التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما ذكر في الأسواق

          ░49▒ بَابُ: مَا ذُكِرَ فِي الأَسْوَاقِ.
          ذَكر فيه أثرَ عبد الرَّحمن السَّالفَ أوَّلَ البيع. ((وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ: عَبْدُ الرَّحمن دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ، وَقَالَ عُمَرُ: أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ))، وقد سلف هناك [خ¦2062]. وفعلُهما دالٌّ على فضل الكَفاف.
          2118- ثم ذكر حديث عائشة مرفوعًا: (يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ، يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ...) الحديثَ. (وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ).
          وأخرجه مسلم أيضًا.
          2119- وحديثَ أبي هريرة السَّالف في الصَّلاة: (صَلاَةُ أَحَدِكُمْ فِي جَمَاعَةٍ، تَزِيدُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً...) الحديثَ بطوله.
          وفيه: (وَلاَ يَنْهَزُهُ) أي: لا يخرجه ولا يدفعه، يُقال: نهز الرَّجل بنفسه إذا نهض، وهو بضمِّ الياء وفتحها.
          و(الْخَطْوَة) بفتح الخاء وَحُكِيَ الضَّمُّ.
          و(يُؤْذِ) يغتاب. وقال أبو هريرة: يُحدث.
          2120- وحديثَ أنسٍ: (كَانَ ◙ بالسُّوقِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا القَاسِمِ...) الحديث. وفي آخره: (تَسَمَّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي).
          2121- وفي رواية: (دَعَا رَجُلٌ بِالبَقِيعِ يَا أَبَا القَاسِمِ...) الحديث.
          2122- وحديث عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، (عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: خَرَجَ النَّبيُّ صلعم فِي طَائِفَةِ النَّهَارِ، لاَ يُكَلِّمُنِي وَلاَ أُكَلِّمُهُ، حتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: أَثَمَّ لُكَعُ؟ أَثَمَّ لُكَعُ؟) وفي آخره: (اللَّهُمَّ أَحْبِبْهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ). يريد: الحسن بن عليٍّ. وعند الإسماعيليِّ: جاء الحسن والحسين يشتدُّوا. و(اللُّكَعُ) الاستصغار، ويُقال: اللُّؤم.
          وفيه: (فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا) والسِّخاب: قلادةٌ خرزُها طِيْبٌ.
          (قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ عُبَيْدُ اللهِ _يعني ابن أبي يزيد_ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ رَأَى نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ).
          2123- 2124- وحديثَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ: (حدَّثنا ابْنُ عُمَرَ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مِنَ الرُّكْبَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم فَيَبْعَثُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ حَيْثُ اشْتَرَوْهُ، حتَّى يَنْقُلُوهُ حَيْثُ يُبَاعُ الطَّعَامُ).
          قَالَ: (وَحدَّثنا ابْنُ عُمَرَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم أَنْ يُبَاعَ الطَّعَامُ إِذَا اشْتَرَاهُ حتَّى يَسْتَوْفِيَهُ).
          وأخرجه مسلم أيضًا.
          الشَّرح: إنَّما أراد بذكر الأسواق إباحةَ المَتاجر، ودخول السُّوق والشِّراء فيه للعلماء والفضلاء، وكأنَّه لم يصحَّ عنده الحديث المرويُّ: ((شَرُّ الْبِقَاعِ الْأَسْوَاقُ وَخَيْرهَا الْمَسَاجِدُ))، وهذا إنَّما خرج على الأغلب لأنَّ المساجد يُذكر فيها اسمُ الله، والأسواق غلب عليها اللَّغطُ واللَّهو، والاشتغالُ بجمع الأموال، والكَلَبُ على الدُّنيا مِنَ الوجه المباح وغيرِه، وأمَّا إذا ذُكر الله فيه فهو مِنْ أفضل الأعمال لحديث: ((مَنْ دَخَلَ السُّوقَ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَبُنِي لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ)).
          وكذلك إذا لغا في المسجد أو لَغَطَ فيه أو عصى ربَّه لم يضرَّ المسجدَ، ولا نقصَ مِنْ فضله، وإنَّما أضرَّ بنفسه، وبالغ في إثمه. وقد رُوِيَ عن عليٍّ أنَّه قال: مَنْ عصى الله في المسجد فكأنَّما عصاه في الجنَّة، ومَنْ عصاه في الحمام فكأنَّما عصاه في النَّار، ومَنْ عصاه في المقبَرة فكأنَّما عصاه في عَرَصات القيامة، ومَنْ عصاه في البحر فكأنَّما عصاه على أكُفِّ الملائكة.
          وفي حديث عائشةَ: أنَّ مَنْ كثَّر سوادَ قومٍ في معصية أو في فتنةٍ أنَّ العقوبةَ تلزمه معهم إذا لم يكونوا مغلوبين على ذلك، لأنَّ الخسف لمَّا أخذ السُّوق عقوبةً لهم شَمِلَ الجميع، واستنبَط مِنْه مالكٌ أنَّ مَنْ وُجد مع قوم يشربون الخمرَ وهو لا يشربُ أنَّه يعاقَب، ويريد أنَّ المغلوبين على تكثير السَّواد ليسوا مِمَّنْ يستحقُّ العقوبة، لقوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} الآية [الفتح:25].
          وفيه: عَلَمٌ مِنْ أعلام النُّبُوَّة، وهو إخبارُه بما يكون. وفيه: أنَّه لا بأس بمهازَلة الصَّبيِّ وغيره إذا كان واقعًا تحت السِّنِّ والفضل، لاسيَّما إن عضد ذلك أُبُوَّةٌ لأنَّه ◙ أبوه، والجدُّ أبٌ.
          و(الْبَيْدَاءَ) المَفازة وجمعُها بِيدٌ.
          وقوله: (فِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ)، في «مستخرَج أبي نُعيم»: فيهم أشرافُهم بالشِّين المعجمة بدلَه، وعند الإسماعيليِّ: <وَفِيهِمْ سِوَاهُمْ> بدل: مِنْ أسواقهم، قال: ورواه البخاريُّ: (وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ)، وليس هذا الحرفُ في حديثنا، وأظنُّ أنَّ أسواقهم تصحيف، فإنَّ الكلام في الخسف بالنَّاس لا بالأسواق.
          قال ابنُ التِّين: ولعلَّ هذا الجيشَ الَّذين يُخسف بهم هم الَّذين يهدِمون الكعبةَ فينتقم مِنْهم، ويكون الَّذين يُبعثون على نيَّاتهم وحَضَرتْ آجالُهم بالخسف، كانوا يُنكِرون بقلوبهم ولا يَقْدِرون على غير ذلك، وقد قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، وقال: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} الآية [الأنعام:165].
          قلتُ: قد يُقال: الجيش الَّذين يهدَمون ليسوا مِنْ هذه الأمَّة. والشَّارع قال في «صحيح مسلم»: ((إِنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ هَذَا الْبَيْتَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَدْ لَجَأَ إِلَى الْبَيْتِ...)). / فذكر الحديث فإن قلتَ: فما ذنبُ مَنْ أُكره على الخروج أو مَنْ جمعتْه وإيَّاهم الطَّريق؟ قلتُ: عائشة لمَّا سألتْ قال: (يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ) فماتوا بها لما حَضَرَ مِنْ آجالهم وبُعثوا على نيَّاتهم. وحديثُ أنسٍ _يعني الثَّانيَ_ لا مناسبة له للباب، نعم ذُكر في أصله.
          وَرُوِيَ أيضًا مِنْ حديث جابرٍ وأبي حُمَيدٍ السَّاعديِّ: ((مَنْ تَسَمَّى بِاسْمِي فَلَا يَكْتَنِي بِكُنْيَتِي)). وأبي هريرة: ((لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ اسْمِي وَكُنْيَتِي، أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ، وَاللهُ يُعْطِي وَأَنَا أَقْسِمُ)). والبراءِ بن عازب: ((لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ اسْمِي وَكُنْيَتِي)). وعائشةَ: ((مَا أَحَلَّ اسْمِي وَحَرَّمَ كُنْيَتِي)) ذكرها ابن شَاهينٍ، وذكر عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد أنَّ محمَّد بن عليٍّ ومحمَّد بن أبي بكر ومحمَّد بن طلحة ومحمَّد بن سعد كانوا كلُّهم يُكْنَون بأبي القاسم، وكان لمالك بن أنس ابنٌ يُقال له محمَّد وكُنيتُه أبو القاسم، فقيل له في ذلك، فقال: لا بأس به.
          قال: وهذا الحديث يوجب أن يكون ناسخًا للأوَّل، لأنَّ وِلدان الصَّحابة كُنُوا بأبي القاسم، وقد رُوِيَ عن بعض التَّابعين أنَّه كان يقول: إذا رأينا الرجل يُكنى بأبي القاسم كنَيناه بأبي القاصم _بالصاد_ مِنْ جهة الكُرْه لذلك. قال: وحديث النَّهْي طُرُقُه لا أعلم في أكثرها علَّة.
          ومذهب الشَّافعيِّ وأهلِ الظَّاهر أنَّه لا يحلُّ التَّكنِّي بأبي القاسم لأحدٍ أصلًا، سواءٌ كان اسمُه أحمدَ أو محمدًا أم لم يكن، لظاهر الحديث.
          وفيه مذاهبُ أُخَر، أحدها: أنَّه منسوخ، وأنَّ هذا الحكمَ كان في الزَّمن الأوَّل للمعنى المذكور في الحديث ثمَّ نُسخ، فيُباح لكلِّ أحد وهو مذهب مالكٍ وجمهور العلماء.
          ثانيها: لا نسخَ، والنَّهي للتَّنزيه، قاله ابن جَرير.
          ثالثها: النَّهي عن التَّكنِّي بأبي القاسم مختصٌّ بِمَنِ اسمُه محمَّدٌ أو أحمد، ولا بأسَ بها لمن لم يكن اسمه ذلك.
          رابعها: النَّهي عن التَّكنِّي بأبي القاسم مطلقًا، وألَّا يُسمى القاسم لئلَّا يُكنى والده به.
          وشذَّ مَنْ منع التَّسمية بمحمَّد أيضًا لحديث: ((تُسَمُّونَ أَوْلادَكُمْ مُحَمَّدًا وَتَلْعَنُونَهُمْ)).
          وقوله: (وَلاَ تَكَنَّوْا) قال ابنُ التِّين: ضُبِطَ في أكثر الكتب بفتح التَّاء وضمِّ النُّون المشدَّدة، ولا أعلم لها وجهًا في تصاريف الكلام، وضُبِطَت أيضًا بضمِّ التَّاء والنُّون على وزن تُزَكُّوا، وفي بعضها بفتح التَّاء والنُّون مشدَّدة مفتوحة على حذف إحدى التَّاءين.
          و(البَقِيعِ) في الحديث: مقبرة أهل المدينة، وهو في اللُّغة المكان المتَّسع. وقال قوم: لا يكون بَقيعًا إلَّا وفيه الشَّجر، وهذا البَقيع كان ذا شجر، ثمَّ ذهب مِنْه الشَّجر وبقي الاسم.
          وقوله: (لَمْ أَعْنِكَ) أي لم أُرِدْكَ، يُقال: عَنَيْتُ بالقول كذا، أي أردتُه.
          وحديث أبي هريرة: (حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ) قال الدَّاوُديُّ: سقط بعضه على النَّاقل، وإنَّمَا أدخل حديثًا في حديثٍ، إذ ليس بيتُ فاطمةَ في سوق بني قَيْنُقاع، وإنَّما بيتُها بين أبياتِ رسول الله صلعم.
          ومعانقتُه للحسن فيه إباحةُ ذلك لغيره، واستحبَّ سفيانُ معانَقة الرَّجل للرَّجل، وكرهها مالكٌ وقال: هي بدعة، وتناظرا فيها فاحتجَّ سفيان بأنَّه ◙ فعلَ ذلك بجعفرٍ، فقال مالك، هو خاصٌّ له، فقال: ما يخصُّه بغير ذلك؟ فسكت مالكٌ.
          واللَّكَعُ أسلفنا أنَّه الاستصغار، ويُقال: اللُّؤم. وقال أبو عُبيد: هو عند العرب العَبْد. وهو في قول الأصمعيِّ: الغبيُّ الَّذي لا يتَّجه لمنطق ولا غيره، مأخوذ مِن الملاكيع، يعني: الَّتي تخرج مَعَ السَّلا مِنَ البطن. قال الأزهريُّ: والقولُ قولُ الأصمعيِّ، ألا ترى أنَّه _◙_ قال للحسن وهو صغير: ((أَيْنَ لُكَعُ)) أراد به لصغره لا يتَّجه لمنطق ولا ما يصلحه، ولم يرد أنَّه لئيمٌ ولا عبد، وفي «الموعَب»: يوصف به الحُسْنُ والرِّقُّ واللُّؤم. وفي «الجامع»: أصل اللُّكع مِنَ الكلع ولكن قُلب. وفي «الصِّحاح» اللُّكَعُ: الذَّليل. قال السُّهيليُّ: أراد: تشبيهه بالفَلُوِّ والمُهر، لأنَّه طفل كما أنَّهما كذلك، وإذا قَصَدَ بالكلام قَصْدَ التَّشبيه لم يكن إلَّا صدقًا.
          وقول سُفْيَان: (قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: رَأَيْتُ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ، أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ) أراد البخاريُّ أن يبيَّن سماعَ عبيد الله المعنعِنَ في السَّند مِنْ نافع. وادَّعى ابن التِّين أنَّ الإتيان بركعةٍ غير معمول به، وذكر ذلك عن معاوية، وذكر فعله لابن عبَّاس فقال: إنَّه فقيه.
          وقولُه في حديث ابن عمر: (حَتَّى يَنْقُلُوهُ حَيْثُ يُبَاعُ الطَّعَامُ) وفي لفظ: (حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ). ولمسلم مِنْ حديث أبي هريرة: ((حَتَّى يَكْتَالَهُ)) وهو مِنْ أفراده، وانفرد به أيضًا مِنْ حديث جابرٍ. قال ابن عبد البرِّ: وفي حديث القاسم بن محمَّد: ((نَهَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدٌ طَعَامًا اشترى بِكَيْلٍ حتَّى يَسْتَوْفِيَهُ)) قال: والقَبض والاستيفاء سواءٌ، ولا يكون ما بيع مِنَ الطَّعام على الكَيل والوَزن مقبوضًا إلَّا كيلًا أو وزنًا. وهذا لا خلافَ فيه، فإنْ وقع البَيع في الطَّعام على الجزاف، فقد اختُلف في بيعه قبلَ قبضه وانتقاله.
          وقال ابن التِّين في قوله: (كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مِنَ الرُّكْبَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم فَيَبْعَثُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ حَيْثُ اشْتَرَوْهُ، حتَّى يَنْقُلُوهُ حَيْثُ يُبَاعُ الطَّعَامُ): هذا للرِّفق بأهل السُّوق، ومعناه أنَّهم لم يتلقَّوُا الرُّكبان لعلَّهم قَدِموا معهم، أو مَرُّوا بهم أو لقُوهم مِنْ غير قصد التَّلقِّي، ويدلُّ عليه اشتراء النَّبيِّ صلعم مِنْ جابر وعمر. وهذا الحديث أبينُ ما رُوِيَ عن ابن عمر في هذا، وقد روى مالك عنه: ((كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ فَيَبْعَثُ إِلَيْهِمْ مَنْ يَأْمُرهُمْ بِانْتِقَالِه))، فتأوَّل قومٌ ذلك أنَّهم أُمروا بالانتقال ليوسِّعوا على أهل الأسواق، وتأوَّله قومٌ على أنَّ الجِزاف مِنَ الطَّعام لا يُباع حتَّى يُنقل، وهذا قولُ أبي حنيفة والشَّافعيِّ.
          واختلف قول مالكٍ في استحباب ذلك، فعنه في «المدوَّنة»: لا بأس ببيعه قبلَ قبضه، قال القاضي في «إشرافه»: إذا خَلَّى البائع بينه وبينه، وعنه في «العتبيَّة» كراهة بيعه حتَّى يُنقل، وبه قال ابنُ حَبيب وابن الجلَّاب. وهذا الحديث هنا مبيِّنٌ أنَّهم كانوا يَشترون مِنَ الرُّكبان، وقيل: إنَّما مُنع مِنْ بيع الجِزاف قبل نقله؛ لئلَّا يشتريَ مِنْه الَّذي باعه فيكونَ دراهمَ بدراهمَ أكثرَ مِنْها. وقد فسَّره ابن عبَّاس فقال: تلك دراهمُ بدراهمَ، والطَّعام مرجَأٌ.
          وقوله في حديث أبي هريرة: (لاَ يُكَلِّمُنِي وَلاَ أُكَلِّمُهُ) قد يكون ذلك لأمرٍ قد شغل ضميرَه، أو لفكرٍ في أمرِ مَعاده، ولم يكلِّمه أبو هريرة لِمَا أحسَّ مِنْه، وهذا كان شأنَهم إذا لم يروا مِنْه نشاطًا كفُّوا عن كلامه إلى أن يحدِّث ما يسألونه عنه.
          وفي حديث: (اللَّهُمَّ أَحْبِبْهُ / وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ) يقال: أَحَبَّ يُحِبُّ وهي اللُّغة المشهورة، وَحُكِيَ حَبَّ ثلاثيٌّ، وحكى المبرِّدُ قراءة: ▬يُحِبَّكُمُ اللهُ↨ كأنَّه مِنْ حَبَبْتُ وأُدغم في موضع الجزم، وهو مذهب تميمٍ وقيسٍ وأسدٍ، ورُدَّ عليه بأنه: يُحببكُمُ اللهُ _بإظهار التَّضعيف وفتح الباء مِنْ يَحِبُّ_ ولا يكادون يقولون «حَبَّ» في الماضي، إنما يُقال في المستقبل فقط، هذا هو المشهور، على أنهم قالوا في يَحِبُّ أيضًا: إنَّها لغة، وقال غيره: إنَّه شذوذٌ، وفي المثل السَّائر: مَنْ حَبَّ طَبَّ.