التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من أحب البسط في الرزق

          ░13▒ بَابُ: مَنْ أَحَبَّ البَسْطَ فِي الرِّزْقِ.
          2067- ذَكر فيه حديثَ أنسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ).
          هذا الحديثُ أخرجه مسلم أيضًا وخرَّجه مِنْ حديث أبي هريرة أيضًا، ومحمَّدٌ الرَّاوي عن أنسٍ هو الزُّهْريُّ، وأخرجه البخاريُّ في الأدب عن ابن بُكَير عن اللَّيث، عن عُقيلٍ عن ابن شِهابٍ، وشيخ البخاري (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ الكِرْمَانِيُّ) هو محمَّد بن إسحاقَ بن منصور بصريٌّ، مات سنة أربع وأربعين ومئتين.
          و(يُنْسَأَ) _مهموز_ أي يؤخَّر، وهو رباعيٌّ، أنسأ اللهُ أجلَه ونَسَأَ الله في أجلِه، والأثر _مفتوح الهمزة والثَّاء_ باقي الأجل. قال كعب بن زُهَير:
والمَرْءُ ما عاشَ مَمْدودٌ له أَجَلٌ                     لا تَنْتَهي العَيْنُ حتَّى يَنْتَهي الأَثَرُ
          وفي الحديث إباحةُ اختيار الغنى على الفقر، وسيأتي بسطه في الرِّقاق، وجملة مِنَ الباب في الأدب في باب: مَنْ بُسط له في الرِّزق لصلة الرَّحم إن شاء الله [خ¦5985]، ولا تَعارُض بينه وبين حديث: ((يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ))، وفيه: ((وَيُؤْمَرُ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ)) لأمرين:
          أحدهما: أنَّ معنى البسط في الرِّزق البركةُ فيه لأنَّ صلته أقاربَه صدقةٌ، والصَّدقة تربي المال وتزيد فيه فينمو بها ويزكو.
          ومعنى قوله: (يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ) يبقى ذكرُه الطَّيِّب وثناؤه الجميل مذكورًا على الألسنة فكأنَّه لم يمت، وبه قال القاضي عِياضٌ فقال: المراد بقاء الثَّناء الجميل بعد الموت، والعرب تقول: الثَّناء يعارِض الخلودَ، قال الشَّاعر:
إنَّ الثَّناءَ هو الخلود                     كما يُسمَّى الذَّمُّ موتًا
          قال:
قد ماتَ قومٌ وهمْ في النَّاس أحياءُ
          يعني: بسوء أفعالهم وقُبح ذكرهم.
          ثانيهما: أنَّه يجوز أن يُكتب في بطن أمِّه أنَّه إن وصل رَحِمَهُ فإنَّ رزقه وأجله كذا، فإن لم يصله فكذا لدِلالة قوله _تعالى_ في قصَّة نوح ◙: اتقوا الله {وَأَطِيعُونِ. يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح:3-4] يريد أجلًا قد قضى به إليكم إن أطعتم يؤخِّركم إليه، لأنَّ أجل الله إذا جاء في حال معصيتِهم لا يؤخَّر عنهم، قال تعالى: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:98] وهو الهلاك على الكفر {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] فهذا كلُّه مِنَ المكتوب في بطن أُمِّه أيَّ الأجلين استحقَّ، لا يؤخَّر عنه، ويؤيِّده قوله تعالى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] وقد رُوِيَ عن عمر ما هو تفسير لهذه الآية أنَّه كان يقول في دُعائِه: اللَّهم إن كنتَ كتبتَني عندك شقيًّا فامحُني واكتبني سعيدًا، فإنَّك تقول: {يَمْحُو..} الآية. وفي الحديث الحضُّ على صلة الرَّحم.
          قال الدَّاوُديُّ: وفيه دليلٌ على فضل الكَفاف، والزِّيادة كما أسلفناه مؤوَّلة بأنَّه سبق في علم الله أنْ سيكون، وقيل: الزِّيادة حقيقةٌ لو لم يَصِلْ عُمْرَهُ رَحِمَهُ ما زِيدَها في أَجَلِهِ، وليس في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ما يدفعه لأنَّ معناه الأجل الَّذي يكون بصلة الرَّحم لا الَّذي يكون بقطعِها، وكذا الكلامُ في الرِّزق، ودعا الشَّارع لأنس: ((اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ، وَوَلَدَهُ)) فأُجيبت دعوته ولولاها لم يكن بتلك الكثرة، فلما كان الدُّعاء يزيد في الرِّزق ويدفع البلاء ويبرئ المريض كذلك صلة الرَّحم، وكما كان الدَّواء والرُّقى يبرئان المريض.
          وفي «التَّرغيب والتَّرهيب» للحافظ أبي موسى المَدينيِّ مِنْ حديث / عبد الرَّحمن بن سَمُرة _وقال حسن جدًّا_ مرفوعًا: ((إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ عَجَبًا رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي أَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ، فَجَاءَ بِرُّ وَالِدَيْهِ فَرَدَّ مَلَكَ المَوتِ عَنْهُ...)) الحديث، ومِنْ حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((بِرُّ الْوَالِدَيْنِ يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ)) وفيه الوَقَّاص، وفي حديث داودَ بن المحبَّر عن عبَّاد عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، وأبي سعيد يرفعانه: ((ابْنَ آدَمَ اتَّقِ رَبَّكَ وَبِرَّ وَالِدَيْكَ وصِلْ رَحِمَكَ، يُمَدَّ لَكَ فِي عُمُرِكَ وَيُيَسَّرْ لَكَ يُسْرُكَ وَيُجَنَّبْ عُسْركَ وَيُيَسَّرْ لَكَ فِي رِزْقِك)) ومِنْ حديث داود بن عيسى بن عليٍّ، عن أبيه، عن ابن عبَّاس مرفوعًا: ((إِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيْدُ فِي العُمْرِ)) قال أبو موسى، وفي الباب عن عليٍّ وابن عمر وأبي أُمامة ومعاويةَ بن حَيْدَةَ وأمِّ سَلَمة، ومِنْ حديث زبَّانَ بن فائدٍ، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه مرفوعًا: ((مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ طُوبَى لَهُ، زَادَ اللهُ فِي عُمْرِهِ)) ومِنْ حديث عبد الله بن الجَعْد عَن ثَوبانَ مرفوعًا: ((لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا بِرُّ الوَالِدَيْنِ، وَلَا يَزِيْدُ فِي الرِّزْقِ إِلَّا صِلَةُ الرَّحِمِ)) ومِنْ حديث عليٍّ أنَّه سأل رسول الله صلعم عن قوله _تعالى_: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] فقال: ((هِيَ الصَّدَقَةُ عَلَى وَجْهِهَا، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَاصْطِنَاعُ الْمَعْرُوْفِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تُحَوِّلُ الشَّقَاءَ سَعَادَةً وَتَزِيدُ فِي الْعُمُرِ وَتَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ)) زاد محمَّد بن إسحاقَ العُكَّاشيُّ: ((يَا عَليُّ مَنْ كَانَت فِيْهِ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِه الأَشْيَاء أَعطَاهُ الثَّلَاثَ خِصَال)).
          وَرُوِيَ عن عمرَ وابنِه وابن عبَّاس وجابر بن عبد الله بن رئابٍ نحوه. ومِنْ حديث عِكْرِمة بن إبراهيم، عن زائدةَ بن أبي الرُّقاد عن موسى بن الصَّبَّاح عن ابن عمرٍو مرفوعًا: ((إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَصِلُ رَحِمَهُ وَمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَيَزِيدُ اللهُ فِي عُمُرِهِ ثَلَاثِيْنَ سَنَةً، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَقْطَعُ رَحِمَهُ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً فَيُنْقِصُ اللهُ _تَعَالَى_ عُمْرَهُ حتَّى لَا يَبْقَى فِيْهِ إِلَّا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ)). قال: هذا حديثٌ حسن لا أعرفه إلَّا بهذا الإسناد، ومِنْ حديث إسماعيل بن عيَّاش عن داودَ بن عيسى قال: مكتوب في التَّوراة: صلة الرَّحم وحسن الخلق وبرُّ القرابة تعمر الدِّيار وتكثر الأموالَ وتزيد في الآجال وإن كان القوم كفَّارًا، قال أبو موسى: يُرْوَى هذا مِنْ طريق أبي سعيد الخُدْريِّ مرفوعًا عن التَّوراة، فإن قلت: أليس فُرِغَ مِنَ الرِّزق والأجل؟ قلت: عنه خمسة أجوبة:
          أحدها: أن يكون المرادُ بالزِّيادة توسعةَ الرِّزق وصحَّةَ البدن، فإنَّ الغِنى يُسمَّى حياةً والفقرَ موتًا.
          ثانيها: أن يُكتب أجلُ العبد مئةَ سنةٍ، ويُجعل تركيبه تعمير ثمانين سنةً، فإذا وصل رحمَه زاده الله في تركيبه فعاش عشرين أخرى، قالهما ابن قُتيبة.
          ثالثها: أنَّ هذا التَّأخير في الأجل ممَّا قد فُرغ مِنْه، لكنَّه علَّق الإنعام به بصلة الرَّحم فكأنَّه كتب أنَّ فلانًا يبقى خمسين سنةً فإنْ وصل رَحِمَه بقي ستِّين.
          رابعها: أن تكون هذه الزِّيادة في المكتوب، والمكتوب غير المعلوم، فما علمه الله مِنْ نهاية العمر لا يتغير، وما كُتب قد يُمحى ويثبت، وقد كان عمر بن الخطَّاب يقول: إن كنتَ كتبتَني شقيًّا فامحُني، كما سلف، وما قال: إن كنتَ علِمتَني لأنَّ ما علم وقوعَه لا بدَّ أن يقع، ويبقى عليه إشكال، وهو أنَّه إذا كان المحتوم واقعًا فما الَّذي أفاده زيادةُ المكتوب ونقصانه؟ وجوابه: أنَّ المعاملات على الظَّواهر، والمعلوم الباطن خفيٌّ لا يعلَّق عليه حكم، فيجوز أن يكون المكتوب يزيدُ وينقص ويُمحى ويُثبت، ليبلَّغ ذلك على لسان الشَّارع إلى الآدميِّ، فيعلم فضيلة البرِّ وشؤم العقوق، ويجوز أن يكون هذا ممَّا يتعلَّق بالملائكة، فتُؤمر بالإثبات والمحو، والعلم الحتم لا يطَّلعون عليه، ومِنْ هذا إرسالُ الرُّسل إلى مَنْ لا يؤمِن.
          خامسها: أنَّ زيادة الأجل تكون بالبركة فيه، وتوفيق صاحبه بفِعل الخير، وبلوغ الأغراض، فينال في قِصَر العمر ما يناله غيرُه في طويله، وادَّعى الحكيم التِّرمِذيُّ أنَّ المراد بذلك قلَّة المُقام بالبرزخ، ولا أدري ما هذا!؟
          قال القاضي عِياض: لا خلاف أنَّ صلة الرَّحم واجبةٌ في الجملة، وقطيعتَها معصية كبيرة، والأحاديث تشهد لهذا، ولكنَّ الصِّلة درجاتٌ بعضُها فوق بعض، وأدناها تركُ المهاجَرة وصلتُها بالكلام ولو بالسَّلام، ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة، فمِنْها واجبٌ ومِنْها مستحبٌّ، ولو وصل بعضَ الصِّلة ولم يصلْ غايتَها لا يُسمَّى قاطعًا ولو قصَّر عمَّا يقدر عليه، وينبغي له ألَّا يُسمَّى واصلًا.
          واختُلف في حدِّ الرَّحِم الَّتي تجب صلتُها فقيل: في كلِّ رحمٍ مَحْرَمٍ بحيث لو كان أحدهما ذكرًا والآخر أنثى حرُمت مناكحتهما، فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام وأولاد الأخوال، واحتجَّ هذا القائل بتحريم الجمع بين المرأة وعمَّتها وخالتها في النِّكاح ونحوه، وجاوز ذلك في بنات الأعمام والأخوال.
          وقيل: هو عامٌّ في كلِّ رَحِم مِنَ الأرحام في الميراث يستوي فيه المَحْرَم وغيره، ونزل عليه قوله صلعم: ((ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاك)) قلت: وَرُوِيَ ((إِذَا افْتَتَحْتُمْ مِصْرًا فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا)) أخرجه مسلم، وحديث ((أَبَرُّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ)) مع أنَّه لا مَحْرَميَّة.