التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التجارة في البحر

          ░10▒ بَابُ: التِّجَارَةِ فِي البَحْرِ.
          (وَقَالَ مَطَرٌ: لاَ بَأْسَ بِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ اللهُ فِي القُرْآنِ إِلَّا بِحَقٍّ، ثمَّ تَلاَ: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر:12] الفلك: السُّفن، الواحد والجميع سواء، وقال مجاهد: تَمْخَر السُّفنُ الرِّيحَ، ولا تمخَر الرِّيحُ مِنَ السُّفن إلَّا الفلكَ العِظام).
          2063- (وقال اللَّيث: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، خَرَجَ فِي البَحْرِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ...) وَسَاقَ الحَدِيثَ.
          الشَّرح: حديث أبي هريرة هذا سلف الكلام عليه في الزَّكاة في باب: ما يُستخرج مِنَ البحر، ووصلناه، وما ذكره عن مطر _وهو ابنُ طَهْمانَ الورَّاقُ_ مِنِ استدلاله بالآية حسنٌ لأنَّ الله _تعالى_ جعل تسخير البحر لعباده لابتغاء فضله مِنْ نِعمه الَّتي عدَّدها لهم، وأراهم في ذلك عظيم قدرته، وسخَّر الرِّياح باختلافها تحمِلُهم وتردِّدُهم، وهذا مِنْ عظيم آياته، ونبَّهَهُم على شكره عليها بقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر:12] وهذه الآية في سورة فاطر، وأمَّا الَّتي في النَّحل وهي: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا} [النحل:14] بالواو، وما ذكره البخاريُّ في الفلك لائح وهو قولُ أكثر أهل اللُّغة كما قال ابنُ التِّين، ودليله في القرآن: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس:22] وقال في أخرى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41] فأجراه مرَّة على حكم الجمع، ومرَّة على حكم الإفراد، وقيل: هو جمع، والسُّفن جمع سفينة، قال ابنُ سِيدَهْ: سُمِّيت سفينةً لأنَّها تَسْفِنُ وجهَ الماء أي تَقْشِرُه، فَعِيلة بمعنى فاعلة، والجمعُ سِفَانٌ وسُفُنٌ وسَفينٌ، قلت: والسَّفَّان صاحبُها، وواحد الفُلْكِ فَلَكٌ بفتح اللَّام، مثل أُسْد وأَسَد، وتُذكَّر وتُؤنَّث كما قال القزَّاز.
          وأثر مجاهد يريد به تفسير {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر:12] والمَخْرُ في اللُّغة: الشَّقُّ، يُقال: مَخَرَتِ السَّفينةُ تمخَرُ وتمخُرُ إذا شقَّت الماءَ وسمعتَ لها صوتًا، وذلك عند هبوب الرِّياح، وقيل: المَخْرُ: الصَّوت، فالرِّيح تصوِّت السَّفينةَ، والفُلْكُ أيضًا تصوِّت الرِّيحَ، فلعلَّه يريد أنَّ السُّفن تمخَر مِنَ الرِّيح وإن صغرت أي تصوِّت، والرِّيح لا تمخر، أي لا تصوِّت إلَّا مِنْ كبار السُّفن، لأنَّها إذا كانت عظيمةً صوَّت الرِّيحُ، فأسقط مجاهدٌ {فِيْ}، فيقرأ {الفُلكَ} بالنَّصب، وفي خفضِه قولٌ آخر ليس ببيِّن، وتصحيح الكلام: فلا تمخر الرِّيح مِنَ السُّفن إلَّا العِظامَ.
          وحديث الخشبة في الذي تسلَّف المال وأرسله في البحر فيه إباحة التِّجارة فيه وركوبِه.
          قال الدَّاوُديُّ: وأتى به لأنَّه صلعم لم يكن ليتحدَّث / بما لا فائدة فيه، فذكره ليتأسَّى به، ويردَّ قول مَنْ منَع ركوبَهُ، في إبَّان ركوبِه وهو قولٌ يُروى عن عمر أنَّه كتب إلى عمرو بن العاصي يسأله عن البحر، فقال: خَلقٌ عظيم، يركبه خلقٌ ضعيف، دُور على عُود، فكتب إليه عمر ألَّا يركبَه أحدٌ طول حياته، فلمَّا كان بعد عمر لم يزل يُركَب حتَّى كان عمر بن عبد العزيز فاتَّبع فيه رأي عمر، وسيأتي هذا المعنى في الجهاد في باب: ركوبه إن شاء الله [خ¦2894]، ومَنعُ عمر إنَّما كان لشدَّة شفقته على المسلمين، ولمَّا حفرَ عمرو بن العاصي البحر ووصله إلى عمر خرج إليه واستبشر بما حمل إليه مِنَ الميرة وغيرها، وكان ذلك عن إذنه، كما ذكره ابن عبد الحكم وغيره، وإذا كان الرَّبُّ _جلَّ جلاله_ قد أباح ركوبَهُ للتِّجارة، فركوبُه للحجِّ والجهاد أجوَزُ، ولا حجَّة لأحدٍ مع مخالفة الكتاب والسُّنَّة، وأمَّا إذا كان إبَّان اِلتِجَاجِهِ فالأمَّة مجمعة أنَّه لا يجوز ركوبه، لأنَّه تعرُّضٌ للهلاك وقد نهى الله عبادَه عن ذلك بقوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] وبقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] ولم يزلِ البحر يُركَب في قديم الزَّمان، ألا ترى إلى ما ذكر في هذا الحديث أنَّه رُكِبَ في زمن بني إسرائيلَ، فلا وجه لقول مَنْ منع ركوبَهُ.