التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ذكر الخياط

          ░30▒ بَابُ: ذِكْرِ الخَيَّاطِ.
          2092- ذَكر فيه حديثَ أنسٍ: (إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللهِ صلعم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، قَالَ أَنَسٌ: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم خُبْزًا وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، فَرَأَيْتُ النَّبيَّ صلعم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ القَصْعَةِ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ).
          وفي لفظٍ: ((فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ إِلَيْهِ)) هذا الحديثُ يأتي في الأطعمة أيضًا، وأخرجه مسلم وأبو داودَ والتِّرمِذيُّ في الأطعمة، وقال: حسن صحيح، والنَّسائيُّ في الوليمة.
          وفيه جوازُ أكلِ الشَّريف طعامَ الخيَّاط والصَّائغ وإجابتِه إلى دعوته. وفيه مؤاكلة الخَدم، وأنَّ المؤاكل لأهله وخدمِهِ مباحٌ له أن يَتْبع شهوتَه حيث رآها إذا علم أنَّ ذلك لا يُكرَه مِنْه، وإذا لم يعلم ذلك فلا يأكل إلَّا ممَّا يليه. وقد سُئِلَ مالكٌ عن ذلك فأجاب بهذا الجواب.
          وفيه دليلٌ على جواز الإجارة خلافًا لِمَنْ لا يُعتدُّ به، لأنَّها ليست بأعيانٍ مرئيَّة ولا صفاتٍ معلومةٍ. وفي صنعة الخِياطة معنًى ليس في سائر ما ذكره البخاريُّ مِنْ ذِكر القَيْن والصَّائغ والنَّجَّار، لأنَّ هؤلاء إنَّما تكون مِنْهم الصَّنعة المحضة فيما يستصنعه صاحب الحديد والخشب والذَّهب والفضَّة، وهي أمور مِنَ الصَّنعة يوقف على حدِّها ولا يختلط بها غيرها، والخيَّاط إنَّما يخيط الثَّوب في الأغلب بخيوطٍ مِنْ عنده فيجتمع إلى الصَّنعة الآلةُ، واحدٌ مِنْهما معناه التِّجارة والآخرُ الإجارة، وحصَّة أحدهما لا تتميَّز مِنَ الأخرى، وكذلك هذا في الخرَّاز والصَّبَّاغ إذا كان يخرُزُ بخيوطه ويصبُغُ هذا بصَبْغِه على العادة المعتادة فيما بين الصنَّاع، وجميع ذلك فائد في القياس، لأنَّ الشَّارع وجدهم على هذه العادة أوَّلَ زمنِ الشَّريعة فلم يغيِّرها، إذ لو طُولبا بغيرها شقَّ عليهم فصار بمعزلٍ عن القياس، والعمل به ماضٍ صحيحٌ لما به مِنَ الإرفاق، قاله أجمعَ الخطَّابيُّ.
          وفيه تواضعُه صلعم إذ أجاب دعوةَ الخيَّاط وشبهِهِ، وقد اختُلف في إجابة الدعوة هل هي على الوجوب أو على النَّدْب؟ والأظهر عندنا أنَّها في العرس واجبة، وفيه إتيانُه منازلَ أصحابه، وفيه الائتمار بأمرهم، وقد قال شعيب ◙: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] فتأسَّى به في الإجابة.
          وفيه الإجابة إلى الثَّريد، وهو خير الطَّعام. و(الدُّبَّاءُ) _ممدود_ القرع، جمع دبَّاءة، وفيه لغة بالقصر، وأنكرها القُرْطُبيُّ، ووقع في «شرح المهذَّب» أنَّه القرع اليابس. والخبز الَّذي جاء به الخيَّاط كان مِنْ شعير كما ذكره الإسماعيليُّ، وإنَّما تتبَّعه مِنْ حوالَيِ القصعة لأنَّ الطَّعام كان مأكلًا مختلفًا، فكان يأكل ممَّا يعجبُه مِنْه وهو الدُّبَّاء ويترُك ما لا يعجبه وهو القَديد. قال ابنُ التِّين: وفيه جوازُ ذلك إذا أكل مع خادمِه إذا كان في القَصعة شيءٌ مفرَد، وحديث: ((كُلْ ممَّا يَلِيكَ)) لأنه لم يكن معه خادمُه، وكان في القَصعة شيءٌ متماثل، وقول أنسٍ: (فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّهَا مِنْ يَوْمِئِذٍ) حقيقٌ أن يحبَّ ما أحبَّ نبيُّه.
          وقوله: (مِنْ حَوَالَيِ القَصْعَةِ) يقال: رأيت النَّاس حولَه وحولَيه وحوالَه وحوالَيه، والجمع أحوال. وإلقاء أنس له الدُّبَّاء دليلٌ على جواز مناوَلة الضِّيفان بعضِهم بعضًا، ولا نكيرَ على فاعلِه، نعم، المكروه أن يتناول / شيئًا مِنْ أمام غيره أو مِنْ مائدةٍ أخرى، فقد كَرِهه ابن المبارك، ويأتي في الأطعمة إن شاء الله تعالى كما نبَّهنا عليه.
          فائدة: كان أيُّوب خيَّاطًا، وأوَّل مَنْ خاط الثِّيابَ ولبسَها إدريسُ ◙ وكانوا قبله يلبَسون الجلود. وسيأتي أنَّ إبراهيم كان عطَّارًا، وأنَّ زكريَّا كان نجَّارًا، وأجَّر موسى نفسه على الرَّعي صلَّى الله وسلَّم عليهم [خ¦201].