التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: في العطار وبيع المسك

          ░38▒ بَابٌ: فِي العَطَّارِ وَبَيْعِ المِسْكِ.
          2101- ذَكر فيه حديثَ أبي موسى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ المِسْكِ وَكِيرِ الحَدَّادِ، لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ المِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ، أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَيْتَكَ أَوْ ثَوْبَكَ، أَوْ تَجِدُ مِنْه رِيحًا خَبِيثَةً).
          هذا الحديث يأتي _إن شاء الله تعالى_ في الذَّبائح، والمسك طاهرٌ بالإجماع، ولا عبرة بخلاف الشِّيعة أنَّ أصله دمٌ، قال ابن بَطَّال: واختُلف فيمَن استحبَّ المسكَ ومَنْ كرهه، والحديث حجَّة على الجواز لأنَّه _◙_ ضربَ مثلَ الجليسِ الصَّالح بصاحب المسك، وأخبر بعادةِ النَّاس في شرائه ورغبتهم في شمِّه، ولو لم يجز شراؤه لبيَّنه، وقد حرَّم الله بيع الأنجاس واستعمالَ روائح الميتة، فلا معنى لقول مَنْ كرهه، وإنَّما خرج كلامُه _◙_ في هذا الحديث على المَثل في النَّهي عن مجالسة مَنْ يُتَأَذَّى بمجالستِه، كالمغتاب والخائض في الباطل، والنَّدب إلى مجالسة مَنْ يُنَالُ في مجالستِه الخير، مِنْ ذكر الله وتعلُّم العلم وأفعال البرِّ كلِّها، وقد رُوِيَ عن إبراهيم الخليل أنَّه كان عطَّارًا، فيما ذكره ابن بَطَّال.
          ووجهُ إدخاله هذا الحديثَ في الذَّبائح ليدلَّ على تحليله إذ أصلُه التَّحريم، لأنَّه دم فلمَّا تغيَّر عن الحالة المكروهة مِنَ الدَّم وهي الزَّهَمُ وقُبْح الرَّائحة صار حلالًا بطيبها، وانتقلت حالُه، وكانت حاله كحال الخمر، فتحلُّ بعد أن كانت حرامًا بانتقال الحال. وأصل هذا في كتاب الله _تعالى_ في قصَّة موسى {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى. قَالَ خُذْهَا} [طه:20-21] فحكم لها بما انتقلت إليه، وأسقط عنها حكم ما انتقلت عنه.
          وحديث الباب حجَّة في طهارة المسك، لأنَّه لا يجوز حمل النَّجاسة في الصَّلاة ولا يأثم بذلك فدلَّ على طهارته، وممَّنْ أجاز الانتفاع به: عليٌّ وابن عمر وأنس وسلمان الفارسيُّ، ومِنَ التَّابعين: سعيد بن المسيِّب وابن سيرينَ وجابر بن زيد، ومِنَ الفقهاء: اللَّيث والأربعة وإسحاق.
          وممَّنْ خالف في ذلك عمرُ فيما ذكره ابن أبي شَيبةَ أنَّه كره المسك وقال: لا تحنِّطوني به، وكرهه عمرُ بن عبد العزيز وعطاء والحسن ومجاهد والضَّحَّاك، وعن أكثرهم: لا يصلح للحيِّ ولا للميِّت لأنَّه ميْتة، وهو عندهم بمنزلة ما قُطع مِنَ الميْتة ولا يصحُّ ذلك إلَّا عن عطاءٍ، كما قاله ابن المنذِر، والَّذي رأيته في «المصنَّف» عنه خلافه: إذ سُئِلَ: أُطَيِّبُ الميِّتَ بالمسك؟ قال: نعم، أوليس تجعلون في الَّذي تجمِّرونه المسك؟ ثمَّ ما قالوه قياسٌ غير صحيح لأنَّ ما قطع مِنَ الحيِّ يجري فيه الدَّم وليس هذا سبيلَ نافجة المسك، لأنَّها تسقط عند الاحتكاك كسقوط الشعر، وهو في معنى الجنين والبيض واللَّبن. وفي أفراد / مسلم مِنْ حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلعم: ((الْمِسْكُ أَطْيَبُ الطِّيبِ)) وهو نصٌّ يقطع الخلاف.
          وفي «سنن أبي دواد» كان له سُكَّة يتطيَّب بها. وقال ابن المنذِر: رُوِّينا عن النَّبيِّ صلعم بإسناد جيِّد: أنَّه كان له مسك يتطيَّب به. وذكره البخاريُّ هنا بلفظ ((يُحْذِيَكَ)) يعني: يعطيك. تقول العرب: حَذَوته وأحذيته، إذا أعطيتَه، والاسم الحُذْيا مقصور.
          وفيه الحضُّ على صحبة الصَّالح وتجنُّب الجليس السَّوء، كما سلف. وفي الحديث: ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)) وفيه: جواز اشتراء المسك وهو إجماع.
          و(الكِيرِ) الموضع الَّذي يجمع فيه الحدَّاد، قاله الدَّاوُديُّ، وقيل: الفرن المبني، وقيل: الزِّقُّ الَّذي ينفخ فيه.
          وقوله: (لاَ يَعْدَمُكَ) _بفتح الياء_ أي لا يعدوك. قال ابن فارس: ليس يعدمني هذا الأمر. أي: ليس يعدُوني، وضبط في أصل الدِّمْياطيِّ بضمِّ أوَّله وكسر ثالثه. قال ابنُ التِّين: وهو ما ضُبِطَ هنا. وفيه إباحة المقايسات في الدِّين، استنبطه ابن حِبَّانَ في «صحيحه».
          فائدة: (المِسْك) مذكَّر، ومَنْ أنَّثه ذهب إلى رائحته، وذكر المسعوديُّ في «مروجه» أصلَه.