التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب

          ░99▒ بَابُ: الشِّرَاءِ وَالبَيْعِ مَعَ المُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الحَرْبِ.
          2216- ذكر فيه حديث عَبْدِ الرَّحمن بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: (كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلعم ثمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلعم: بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً؟ أَوْ قَالَ: أَمْ هِبَةً؟ قَالَ: بَلْ بَيْعٌ. فَاشْتَرَى مِنْه شَاةً).
          هذا الحديث ذكره البخاريُّ في موضعٍ آخر: ((كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلعم مئة وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، فَقَالَ ◙: هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوُهُ، فَعُجِنَ، ثمَّ جَاءَ رَجُلٌ..)). وفيه: ((فَصُنِعَتْ، وَأَمَرَ بِسَوَادِ البَطْنِ أَنْ يُشْوَى، وَايْمُ اللهِ، مَا فِي الثَّلاَثِينَ وَالمئة إِلَّا وَقَدْ حَزَّ لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَ لَهُ، وَجَعَلَ مِنْها قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ وَشَبِعْنَا، وَفَضُلَ فِي القَصْعَتَيْنِ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَى البَعِيرِ)).
          قال أبو عبد الله: (مُشْعَانٌّ) طويل جدًّا فوق الطُّول. وقال الأصمعيُّ فيما حكاه في «الموعَب»: شعر مُشعانٌّ _بتشديد النون_ منتفِش، واشعانَّ الرَّجل اشْعِنانًا، وهو الثَّائر المتفرِّق. وقال الأزهريُّ أيضًا: هو الشَّعِثُ المنتفشُ الرَّأسِ المغبرُّ.
          وروى عمرو عن أبيه: أشعنَ الرَّجل إذا ناصَى عدوَّه فاشعانَّ شعرُه. وقال ابنُ التِّين: هو شعث الشَّعرِ، ثائرُ الرَّأس في قول أكثرهم، ووزنه مُفْعالٌّ.
          وعبارة صاحب «العين»: مُشعانٌّ إذا كان منتفشًا، ورجلٌ مُشعانُّ الرَّأسِ.
          وسواد البطن: قيل: هو الكبد خاصَّة، وقيل: حشوةُ البطن كلُّها، حكاهما صاحب «المطالع».
          و(حَزَّ) قطع، والحُزَّة _بضم الحاء_: القطعة، وقال في باب: قَبول الهديَّة مِنَ المشركين: ضُبِطَ حُزَّة في الأمَّهات بالضم، وصوابه كما ضُبِطَ، لأنَّ الحُزَّة _بالضَّمِّ_ القطعة، مثل الأُكلة واللُّقمة، وأمَّا بالفتح فتعود على الفعل. وقد سلف _مِنْ قول أبي عبيد_ أنَّ كلَّ شيء يُقال فيه: فَعَلْتُ فَعْلَةً _بالفتح_ إلَّا ثنتين: رأيت رُؤية، وحججت حِجَّة، يريد إلى الغزو. وقال الدَّاوُديُّ: الحزَّة: القطعة، وهو كالأول.
          أمَّا فقه الباب: فالبيع والشراء مِنَ الكفَّار كلِّهم جائزٌ إلَّا أنَّ أهل الحرب لا يُباع مِنْهم ما يستعينون به على إهلاك المسلمين مِنَ العُدَّة والسِّلاح، وما يَقْوَون به عليهم.
          قال ابن المنذِر: اختلف العلماء في مبايعة مَنِ الغالبُ على ماله الحرامُ، وقَبولِ هداياه وجوائزِه، فرخَّصت طائفةٌ في ذلك، كان الحسن البصريُّ لا يرى بأسًا أن يأكل الرَّجل مِن طعام العَشَّار والصَّرَّاف والعامل، ويقول: قد أحلَّ الله طعام اليهود والنَّصارى، وأكله أصحابُ رسول الله صلعم، وقال تعالى في اليهود: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42].
          وقال مكحولٌ والزُّهْريُّ: إذا اختلط المالُ وكان فيه الحلالُ والحرامُ فلا بأس أن يؤكل مِنْه، وإنما يُكره مِنْ ذلك الشَّيءُ الَّذي يعرفه بعينه. وقال الحسن: لا بأس ما لم يعرفوا شيئًا مِنْه. وقال الشَّافعيُّ: لا نُحِبُّ مبايعةُ مَنْ أكثرُ مالِه ربًا أو كسبه حرامٌ، وإن بايعه لم أفسخ البيع، لأنَّ هؤلاء قد يملكون حلالًا، ولا نحرِّم إلَّا حرامًا بيِّنًا إلَّا أن يشتريَ حرامًا بيِّنًا يعرفه، والمسلمُ والذِّمِّيُّ والحربيُّ في هذا سواءٌ.
          حجَّة مَنْ رخَّص في ذلك حديثُ الباب، وحديثُ رهنِه درعَه عند اليهوديِّ، وكان ابن عمر وابن عبَّاس يأخذان هدايا المختار، وبعث عمرُ بن عبيد الله بن مَعْمر إلى ابن عمر بألف دينارٍ، وإلى القاسم بن محمَّد بألف دينار، فأخذها ابن عمر وقال: لقد جاءنا على حاجة، وأبى أن يقبلها القاسم، فقالت امرأتُه: إن لم تقبلها فأنا ابنة عمِّه كما هو ابن عمِّه، فأخذتْها. وقال عطاء: بعث معاويةُ إلى عائشة بطوقٍ مِنْ ذهب فيه جوهرٌ قوِّم بمئة ألف، فقسمته بين أمَّهات المؤمنين.
          وكرهت طائفةٌ الأخذ مِنْهم، رُوِيَ ذلك عن مسروقٍ وسعيد بن المسيِّب والقاسم بن محمَّد وبُسْرِ بن سعيد وطاوسٍ وابن سِيرينَ والثَّوريِّ وابنِ المبارك ومحمَّد بن واسعٍ وأحمدَ، وأخذ ابنُ المبارك قذاةً مِنَ الأرض، فقال: مَنْ أَخذ مثلَ هذه فهو مِنْهم. وسلف هذا المعنى في الزَّكاة في باب: إعطاء المال مِنْ غير مسألة.
          وقوله _◙_: (بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً؟ أَوْ قَالَ: أَمْ هِبَةً؟) إنَّما قال ذلك على معنى أنَّه يثيبه لو كان هديَّة، لا أنَّه كان يقبلها مِنْه دون إثابة عليها، كما فعل _◙_ بكلِّ مَنْ هاداه مِنَ المشركين، بل كان هذا دأبَه، وسيأتي في الهبة حكمُ هبة المشرك، إن شاء الله [خ¦2618].
          وحديث: ((إِنَّا لَا نَقْبَلُ زَبْدَ الْمُشْرِكِينَ)) يعني عطاياهم، يشبه أن يكون منسوخًا كما قال الخطَّابيُّ، فقد قبل هدية غيرِ واحد مِنْهم، أهدى له المُقَوْقِسُ ماريةَ والبغلة، وأُكَيْدِرُ دُومَةَ، إلَّا أن يَفْرُقَ فارقٌ بين هديَّة أهل الشِّرك وأهل الكتاب، لكنَّ هذا الرجل كان مشركًا، ويجوز أن يكون القَبولُ مِنْ باب التألُّف.
          وفيه قصدُ الرؤساء والأكابر بالسِّلع لاستجزال الثَّمن. وفيه أنَّ ابتياع الأشياء مِنْ مجهولِ النَّاس ومَنْ لا يُعلم حاله بعفافٍ أو غيرِه جائزٌ، حتَّى يطَّلع على ما يلزم الورعُ عنه، أو يوجب ترك مبايعته بغصب أو سرقة أو غير ذلك. قال ابن المنذِر: لأنَّ مَنْ بيده الشَّيءُ فهو مالكه على الظَّاهر، ولا يلزم المشتريَ أن يعلم حقيقة ملكه له بحكم اليد. وفيه تأنيس الكافر لإثابته أكثرَ ممَّا أخذ، إذ كان ذلك مِنْ شأنه.
          فرع: اختُلف في الَّذي يُهدَى إلى الأئمَّة، فَرُوِيَ عن عليٍّ ردُّه إلى بيت المال، / وإليه ذهب أبو حنيفة. وقال أبو يوسف: هو له. وقيل: إنه _◙_ في ذلك بخلاف غيره، لأنَّ الله خَصَّهُ في أموال الحرب بما لم يكن لغيره. قاله الخطَّابيُّ.
          وفيه ذكرُ بعضِ الخبر وحذفُ باقيه، إذ لم يُذكر فيه قدرُ ما اشترى به. وفيه عَلمٌ مِنْ أعلام نبوَّته، حيث أُكل مِنْ سواد البطن ما ذُكر. وفيه رأفتُه بالحاضرين، وتفقُّد الغائبين، وهو ردٌّ على جَهَلَة الصُّوفيَّة حيث يقولون: مَنْ غاب غاب نصيبُه.