التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: هل يبيع حاضر لباد بغير أجر؟وهل يعينه أو ينصحه؟

          ░68▒ بَابٌ: هَلْ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِغَيْرِ أَجْرٍ، وَهَلْ يُعِينُهُ أَوْ يَنْصَحُهُ؟
          (وَقَالَ النَّبيُّ صلعم: إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيَنْصَحْ لَهُ.
          وَرَخَّصَ فِيهِ عَطَاءٌ).
          2157- ثمَّ ساق حديثَ جرير: (بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم عَلَى شَهَادَةِ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ...) إلى قوله: (وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ).
          2158- وحديثَ ابن عبَّاس: (لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ، وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ. فَقُلْتُ لِابن عبَّاس: مَا قَوْلُهُ: لاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟ قَالَ: لاَ يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا).
          الشَّرح: حديثُ جَريرٍ سلف في الإيمان، وحديثُ ابن عبَّاس أخرجه مسلم أيضًا، والتَّعليق أسنده مسلمٌ مِنْ حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ)) فذكر مِنْها: ((وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ)) ذكره في الاستئذان.
          وأخرجه البَيْهَقيُّ مِنْ حديثِ أبي حمزة عن عبد الملك بن عمير عن أبي الزُّبَير عن جابر مرفوعًا: ((وَإِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْهُ)). قال البَيْهَقيُّ: وَرُوِيَ معناه، عن حكيم بن أبي يزيد عن أبيه، عن النَّبيِّ صلعم وقيل: عنه عن أبيه عمَّن سمع النَّبيَّ صلعم. وفيه النَّهي عن بيع حاضرٍ لبادٍ.
          وشيخُ البخاريِّ في حديث ابنِ عبَّاس هو (الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ)، مِنْ أفراده عن مسلم، صالحُ الحديث، كالصَّلْتِ بن مسعودٍ، انفرد به مسلمٌ، ثقةٌ.
          إذا تقرَّر ذلك فالبخاريُّ أراد بحديث ابن عبَّاس النَّهيَ، وبقولِ عطاءٍ أنَّ بيع الحاضرِ للبادي جائزٌ بلا كراهة، وترجمته بعدُ تدلُّ له، لأنَّ البدويَّ قد يستنصحُ الحَضَريَّ، ويحتمل أن يكون _◙_ قال ذلك على معنى المَصلحة لأهل الحَضر والنَّظر لهم، لالتزامِهم الجماعةَ، وطلبِهم للعلم والمذاكرةِ فيه. وقد قال إثرَه: ((دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ)) أخرجه مسلمُ مِنْ حديث جابر وهو مِنْ أفراده.
          فإذا تولَّى الحَضَريُّ البيعَ للبدويِّ رفَع في أثمان السِّلعة، بخلاف تَولِّي البدويِّ ذلك بنفسه، فربَّما سَأل أقلَّ مِنْ سؤال الحَضَريِّ وينتفع بذلك أهلُ الحَضر، ولم يزل _◙_ ينظر للعامَّة على الخاصَّة، فيريد البخاريُّ على هذا التَّأويل أنَّ تَرْكَ السَّمسَرة على هذا التَّأويل، وتَرْكَ بيعِ الحاضر للبادي مِنَ النَّصيحة / للمسلمين.
          قال الطَّحاويُّ: فعلمنا مِنَ النَّهي أنَّ الحاضر إنَّما نُهِيَ أن يبيعَ للبادي، لأنَّ الحاضرَ يعلم أسعارَ الأسواق فيستقصي على الحاضرين، فلا يكونُ لهم في ذلك ربحٌ، وإذا باعهم أعرابيٌّ على غِرَّتِه وجهله بالأسعار رَبِحَ عليه الحاضرون، فأمر _◙_ أن يخلَّى بين الأعراب والحاضرين في البيوع.
          واختَلف العلماءُ في ذلك، فأخذ قومٌ بظاهر الحديث، وكَرهوا بيع الحاضر للبادي، رُوِيَ ذلك عن أنسٍ وأبي هريرة وابن عمر، وهو قولُ مالكٍ واللَّيث والشَّافعيِّ، ورخَّص فيه آخرون، رُوِيَ ذلك عن عطاءٍ كما ذكره البخاريُّ، ومجاهد قال: إنما نُهِيَ عنه في زمانه فأمَّا اليوم فلا، وهو قول أبي حنيفةَ وأصحابه، وقالوا: قد عارض هذا الحديثُ حديثَ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ)) لكلِّ مسلم، فيُقال لهم: هذا عامٌّ وما نحن فيه خاصٌّ، وهو قاضٍ على العامِّ، لأنَّه استثناء، كأنَّه قال: الدِّين النَّصيحة إلَّا أنَّه لا يبيع حاضرٌ لبادٍ، فيُستعملان جميعًا العامَّ فيما عدا الخاصَّ.
          وقال مالك في تفسير الحديث: لا أرى أن يبيع حاضرٌ للبادي، ولا لأهل القرى، وأمَّا أهل المدن مِنْ أهل الرِّيف فليس بالبيع لهم بأس، إلَّا مَنْ كان مِنْهم يشبهُ أهلَ البادية، فإنِّي لا أحبُّ أن يبيعَ لهم حاضرٌ. وقال في البدويِّ يقدَم المدينةَ فيسأل الحاضر عن السِّعر: أكرَه أن يخبره. وقال مرَّة أخرى: لا بأس أن يشير عليه، روى عنه ابنُ القاسم القولين جميعًا.
          وقال ابن المنذِر: قد تأوَّل قومٌ نهيَه على وجه التَّأديب لا على معنى التَّحريم، لحديث: ((دَعُوا النَّاسَ..)) السَّالفِ، وليس ببيِّنٍ عندي أنَّ هذا الكلامَ يدلُّ على أنَّه تأديبٌ بل هو عندي على الحظر، وقد اختُلف في نَسْخه، وقد قدَّمناه واضحًا في باب: البيع على البيع. وفي جعله الخيارَ للبائع دِلالةٌ على صحَّة البيع إذ الفساد لا خيار فيه، قال صاحب «اللُّباب»: نسخ هذا الخيار قوله: ((البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ)).
          فرع: إذا قَدِمَ البدويُّ يريد الابتياع فتعرَّض له بلديٌّ يريد أن يبتاعَ له رخيصًا، فهل يحرُم ذلك عليه كما في البيع؟ فيه تردُّد مِنْ حيثُ البحثُ، وظاهرُ إيراد البخاريِّ هنا المنعُ.
          فائدة: في حديث طلحة بن عبيد الله في أبي داود مِنْ حديث سالم المكِّيِّ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَدِمَ بِحَلُوبَةٍ لَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم فَنَزَلَ عَلَى طَلْحَةَ، فَقَالَ لَهُ: ((إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ)) وَلَكِنِ اذْهَبْ إِلَى السُّوقِ فَانْظُرْ مَنْ يُبَايِعُكَ، فَشَاوِرْنِي حتَّى آمُرَكَ وَأَنْهَاكَ.
          ورواه ابنُ وَهْب عن عمرو بن الحارث وابن لَهيعة عن سالم أبي النَّضْر عن رجلٍ من بني تميم، عن أبيه عن طلحة. ورواه سليمان بن أيُّوب الطَّلحيُّ عن أبيه عن جدِّه، عن موسى بن طلحة عن أبيه، قال يعقوبُ بن شيبةَ في أحاديث سليمان بن أيُّوب الطَّلحيِّ وهي سبعة عشر حديثًا رواها عن أبيه عن جدِّه عن موسى بن طلحة عن أبيه: هذه الأحاديث عندي صِحاح.
          ولمَّا خرَّجه البزَّار مِنْ حديثِ ابن إسحاق عن سالمٍ المَكِّيِّ عن أبيه، قال: لا نعلمه يُروى عن طلحةَ إلَّا مِنْ هذا الوجه، ولا نعلم أحدًا قال: عن سالم عن أبيه عن طلحةَ إلَّا مؤمَّلَ بنَ إسماعيل، وغيرُ مؤمَّل يرويه عن رجل عن الأَوزاعيِّ: ليست الإشارة بيعًا.
          وعن مالك الرُّخصة في الإشارة، وقال مالك: لا يشير عليه، لأنَّه إذا أشار عليه فقد باع له. ولم يُراع الفقهاء في السِّمسار أجرًا ولا غيره، والنَّاس في تأويل الحديث على قولين: فمَنْ كَرِهَه كَرِهَه بأجرٍ وبغير أجر، ومَنْ أجازه أجازه بأجرٍ وبغير أجر.