التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب كسب الرجل وعمله بيده

          ░15▒ بَابُ: كَسْبِ الرَّجُلِ وَعَمَلِهِ بِيَدِهِ.
          2070- ذَكر حديثَ عُرْوَة، (أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، قَالَ: لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَؤُونَةِ أَهْلِي، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ المُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا المَالِ، وَيَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ).
          2071- وحديثها: (كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلعم عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ...) الحديث.
          وسلف في الجمعة، رواه همَّام عن هشام، عن أبيه عن عائشة.
          2072- ثمَّ ساق حديثَ المِقْدَامِ مِنْ حديث خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْهُ عَن النَّبيِّ صلعم قَالَ: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ).
          وهو مِنْ أفراده كالأثر الأوَّل، وهو هنا خاصَّة.
          و(مُحَمَّدٌ) شيخ البخاريِّ في حديث عائشة هو محمَّد بن يحيى الذُّهْليُّ كما قاله الجَيَّانيُّ.
          وقوله: (رَوَاهُ هَمَّامٌ...) إلى آخره، أسنده أبو نُعيم مِنْ حديث هُدبة عنه.
          والرَّاوي عن أبي الأسود (سَعِيدٌ) وهو ابنُ أبي أيُّوبَ مِقْلاصٍ أبو يحيى، و(أَبُو الأَسْوَدِ) محمَّد بن عبد الرَّحمن يتيم عروةَ. وزعم الإسماعيليُّ أنَّ سنده منقطعٌ، بين خالدٍ والمقدامِ: جُبَيْرُ بنُ نُفَيْرٍ.
          ورواه ابن ماجَهْ عن هشام عن ابن عيَّاش عن بَحير بن سعد عن خالد بن مَعْدانَ، عنه مرفوعًا: ((مَا مِنْ كَسْبِ الرَّجُلِ أَطْيَبُ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ، فَهُوَ صَدَقَةٌ)).
          و(المِقْدَام): هو ابن مَعْدِي كَرِب مات سنةَ سبع وثمانين عن إحدى وتسعين سنةً.
          2073- ثم ذكر حديثَ أبي هريرة: (أَنَّ دَاوُدَ كَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ). وهو مِنْ أفراده، وللإسماعيليِّ زيادة: ((خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ القُرْآنُ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ لِتُسْرَج، فَكَانَ يَقْرَأُ القُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ، وَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)). و(يَحْيَى بْنُ مُوسَى) شيخ البخاريِّ فيه هو المعروف بِخُتٍّ، لُقِّبَ بذلك لأنَّ اللَّفظة المذكورة جرت على لسانه.
          2074- وحديثه أيضًا: ((لَأَنْ يَحْتَطِبَ...)) إلى آخره. سلف، وكذا حديث الزُّبَير مثلُه.
          وفي الإسرائيليَّات: سمع داودُ يومًا قائلًا يقول: نِعْمَ العبدُ داودُ لو كان يأكل مِنْ عَمَلِ يده، فدعا اللهَ فعلَّمه صنعة الحديد. وفي الحاكم مِنْ حديث أبي بُرْدة _يعني ابنَ نِيَارٍ_: سُئِلَ رسول الله صلعم: أيُّ الكسب أطيبُ وأفضل؟ قال: ((عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، أَو كُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ)) وعن البراء بن عازب نحوه، وقال: صحيح الإسناد. وعن رافع بن خَدِيج مثله، وللنَّسائيِّ عن عائشة: ((إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ)) ولأبي داود مِنْ حديث عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدِّه مرفوعًا: ((إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ)).
          إذا تقرَّر ذلك فالحِرفة والاحتراف: الكسب، يُقال: فلان يحترف لعياله أي يكتسب، واحترف احترافًا نما مالُه وصلُح، قال المهلَّب: الحرفة هنا التَّصرُّف في المعاش، والتَّحرُّف لمَّا اشتغل عنه أبو بكر بأمر المسلمين ضاع أهلُه، فاحتاج أن يأكل هو وأهلُه مِنْ بيت المال لاستغراقه وقتَهُ في أمورهم واشتغاله عن تعيُّش أهله.
          وقوله: (وَأحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ) أي أتَّجر لهم في مالهم حتَّى يعود عليهم مِنْ ربحه بقدر ما آكُل أو أكثر، وليس بواجب على الإمام أن يتَّجر في مال المسلمين بقدر مُؤْنته إلَّا أن يتطوَّع بذلك كما تطوَّع الصِّدِّيق لأنَّ مُؤْنته مفروضة في بيت المال بكتاب الله تعالى، لأنَّه رأسُ العاملين عليها.
          وفي «الطَّبقات» عن حُميد بن هلال: لمَّا وَلِيَ أبو بكر قال الصَّحابة: افرضوا للخليفة ما يعينه، قالوا: نعم، بُرداه إذا أخلقَهما وضعَهما وأخذ بدلهما، وظهره إذا سافر، ونفقته على أهله كما كان ينفق قبل أن يُستخلف، فقال أبو بكر: رضيتُ. وعن ميمون قال: لمَّا استُخلف أبو بكر جعلوا ألفين، فقال: زيدوني فإنَّ لي عيالًا، فزادوه خمس مئة، قال: إمَّا أن تكون ألفين فزادوه خمس مئة، أو كانت ألفين وخمس مئة فزادوه خمس مئة.
          وقال ابنُ التِّين: يُقال: إنَّ أبا بكر أُرْزِقَ في كلِّ يوم شاةً، وكان شأنُ الخليفة أن يطعم مَنْ حَضره قصعتين كلَّ يوم غدوةً وعشاءً، ولمَّا حضرت أبا بكرٍ الوفاةُ حَسَبَ ما أنفق مِنْ بيت المال فوجده سبعةَ آلاف درهم، فأمر بماله غيرِ الرِّباع فأُدخل في بيت المال، وكان أكثرَ ممَّا أنفق، فربح المسلمون عليه وما ربحوا على غيره.
          وقوله: (تَعْجِزُ) أي تَقصُر.
          (وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ المُسْلِمِينَ) أي عن حرفته. و(آلُهُ) أهل بيته. وهو دليل واضح على أنَّ للعامل أن يأخذ مِنْ عَرْض المال الَّذي يعمل فيه قدرَ عُمالته إذا لم يكن فوقه إمامٌ يقطع له أجرةً معلومة.
          والأَرْوَاحُ في حديث عائشة: جمعٌ، وأصل رِيْحٍ: رِوْحٌ، فلما سُكِّنت الواوُ وانكسر ما قبلها قُلبت ياءً.
          وفيه ما كان عليه الصَّحابة مِنَ التَّواضع واستعمال أنفسهم في أمور دنياهم.
          و(أَحْبُلَهُ) قال ابنُ التِّين: كذا سمعناه، وفي بعضها <حَبْله>.
          وقوله: (لَوِ اغْتَسَلْتُمْ) يبيِّن ما روى أبو سعيد الخُدْريُّ مرفوعًا: ((غُسْلُ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ)) أنَّه ليس بواجب فرضًا، وأنَّ المرادَ بذلك النَّدبُ إلى النَّظافة، وتأكيد الغسل عليهم لفضل الجمعة ومَنْ يشهدها مِنَ الملائكة والمؤمنين، وقد تقدَّم ما للعلماء فيه في كتاب الجمعة فراجِعْه.
          وفي حديث المِقدام أنَّ أفضل الكسب عملُ اليد، ألا ترى أنَّ (نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ _◙_ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) وعليه ترجم البخاريُّ، وقال أبو الزَّاهِريَّة: كان داود يعمل القِفافَ ويأكل مِنْها، قلت: عمله الحديد _أي الدُّروع_ بنصِّ القرآن، فالأكل ممَّا عملَتْه الأيدي أفضلُ مآكل التَّجْر، وكان سيِّدنا رسول الله صلعم يأكل مِنْ سعيه الَّذي بعثه الله عليه في القتال، وكان يعمل طعامَه بيده ليأكل مِنْ عمل يده، قيل لعائشة: كيف كان رسول الله صلعم يعمل في أهله، قالت: كان في مَهْنة أهلِه فإذا أُقيمت الصَّلاة خرج إليها.
          قال الماوَرْديُّ: أصولُ المكاسبِ الزِّراعةُ والتِّجارةُ والصَّنعةُ، وأيُّها أَطْيبُ؟ فيه ثلاثة مذاهبَ للنَّاس، وأشبهُها بمذهب الشَّافعيِّ أنَّ التِّجارة أطيبُ، والأشبهُ عندي أنَّ الزِّراعة أطيبُ لأنَّها أقربُ إلى التَّوكُّل، قال النَّوويُّ: وحديثُ البخاريِّ صريحٌ في ترجيح الزِّراعة والصَّنعة لكونها عملَ يده، لكنَّ الزِّراعة أفضلُهما لعموم النَّفع بها للآدميِّ وغيره، وعموم الحاجة إليها. وظاهرُ تبويب البخاريِّ ترجيحُ الصَّنعة.
          وقوله: (لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ) إلى آخره، يدلُّ على فضل الكَفاف وكراهية السُّؤال، قال ابن المنذِرِ: وإنَّما فضَّل عمل اليد على سائر المكاسب إذا نصح العاملُ بيده، جاء ذلك مبيَّنًا في حديث رواه المَقْبُريُّ عن أبي هريرة مرفوعًا: ((خَيْرُ الْكَسْبِ يَدُ الْعَامِلِ إِذَا نَصَحَ)) و((كان زكريَّا نجَّارًا)) و((مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَرَعَى الغَنَمَ)). وذكر مَعْمَر عن سلمان أنَّه كان يعمل الخُوص، فقيل له: أتعمل هذا وأنت أمير المدائن يجري عليك رزقٌ؟ قال: إنِّي أحبُّ أن آكل مِنْ عمل يدي.