التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء

          ░40▒ بَابُ: التِّجَارَةِ فِيمَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
          2104- 2105- ذَكر فيه حديثَ ابن عمر في إرسال رسول الله صلعم إليه الحُلَّة الحرير.
          وحديثَ عائشة في النُّمْرُقة.
          والحديثان في مسلم، وللبخاريِّ في الأوَّل في طريق آخر: ((لِتَبِيعَهَا أَوْ لِتَكْسُوَهَا)) وقالا: ((حُلَّةً سِيَرَاءَ)). وفي الثَّاني: ((فَأَخَذْتُهُا فَجَعَلْتُهُا مِرْفَقَتينِ يَرْتَفِقُ بِهِمَا فِي الْبَيْتِ)). وفي رواية: ((قِرَامًا)) بدل: (نُمْرُقَةً). والقِرَام: ثوبُ صوفٍ ملوَّن كما قال الخليل، والنُّمرقة جمعها نمارقُ، وهي الوسادة. قال ابنُ التِّين: ضبطناها في الكتب بفتح النُّون وضمِّ الرَّاء، وضبطه ابنُ السِّكِّيت بضمِّهما وبِكسرهما، ونمرق بغير هاء، قال: وذكرها القزَّاز بفتح النُّون وضمِّ الرَّاء ولم يضبطها، وقيل: هي المجالس ولعلَّها الطَّنافس. وضبطها في «المحكَم» بضمِّهما وبكسرهما، ثمَّ قال: قيل: الَّتي يُلبَسُها الرَّحل. وفي «الجامع»: نُمرق تجعل تحت الرَّحل. وقال الجوهريُّ: هي وسائدُ صغيرة، وربَّما سمَّوا الطِّنْفِسة الَّتي فوق الرَّحل نُمْرُقة، عن أبي عُبيد.
          والسِّيَراءُ بُرود يخالطها حرير، قاله صاحب «العين»، وقد سلف الكلام عليها في الجمعة.
          إذا تقرَّر ذلك فالتِّجارة فيما يكره لُبسُه جائزة إذا كان في المبيع منفعةٌ لغير اللَّابس، بخلاف ما لا منفعة فيه مطلقًا، فإنَّه مِنْ أكل المال بالباطل. وأمَّا بيع الثِّياب الَّتي فيها الصُّور المكروهة فظاهرُ حديث عائشة أنَّ بيعها لا يجوز، لكن قد جاءت آثارٌ مرفوعة عن النَّبيِّ صلعم تدلُّ على جواز بيع ما يوطأ ويُمتَهن مِنَ الثِّياب الَّتي فيها الصُّور، مِنْها سَتْرُ عائشة سَهْوةً لها بسِتْرٍ فيه تصاويرُ، فهتكَه ◙ فجعلَتْه قطعتين فاتَّكأ ◙ على أحدهما، رواه وكيع عن أسامةَ بن زيد، عن عبد الرَّحمن بن القاسم، عن أبيه عنها، وإذا تعارضت الآثار فالأصل الإباحة حتَّى يَرِد الحظر.
          ويحتمل أن يكون معنى حديث عائشة في النُّمرُقة _لو لم يعارضه غيره_ محمولًا على الكراهية دون التَّحريم، بدليل أنَّه _◙_ لم يفسخ البيع في النُّمرُقة الَّتي اشترتها عائشة، وكأنَّ البخاريَّ اكتفى بذكر النُّمرُقة عن لُبس النِّساء، وقد يستنبط مِنْه أنَّها للنِّساء عند الاختلاف في متاع البيت.
          وقوله: (حَرِيرٍ أَوْ سِيَرَاءَ) شكٌّ مِنَ الراوي.
          وقوله: (فَرَآهَا عَلَيْهِ) قال الدَّوادي: هو وهم، وقد سلف في العيد [خ¦886] أنَّه أعطاها له فقال: كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ؟ فَقَالَ: ((إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا)) فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا. وقيل: إنَّه أخوه مِنَ الرَّضاعة لأنَّه لا يُعلم له أخ إلَّا زيدٌ.
          و(الخَلَاقَ) النَّصيب، أي مَنْ لا نصيب له في الآخرة. و(الحُلَّة) إزارٌ ورداءٌ، لا يُسمَّى حلَّةً حتَّى يكونا ثوبين، قاله أبو عبيد، وقد سلف.
          و(الصُّوَرِ): _بضم الصَّاد وفتح الواو_ جمع صورة، قال ابنُ التِّين: وهذا ما سمعناه، ويجوز بسكون الواو. قال الدَّاوُديُّ: وهو ناسخ لكلِّ ما جاء في الصُّور، لأنَّه خبرٌ والخبر لا ينسخ، وما جاء مِنَ الرُّخصة فيما يمتهن فمنسوخ، لأنَّ الأمر والنَّهي يدخله النَّسخ. وقال غيره: / إنَّ قوله: ((إِلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ)) ناسخ لحديث الباب لأنَّ الرُّخصة نسخت الشِّدَّة، والخبر إذا قارن الأمرَ يجوز فيه النَّسخ، وقد قارنه أمر وهي العبادة الَّتي أمرهم ألَّا يتَّخذوها ثمَّ نُسخت الإباحة.
          وقوله: (أَحْيُوا) هو بفتح الهمزة. (مَا خَلَقْتُمْ) أي: ما قدَّرتم وصوَّرتم بصور الحيوان.
          والمراد بالمَلائِكَة: غير الحفظة. وقيل: مَلائِكَةُ الوَحي، أمَّا الحفظة فلا تفارقه إلَّا عند الجماع والخلاء، كما أخرجه ابن عديٍّ وضعَّفَه. وقال ابن عبد البرِّ: لم يرخَّص في شيء مِنْها في هذا الحديث، وإن كانت الرُّخصة وردت في غيره في هذا المعنى فإنَّ ذلك يتعارَض، وحديثُ عائشة هذا مِنْ أصحِّ ما يُرْوَى في هذا الباب، إلَّا أنَّ في بعض الرِّوايات ذِكرَ الرُّخصة فيما يُرْتَفَقُ ويُتَوَسَّد، فالله أعلم بالصَّحيح في ذلك، ومِنْ جهة النَّظر: لا يجب أن يقع المنعُ إلَّا بدليلٍ لا منازع له، وحديث سَهْل بن حُنَيف مع أبي طَلحةَ يعضُد الاستثناءَ، أخرجه مالك. ولم يدرِك ابنُ عُيَينةَ سهلًا ولا سَمع أبا طلحة، وإنَّما الحديثُ لعُبيد الله عن ابن عبَّاس، عن أبي طَلحةَ وسهلٍ.
          وقال أبو بكرٍ الحازميُّ بعد إيراده حديث عائشة: ((فَجَعَلْتُهُ وَسَائِدَ)) دالٌّ على النَّسخ، واللَّفظ مُشْعِر به، إذ كان يصلِّي إليه لا إلى السَّهوة كما توهَّمه بعضهم. وقال: السَّهوَة: المكان، ولهذا قال: ((أَخِّرِيهِ عَنِّي)) ويدلُّ عليه أيضًا حديث أبي هريرة: ((اسْتَأْذَنَ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم فَقَالَ: ادْخُلْ، فَقَالَ: كَيْفَ أَدْخُلُ وَفِي بَيْتِكَ سِتْرٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَإِمَّا أَنْ تُقْطَعَ رُؤُوسُهَا، أَوْ تُجْعَلَ بِسَاطًا يُوطَأُ فَإِنَّا مَعْشَرَ الْمَلَائِكَةِ لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ تَصَاوِيرُ)).
          واعلم أنَّ الإسماعيليَّ قال: جعل البخاريُّ ترجمة الباب التِّجارة فيما يُكره لُبسُه للرِّجال والنِّساء، وقد قال ◙ في قصَّة عليٍّ: ((شُقَّهَا خُمُرًا بَيْنَ نِسَائِكَ)). وكان على زينبَ بنت رسول الله صلعم حُلَّةٌ سِيَراء، وإنَّما المعنى مَنْ لا خلاق له مِنَ الرِّجال، فأمَّا النِّساء فلا، فإن أراد شراء ما فيه تصاوير فحديث عمر لا يدخل في التَّرجمة، وقد أسلفنا الجواب عن هذا. وكذا قال ابن المنيِّر: في التَّرجمة إشعار بحمل قوله: (مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ) على العموم للرِّجال والنِّساء، والحقُّ أنَّ النَّهي خاصٌّ بالرِّجال، والنُّمْرُقَة المصوَّرة يستوي فيها الرِّجال والنِّساء في المنع.