّةَ قبل أن يستبرئَها حجَّةٌ في ذلك، لكونِه لو لم يحلَّ له مِنْ مباشرتها ما دون الجماعِ لم يسافرْ بها معه، لأنَّه لا بدَّ أن يرفعَها أو ينزلَها، وكان ◙ لا يمسُّ بيده امرأةً لا تحلُّ له، ومِنْ هذا اختلافُهم في مباشرة المظاهَرة، وقبلته لامرأته الَّتي ظاهَر مِنْها، فذهبَ الزُّهْريُّ والنَّخَعيُّ ومالكٌ وأبو حنيفة والشَّافعيُّ إلى أنَّه لا يقبِّل امرأته، ولا يتلذَّذ مِنْها بشيءٍ، وقال الحسن البصريُّ: لا بأس أن ينال مِنْها ما دون الجماع، وهو قول الثَّوريِّ والأوزاعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي ثور، وكذلك فسَّر عطاءٌ وقَتادةُ والزُّهْريُّ.
          وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] أنَّه عنى بالمسيس: الجماعَ في هذه الآية.
          واختلفوا في استبراء العذراء فقال ابن عمر: لا تُستبرأ _كما سبق_ وبه قال أبو ثور، وقال سائر الفقهاء تُستبرأ بحيضة إذا كانت ممَّن تحيض ويوطَأ مثلُها. وقال ابن الماجِشُونِ: إن كانت صغيرةً أو ممَّنِ انقطع حيضُها فلا تُستبرأ.
          تنبيهات: أحدها: قال الدَّاوُديُّ: قول الحسن السَّالفُ إن كان في المسبيَّة فصوابٌ، لأنَّه لم يبق فيها ملك لأحدٍ، قال ابنُ التِّين: وهذا غيرُ بيِّن بل يُمنع ذلك جملةً، قال: كما يمنع أن يلتذَّ بأمته إذا زنت وحملت، وقول ابن عمر السَّالف هو قول مالكٍ وأصحابِه إذا كانت ممَّنْ يوطأ ويحمل.
          ثانيها: غزوة خيبرَ سنة ستٍّ، وقيل: سبع، وقدَّمه ابن التِّين على الأوَّل، فقال: كانت سنة سبع، وقال مالك: سنة ستٍّ.
          ومعنى (اصْطَفَاهَا) أي أخذها صفيًّا، والصَّفِيُّ: سهم رسول الله صلعم مِنَ المغنم، كان يأخذه مِنَ الأصل قبل القسمة، جارية أو سلاحًا. وقيل: إنَّما سُمِّيت صَفِيَّةَ لذلك، لأنَّها كانت صفيَّةً مِنْ غنيمة خيبرَ، وزوجُها المقتول هو كنانةُ بن أبي الحُقَيق، فرأتْ في المنام قمرًا أقبل مِنْ يثربَ، وقع في حِجْرها، فقصَّت ذلك عليه، فلطَم وجهها وقال: أنتِ تزعمين أنَّ مَلِكَ يثربَ يتزوَّجُك. وفي لفظ: تحبِّين أن يكونَ هذا الملِك الَّذي يأتي مِنَ المدينة زوجَك. وفي لفظ: رأيت كأنِّي وهذا الَّذي يزعم أنَّ الله أرسله ومَلَكٌ يسترُنا بجناحه.
          والعَرُوس: نعتٌ يستوي فيه المذكَّر والمؤنَّث، ما داما في تعريسهما أيَّامًا، وأحسنُ ما في ذلك أن يُقال: الرَّجلُ مُعْرِسٌ. وعن الخليل: رجلٌ عروسٌ، وامرأة عروسٌ، ونساءٌ عرائس، ذكره ابنُ فارس.
          وقوله: (فَخَرَجْنَا بِها حتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الرَّوْحَاءِ حَلَّتْ) فيه دِلالةٌ لفقهاء الأمصار أنَّ الاستبراء بحيضة، وليس في هذه المدَّة ما تحيض فيه أكثرَ مِنْ حَيضة.
          و(الرَّوْحَاءِ) منزلٌ بقرب المدينة و(الحَيْسُ) أخلاطٌ من تمر وأقِطٍ وسمنٍ، وفي لفظ: ((التَّمْرُ وَالسَّوِيقُ)) وقيل: ((مِنْ تَمْرٍ وَسَمْنٍ)). ذكره الدَّاوُديُّ. وفيه أنَّ الوليمة بعد البِناء.
          و(النِّطَع) بكسر النُّون وفتح الطَّاء على الأفصح، قال ابنُ التِّين: يُقال: نطع _بسكون الطاء وفتحها_جلود تُدبغ ويُجمع بعضها على بعضٍ وتُفرش.
          ومعنى: (آذِنْ مَنْ حَوْلَكَ) أي أعلمْه لإشهار النِّكاح.
          وقوله: (يُحوي) ضبطه بالتَّخفيف ثلاثيًّا في رواية أبي الحسن، وبالتَّشديد في رواية أبي ذرٍّ وهو أن يُوطئ لها بالعباء حول سنام البعير، وهو عند أهل اللُّغة بالتَّشديد كما عند أبي ذرٍّ، ذكره كلَّه ابنُ التِّين، والعَبَاءَةُ _ممدودةً_ والعباء أيضًا: ضربٌ مِنَ الأَكسية، وفي «سيرة ابن إسحاق» لمَّا أتى بها بلالٌ أمر _◙_ بها فحيزت خلفه، / وغطَّى عليها ثوبَه، فعرف النَّاسُ أنَّه قد اصطفاها لنفسه.
          ثالثها: قوله: (فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ) هو مِنَ المعاشرة بالمعروف. وفي «كتاب الواقديِّ»: كانت تعظِّم أن تجعل رجلَها على ركبته، فكانت تضعُ ركبتها على ركبته، قال: وفُحصت الأرض أفاحيصَ، وجيء بالأنطاع، فوُضعت فيها، ثمَّ جيء بالأَقِطِ والسَّمن فشَبِعَ النَّاس.
          وحييٌّ: والدُها، قال الدَّارَقُطْنيُّ: المحدِّثون يقولونه بكسر الحاء المهملة، وأهلُ اللُّغة بضمِّها.
          و(صَفِيَّةُ): مِنْ سِبْطِ هارونَ ◙ كانت عند سلَامِ بن مِشكَم، وكان خمَّارًا في الجاهليَّة، وسلام بتخفيف اللَّام، وفيه يقول أبو سُفيان بن حرب:
سَقاني فَروَّاني كُمَيتًا مُدامةً                     على ظمأٍ منِّي سَلَامُ بن مِشكَمِ
          وقيل: بالتَّشديد وخُفِّف ضرورةً، ثمَّ خَلف عليها كنانةُ بن أبي الحُقَيق.
          قال الجاحظ في كتاب «الموالي»: ولدَ صفيَّةَ مئةُ نبيٍّ ومئةُ ملِكٍ، ثمَّ صيَّرها الله تعالى أمَة لرسوله. وذكر القاضي أبو عمر محمَّد بن أحمد النُّوقاتيُّ في كتاب «المحنة» أنَّه ◙ لمَّا أراد البناءَ بصفيَّةَ استأذنته عائشةُ أن تكون في المنتقِبات، فقال: ((يَا عَائِشَة إِنَّكِ إِنْ رَأَيْتِهَا اقْشَعَرَّ جِلْدُكِ مِنْ حُسْنِهَا)) فلمَّا رأتها حصل لها ذلك.
          وقال ابن سعد: الحصن التي كانت فيه اسمه القَمُوصُ، سباها مِنْه هي وابنة عمٍّ لها، فعَرض عليها رسولُه أن يعتِقَها إن اختارت الله ورسولَه، فقالت: أختارهما، وأسلمتْ، فأعتقَها وتزوَّجها، وجعل عِتْقَها مهرَها، ورأى بوجهها أثر خُضرةٍ قريبًا مِنْ عينها، فقال: ((مَا هَذَا؟)) فذكرتِ المنامَ السَّالف، فلمَّا صار إلى منزل يُقال له: ثِبَارُ على ستَّة أميالٍ مِنْ خَيْبَرَ، مال يريد أن يعرِّس بها، فأبت عليه، فوجد في نفسه مِنْ ذلك، فقالت: خِفت عليك قُرب يهودَ. فلما كان بالصَّهباء على بَريدٍ مِنْ خَيْبَرَ عرَّس بها.
          رابعها: كما رأت صفيَّة في منامها سيِّد الأنام رآه غيرُ واحدة مِنْ أزواجه، روى الحاكمُ في كتابِ «الإكليل»: أنَّ جُوَيْرِيةَ رأت في المنام كما رأت صفيَّةُ قبل تزوُّجها به، ولابن سعد: قالت أمُّ حَبيبة: رأيت في النَّوم كأنَّ آتيًا يقول: يا أمَّ المؤمنين. ففَزِعت وأوَّلته أنَّ رسول الله صلعم يتزوَّجني.
          وعن ابن عبَّاس: رأت سَودةُ في المنام كأنَّ رسول الله صلعم أقبل يَمشي حتَّى وَطئ على عُنقها، فقال زوجُها: لئن صدقتْ رؤياك لتتزوَّجين. ثمَّ رأت ليلةً أخرى أنَّ قمرًا انقضَّ عليها مِنَ السَّماء وهي مضطجعة، فأخبرت زوجَها السَّكران، فقال: لئن صدقتْ رؤياك لم ألبثْ إلَّا يسيرًا حتَّى أموتَ وتتزوَّجين بعدي، فاشتكى مِنْ يومه ذلك، ولم يلبَثْ إلَّا قليلًا حتَّى مات.
          خامسها: حديثُ اصطفائه صفيَّةَ يعارضُه في الظَّاهر حديثُ أنسٍ أنَّها صارت لدِحْيَةَ، فأخذها مِنْه وأعطاه سبعة أرؤسٍ، وَيُرْوَى أنَّه أعطاه بنتي عمِّها عِوضًا مِنْها، ويُروى أنَّه قال له: ((خُذْ رَأْسًا آخَرَ مَكَانَها)) ولا معارَضة كما نبَّه عليه السُّهيليُّ، فإنَّما أخذَها مِنْ دِحْيَةَ قبل القِسمة، وما عوَّضه فيها ليس على جهة البيع، ولكنْ على جهة النَّفَلِ أو الهِبة، غيرَ أنَّ بعض رواة الحديث في «الصَّحيح» يقولون فيه: إنَّه اشترى صفيَّة مِنْ دِحْيَةَ، وبعضُهم يزيد فيه: بعد القَسْم، فالله تعالى أعلمُ أيُّ ذلك كان. وهذا الآخر هو الَّذي أراد به البخاريُّ في الباب الَّذي سلف: بيع العبد والحيوان به، وأورده فيه كان تركُه لها عنده وأخذُه جاريةً مِنَ السَّبي غيرَ معيَّنة بيعًا لها بجارية نسيئةً، حتَّى يأخذَها ويستحسنها، فحينئذٍ تتعيَّن له، وليس يدًا بيدٍ.
          سادسها: الإمام إذا نَفَلَ ما لم يُعلم مقدارُه له استرجاعُه والتَّعويض عنه، وليس له أن يأخذَه بغير عِوَضٍ، ذكره المنذريُّ في «حواشيه» قال: وإعطاء دِحْيَةَ كان برضاه، فيكونُ معاوضةَ جاريةٍ بجارية، فإن قلت: الواهب منهيٌّ عن شراء هبته؟ قلنا: لم يهبه مِنْ مال نفسه، وإنَّما أعطاه مِنْ مال الله على جهة النَّظر، كما يعطي الإمامُ النَّفلَ لأحدِ أهل الجيش نظرًا، وقيل: إنَّما يكون قصدَ إعطاءَ جاريةٍ مِنْ حشو السَّبي، فلمَّا أُطلع أنَّ هذه مِنْ خياره، وأنْ ليس يمكن إعطاءُ مثلِها لمثله، لأنَّه قد يؤدِّي ذلك إلى المفسدة، فلذلك ارتَجَعَها، لأنَّه خلافُ ما أراد أن يعطيَه.