التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: لا يبيع على بيع أخيه ولا يسوم على سوم أخيه حتى يأذن له

          ░58▒ بَابُ: لاَ يَبِيعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلاَ يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، حتَّى يَأْذَنَ لَهُ أَوْ يَتْرُكَ.
          2139- ذَكر فيه حديثَ ابن عمر أنَّ رسول الله صلعم قال: (لاَ يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ).
          2140- وحديثَ أبي هريرة: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلاَ يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلاَ تَسْأَلُ المَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا).
          هذان الحديثان أخرجهما مسلم أيضًا. وحديثُ ابن عمر يأتي أيضًا في باب: النَّهي عن تَلقِّي الرُّكبان.
          وفيه: النَّهي عن بيع بعضٍ على بيع بعض، ولا يخطُب الرَّجل على خِطبة أخيه حتَّى يتركَ الخاطبُ قبله، أو يأذن له الخاطبُ.
          قال صاحب «المطالع»: يأتي كثيرٌ مِنَ الأحاديث على لفظ الخبر، وقد يأتي بلفظ النَّهي، وكلاهما صحيح.
          وقال ابن الأثير: كثير مِنْ روايات الحديث ((لاَ يَبِيعُ)) بإثبات الياء، والفعل غير مجزوم، وذلك لحنٌ وإن صحَّت الرواية فتكون لا نافيةً، وقد أعطاها معنى النَّهي، لأنَّه إذا نفى أن يوجد هذا البيعُ، فكأنَّه قد استمرَّ عدمُه، والمراد مِنَ النَّهي عن الفعل إنَّما هو طلبُ إعدامِه أو استبقاءُ عدمه، فكان النَّفي الوارد مِنَ الواجب صدقه يفيد ما يُراد مِنَ النَّهي، ولمَّا قرَّر ابنُ حزمٍ حرمةَ ذلك _أعني البيعَ على البيع والسَّومَ على السَّوم وأنَّ الذِّمِّيَّ كالمسلم فيه وأنَّه إن فعل فالبيعُ مفسوخ_ قال: هذا خبرٌ معناه الأمر، لأنَّه لو كان معناه الخبرَ لكان خُلْفًا لوجود خلافه، والخُلف مقطوع نُبعده عن الشَّارع.
          وقال النَّوويُّ: في جميع النُّسخ: ((وَلَا يَسُومُ)) _بالواو_ يعني في مسلم، وكذا (لاَ يَخْطُبُ) مرفوع وكلاهما لفظُه لفظُ الخبر، والمراد به النَّهي، وهو أبلغُ في النَّهي، لأنَّ خبر الشَّارع لا يُتصوَّر وقوعُ خلافه، والنَّهي قد يقع خلافه، فكان المعنى عاملوا هذا النَّهي معاملةَ الخبر المتحتِّم.
          فإن قلتَ: ترجم على السَّوم، ولم يذكره. قلتُ: كأنَّ البيع هنا السَّومُ، وبه صرَّح مالك في «الموطَّأ».
          وقال أبو عبيد: قال أبو عبيدة وأبو زيد وغيرهما: البيع هنا الشِّراء، والنَّهي وقع عليه لا على البائع، لأنَّ العرب تقول: بعتُ الشَّيء بمعنى اشتريتُه. قال أبو عبيد: وليس للحديث عندي وجهٌ غيره، كما أنَّ الخاطب هو الطَّالب.
          فإن قلتَ: ترجم حتَّى يأذن له أو يتركَ، ولم يذكره. قلت: ذكره في الباب المذكور في الخِطبة على الخِطبة، فكأنَّه أشار إليه مِنْ باب لا فارق.
          وحقيقة البيع على البيع: أن يأمر المشتريَ بالفسخ، ليبيعه مثله في مجلس خيار المجلس والشَّرط، والمعنى في تحريمه أنَّه يوغِر الصُّدورَ، ويورثُ الشَّحناء، ولهذا لو أذن له في ذلك ارتفع التَّحريم على الأصحِّ. وفي معناه الشِّراء على الشِّراء قبل لزومه بأن يأمر البائعَ بالفسخ ليشتريَه، وسيأتي في البخاريِّ في الشروط [خ¦2723]، بلفظ: ((لَا يَزِيدنَّ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ)) وأخرجه مسلم بلفظ: ((لَا يَزِيدُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ)).
          وأمَّا السَّوم على سوم غيره، فهو أن يأتيَ الرَّجل قد أنعم لغيره في بيع سِلعته بثمنٍ، فيزيده ليبيع مِنْه، أو يأتيَ إلى المشتري فيعرض عليه مثلَها أو أجود مِنْها بأنقصَ مِنْ ذلك. وفي كلام الشَّيخ أبي حامد أنَّ هذا سومٌ، والأوَّل استيام، والمعنى في حرمته ما فيه مِنَ الإيذاء والقطيعة والعداوة، وسواء كان ذلك الغير مسلمًا أو كافرًا، وبه صرح ابن حزم الظاهري.
          وفي الكافر وجهٌ لابن حَرْبَوَيْهِ، وهو قول الأوزاعيِّ. قال ابنُ التِّين: وأجمع العلماء أنَّ حكم الذِّمِّيِّ كالمسلم في ذلك إلَّا الأوزاعيَّ فإنَّه أجازه. قلت: والظَّاهر جريانه في البيع على بيعه أيضًا.
          ولفظ (الأخِ) في الحديث خرج مخرجَ الغالب. وقام الإجماع على كراهة سوم الذِّمِّيِّ على مثله، نقله ابن بَطَّال، والشَّافعيُّ في «رسالته» توقَّف في صحة هذا النَّهي، فقال البَيْهَقيُّ عَقِبَه: هو ثابتٌ مِنْ أوجهٍ، وإنَّما يحرم ذلك بعد استقرار الثَّمن، وأمَّا ما يُطاف به فيمَنْ يزيد فطلبه طالب فلغيره الزِّيادة، لأنَّه _◙_ باع قَدَحًا وحِلْسًا فيمَنْ يزيدُ، رواه أصحاب «السُّنن الأربعة» مِنْ حديث أنس، وحسَّنه التِّرمِذيُّ.
          فرعٌ: إنَّما يحرم أيضًا إذا حصل التَّراضي صريحًا، فإن لم يصرِّح ولكن جرى ما يدل على التَّراضي كأشاور عليك، وكذا إن سكت، فالأصح لا تحريم، وقال بعض المالكيَّة: لا يحرم حتَّى يرضَوا بالزَّوج / ويُسمَّى المَهر، واستُدلَّ بقول فاطمةَ بنت قيس: خطبني أبو جَهْم ومعاوية، فلم ينكر الشَّارع ذلك، بل خطبها لأسامة. وقد يُقال: لعلَّ الثَّانيَ لم يعلم بخطبة الأوَّل، وأمَّا الشَّارع فأشار بأسامة، لأنَّه خَطب ولم يعلم بأنَّها رضيت بواحد مِنْهما ولو أخبرته لم يُشر عليها. وقال القُرْطُبيُّ: اختلف أصحابنا في التَّراكن فقيل: هو مجرَّد الرِّضا بالزَّوج والميل إليه، وقيل: تسمية الصَّداق. قال: وهذا عند أصحابنا محمولٌ على ما إذا كانا شكلين. وزعم الطَّبريُّ أنَّ النَّهي هنا منسوخ بخطبته _◙_ فاطمة لأسامة. ثمَّ اعلم أنَّه قام الإجماع على تحريم ما أسلفناه كما تقرَّر، فلو خالف وعَقد فهو عاصٍ، وينعقد البيع عندنا وعند أبي حنيفة وآخرين.
          وقال داود: لا ينعقد، وبه صرَّح ابن حزم مِنْهم كما سلف، وعن مالك روايتان كالمذهبين. وقال جماعة من أصحابه: يفسخ قبل الدخول لا بعده، وجمهورهم على إباحة البيع والشراء فيمَنْ يزيد، وبه قال الشَّافعيُّ كما سلف، وكرهه بعض السلف.
          فصل: وأمَّا بيعُ الحاضر للبادي فهو أن يَقْدَمَ غريبٌ بمتاع تعمُّ الحاجة إليه ليبيعَه بسعر يومه، فيقول البلديُّ له: اتركه عندي لأبيعه على التَّدريج بأغلى.
          وفي مسلم مِنْ حديث جابر: ((دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ)) والمعنى فيه التَّضييقُ على النَّاس، وأهلُ الحاضرة أفضلُ، لإقامتهم الجماعات وعلمهم.
          واختُلف في أهل القُرى هل هم مرادون بهذا الحديث؟ فقال مالكٌ: إن كانوا يعرفون الأثمان فلا بأسَ به، وإن كانوا يشبهون البادية فلا يُباع ولا يُشار عليهم.
          واختُلف هل يبيع مَدنيٌّ لمصريٍّ أو عكسه؟ فمنعه مالك واستخفَّه في «العتبيَّة». واختُلف إذا أنفذ البادي متاعه هل يبيعه الحضريُّ؟ منعه ابنُ القاسم وابن حَبيب، وأجازه الأبْهريُّ. واختُلف هل يشتري له؟ فأجازه في «كتاب محمَّد» و«العتبية» مالكٌ، ومنعه ابن حَبيب.
          فرع: لو وقعَ البيع فقال ابن القاسم: يُفسخ حَضَرَ البدويُّ أو بَعَثَ بالسِّلعة، ورواه ابن حَبيب لمالك، وقاله أصبغُ في بيع المِصْريِّ للمَدَنيِّ. وقال ابن عبد الحَكم: لا يُفسخ. ورواه سُحْنُون عن ابن القاسم، وهو قولُ الشَّافعيِّ محتجًّا بحديث: ((دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ)) ولم يقع الفسادُ في ثَمن ولا مثمَّن ولا في عقد البيع، فلا فسخ.
          فرع: فإن فَعل وباع فهل يؤدَّب؟ قال ابن القاسم: نعم إنِ اعتاده. وقال ابنُ وَهْب: يُزجرُ عالمًا كان أو جاهلًا، ولا يؤدَّب.
          فصل: والنَّجْش: هو أن يَزيد في الثَّمن لا لرغبةٍ بل ليخدعَ غيره.
          و(تَنَاجَشُوا) تَفَاعَلُوا مِنَ النَّجْش، وأصله الخَتْلُ، يُقال: نَجَشَ الرَّجل إذا اختال وخدع، وأُنكر ذلك على قائله، وإنَّما هو الإثارة والإطراء. والأصحُّ عندنا أنَّه لا خِيار خلافًا لمالكٍ وابن حَبيب، ووفاقًا لأبي حنيفةَ. وعن مالكٍ: له الخيارُ إذا عَلم، وهو عيبٌ مِنَ العيوب كما في المصرَّاة. وقال ابن حَبيب: لا خيارَ إذا لم يكن للبائع مواطأة. وقال أهلُ الظَّاهر: البيع باطلٌ مردود على بائعه إذا ثبَت ذلك عليه. وكأنَّ البخاريَّ بوَّب على قولهم كما سيأتي. وادَّعى ابن بَطَّال أنَّ قول مالكٍ أعدلُها وأولاها بالصَّواب.
          فرع: قال ابنُ القاسم في السَّائم والخاطب: لا يُفسخ ويُؤدَّب. وقال غيره: يُفسخ.
          فصل: الخِطبة على خِطبة مَنْ صُرِّح بإجابته حرامٌ إلَّا بإذنه كما سلف، فإن لم يُجَب ولم يُرَدْ لا يَحرم. وعند المالكيَّة: إذا تراكَنَا أو سمَّيا صَداقًا أو اتَّفقا ولم يبقَ إلَّا العقدُ أقوالٌ عندهم، وسيأتي إيضاحُه في موضعه.
          فصل: قوله: (لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا) هذا مثلُ قولِه: (وَلاَ تَسْأَلُ المَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا) إرادة ضررِها فتصير بمنزلة مَنْ كَفَأ إناءها، أي: قَلَبه على وجهه. وقيل: هو أن يخطُب الرَّجل المرأةَ وله امرأةٌ فتشترطَ عليه طلاقَ الأولى لتنفردَ به. و(تَكْفَأَ) _بفتح التَّاء والفاء_ كذا في رواية أبي الحسن. قال ابنُ التِّين: وهو ما سمعناه، ووقَع في بعض رواياتِه كسرُ الفاء، وثالثةٍ بضمِّ التَّاء. وذَكر الهَرَويُّ الحديث وقال: لتكتفئ: تَفْتَعِل مِنْ كَفَأْتَ القِدرَ إذا كَبَبْتَه لتُفْرِغَ ما فيها، وهذا مثلُ إمالةِ الضَّرَّةِ حقَّ صاحبتها مِنْ زوجها إلى نفسها. وقال الكِسائيُّ: كفأتُ الإناءَ: كَبَبْتُهُ، وكَفَأْتُه وأَكْفَأْتُه: أَمَلْتُه، ومِنْه الحديث: ((كَانَ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا)). أي تمايَل إلى قدَّامُ كما تَتكفَّأ السَّفينةُ في جَرْيها. قال: والأصل فيه الهمزة تركت.