التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك

          ░55▒ بَابُ: بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ.
          2135- ذَكر فيه حديث ابن عبَّاس: (أَمَّا الَّذي نَهَى عَنْهُ النَّبيُّ صلعم فَهُوَ الطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حتَّى يُقْبَضَ. قَالَ ابن عبَّاس: وَلاَ أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مِثْلَهُ).
          2136- وحديثَ ابن عمر: (مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِيعُهُ حتَّى يَسْتَوْفِيَهُ)، زَادَ إِسْمَاعِيلُ: (مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِيعُهُ حتَّى يَقْبِضَهُ).
          الحديثان في مسلم أيضًا، وحديثُ ابن عمر تكرَّر.
          وقوله: (زَادَ إِسْمَاعِيلُ) يعني ابنَ أبي أُويسٍ عن مالكٍ، ولو عبَّر بقوله: وقال إسماعيلُ لكان أحسنَ، وقد اعترضه الإسماعيليُّ فقال ردًّا عليه: قد قاله أيضًا الشَّافعيُّ وقُتيبة وابن مهديٍّ عن مالك.
          وقوله: (فَلاَ يَبِيعُهُ) قال ابنُ التِّين: كذا وقع، ولفظُه لفظُ الخبر، ومعناه الأمر، كقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] وبوَّب ابن بَطَّال: باب بيعِ ما ليس عندَك، وذكر حديثَ مالك بن أوسٍ عن عمر المذكورَ في الباب قبله فقط، ثمَّ ترجم باب: بيعِ الطَّعام قبل أن يُقبض، ثمَّ ذكر حديثَ ابنِ عبَّاس وابنِ عمر فيه، والأمرُ قريبٌ، والعمل بهذه الأحاديثِ واجبٌ ولم يختلف أحدٌ مِنَ العلماء في ذلك _أعني في الطَّعام إذا بيع على كيلٍ أو وزنٍ أو عددٍ_ إلَّا عثمانَ البّتِّيَّ كما سلف، وعنه أيضًا أنَّه أجاز بيعَ الطَّعامِ المسلَمِ فيه قبل قبضِه وهو مردودٌ.
          واختَلف المذهبُ عندَهم في مسائلَ هل يجري فيها هذا الحكمُ؟ كالخَضْرَاوات والفُلْفُل وغير ذلك، ولا يجوز بيع ما ليس عندَك ولا في ملكك وضمانك من الأعيان المَكيلة والموزونة والعروض كلِّها، لنهيه _◙_ عن ذلك.
          وَرُوِيَ النَّهيُ عن بيع ما ليس عندك وربحِ ما لم تَضْمن مِنْ حديث عمرو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه مرفوعًا، ومِنْ حديث حَكيم بن حِزامٍ أيضًا، لكنْ لم يكن إسنادُه مِنْ شَرْط الكِتاب، وإن كان الأوَّلُ صحَّحه التِّرمِذيُّ والحاكم، والثَّاني صحَّحه التِّرمِذيُّ وحسَّنه البَيْهَقيُّ فاستنبط معناه مِنْ حديث مالكِ / بن أوس، وبه يزولُ اعتراضُ ابنِ التِّين عليه حيث قال: بوَّب له ولم يأت فيه إلَّا بهذين الحديثَين، وذلك يدخُل في باب: بيع ما ليس عندك. فالمعنى: ما يكون في ملكك غائبًا مِنَ النَّقدَين لا يجوز بيعُ غائبٍ مِنْها بناجزٍ، وكذلك البُرُّ والتَّمر والشَّعير لا يُباع شيءٌ مِنْ جنسه، إلا بطعامٍ مخالِفٍ لجنسه وإلَّا يدًا بيدٍ، لقوله: ((إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ)) يعني: خذْ وأعطِ، إحاطةً مِنَ الله تعالى لأصول الأموال وحَرَزًا لها، إلَّا ما رخَّصت السُّنَّة بالجواز مِنْ بيع ما ليس عندَك، ومِنْ ربحِ ما لم يَضْمن وهو السَّلَم، فجوَّزتْ فيه ما ليس عندَك، ومِنْ ربحٍ ممَّا يكون في الذِّمَّة مِنْ غير الأعيان، توسعةً من الله _تعالى_ لعباده ورفقًا بهم، وأيضًا إذا امتَنع بيعُ المَبيع قبل قبضه فما ليس في ملكه أَولى بالمنعِ.
          (وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) يحتمل معنيين، كما قال ابنُ المنذِر: أحدُهما: أن تقول: أبيعُك عبدًا أو دارًا مغيَّبةً عنِّي في وقت البيع، فلعلَّ الدَّار أن تَتْلَفَ ولا يرضاها، وهذا يشبِهُ بيعَ الغَرَر.
          الثَّاني: أن تقول: أبيعُك هذه الدَّارَ بكذا على أن اشتريَها لك مِنْ صاحبها، أو على أن يسلِّمَها لك صاحبُها، وهذا مفسوخ على كلِّ حالٍ لأنَّه غَرَرٌ، إذ قد يجوز ألَّا يقدِر على تلك السِّلعة أو لا يسلِّمَها إليه مالكُها، قال: وهذا أصحُّ القولين عندي، لأنِّي لا أعلمهم يختلفون أنَّه يجوز أن أبيعَ جاريةً رآها المشتري ثمَّ غابت عنِّي وتوارت بجدارٍ، وعقد البيع، ثمَّ عادت إليَّ، فإذا أجاز الجميعُ هذا البيعَ لم يكن فرقٌ بين أن تَغيب عنِّي بجدار، أو يكونَ بيني وبينها مسافةٌ وقت عقد البيع.
          وقال غيره: ومِنْ بيع ما ليسَ عندَك العِيْنَةُ، وهي دراهمُ بدراهمَ أكثرَ مِنْها إلى أجلٍ بأن تقولَ: أبيعك بالدَّراهم الَّتي سألتني سِلعةَ كذا، ليست عندي أبتاعها لك، فبكم تشتريها منِّي؟ فوافقه على الثَّمن ثمَّ يبتاعُها ويسلِّمها إليه، فهذه العِيْنَةُ المكروهة، وهي بيعُ ما ليس عندَك، وبيعُ ما لم تقبضْه، فإن وقع هذا البيعُ فُسخ عندَ مالكٍ في مشهورِ مذهبِه وعند جماعةٍ مِنَ العلماء. وقيل للبائع: إن أُعطيتَ السِّلعة أبتاعها مِنْك بما اشتريتَها جاز ذلك، وكأنَّك إنما أسلفتَه الثَّمن الَّذي ابتاعها. وقد رُوِيَ عن مالك: أنَّه لا يُفسخ البيع، لأنَّ المأمور كان ضامنًا للسِّلعة لو هلَكت. قال ابن القاسم: وأحبُّ إليَّ لو تورَّع عن أخذ ما زادَه عليه. وقال عيسى بن دينارٍ: بل يُفسخ البيع إلَّا أن تفوتَ السِّلعة فيكونَ فيها القيمةُ. وعلى هذا سائرُ العلماء بالحجاز والعراق، كما قال ابن بَطَّال، قال: وأجمعَ العلماءُ أنَّ كلَّ ما يُكال أو يُوزنُ مِنَ الطَّعام كلِّه مُقْتاتًا أو غيرَه، وكذلك الإدامُ والملحُ والكُسْبُرُ وزَرِيعةُ الفُجْلِ الَّذي فيها الزَّيت المأكول، فلا يجوز بيعُ شيء مِنْه قبل قبضِه، ومعنى النَّهي عن بيعه قبلَ قبضِه عند مالكٍ فيما بِيعَ مُكايَلةً أو موازَنةً لما فيها بيعَ مِنْه جزافًا على ما سلف.
          واختلفوا في بَيع العُروض قبلَ قبضِها، فذهبَ ابن عبَّاس وجابرٌ إلى أنَّه لا يجوز بيعُ شيءٍ مِنْها قبلَ قبضِه قياسًا على الطَّعام، وهو قولُ الكوفيِّين والشَّافعيِّ، وحملوا نهيَه _◙_ عن ربحِ ما لم يُضمنْ على العموم في كلِّ شيء، إلَّا الدُّورَ والأرَضينَ عند أبي حنيفة، فأجاز بيعَها قبل قبضِها، لأنَّها لا تُنقل ولا تحوَّل، وحملَ مالكٌ نهيَه عن ربحِ ما لم يُضمن عن الطَّعام وحدَه دون العُروض والحيَوان، فإنَّ رِبْحَها حلال، لأنَّ بيعَها قبل استيفائها حلالٌ.
          قال ابن المنذِر: والحُجَّة لهذا القولِ أنَّه _◙_ إنَّما نهى عن بيعِ الطَّعام قبل قبضِه خاصَّةً، فدلَّ أنَّ غيرَ الطَّعام ليس كالطَّعام، ولو لم يكن كذلك لما كان في تخصيصِه الطَّعامَ فائدةٌ، وقد أجمعوا أنَّ مَنِ اشترى جاريةً وأعتقَها في تلك الحال قبلَ قبضِها أنَّ عِتْقَه جائزٌ، فكذلك البيعُ، قلتُ: لا، فالشَّارع متشوِّف إلى فكِّ الرِّقاب، وقال أبو ثورٍ كقول مالكٍ.
          تنبيهاتٌ وفوائدُ:
          الأوَّل: قال الحُمَيْديُّ _فيما حكاه أبو نُعَيمٍ الأَصْبَهانيُّ_ قال سفيانُ: حديثُ مالكِ بن أوسٍ أصحُّ حديثٍ رُوِيَ في الصَّرف، وخالف أبو الوليد ابنُ رُشْدٍ فقال: أصحُّها عندي حديثُ أبي سعيد الخُدْريِّ، يعني الآتيَ بعدُ، وكذا قاله أبو عمر ابنُ عبد البرِّ.
          ثانيها: قوله: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا) كذا وقع هنا مِنْ طريق عمرِو بن دينارٍ، عن الزُّهْريِّ عن مالكٍ، وروى يحيى بن يحيى اللَّيثيُّ، عن مالك: ((الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ)) وكذا رواه معنٌ وجماعةٌ عن مالك.
          وقال ابن أبي شَيْبةَ: أَشهد على ابن عُيَينةَ أنَّه قاله كذلك، ولم يقل: ((الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ)) يعني: في حديث ابن شِهابٍ هذا، ورواه ابن إسحاقَ عن الزُّهْريِّ كما في الكتاب بزيادة: ((وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ))، وكذا رواه أبو نُعيم عن ابن عُيَينةَ، ولم يقله أحدٌ عن ابن عُيَينةَ غيرَه، وكذا رواه الأوزاعيُّ عن مالكٍ.
          ثالثها: في البَيْهَقيِّ مِنْ حديث مجاهدٍ، عن ابن عمر: الدِّينار بالدِّينار، والدِّرهم بالدِّرهم، لا فضلَ بينهما هذا عهد نبيِّنا صلعم إلينا، ثمَّ قال: قال الشَّافعيُّ: هذا خطأ. ثمَّ ساقه بإسناده إلى أن قال: هذا عهدُ صاحبِنا إلينا، ثم قال الشَّافعيُّ: يعني بصاحبنا: عمرَ بن الخطَّاب. واعترضَه أبو عمر فقال: هذا غيرُ جيِّد مِنَ الشَّافعيِّ على أصله، والأظهَرُ أنَّ صاحبَنا أراد به الشَّارعَ لا عمرَ، ثمَّ قال: والنَّاسُ لا يسلمُ أحدٌ مِنْهم مِنَ السَّهو.
          قلتُ: الواهم هو، فإنَّ نافعًا قال: إنَّ ابن عمر لم يسمعْ مِنْ رسول الله صلعم في الصَّرف شيئًا كما رواه البَيْهَقيُّ وبيَّنه، إنَّما سَمعه مِنْ أبيه وأبي سعيدٍ.
          رابعها: مِنَ الرِّوايات الباطلة في حديث ابن عمر: ((وَنَهَى عَنِ الزَّيتِ بِالزَّيتِ)) نبَّه على ذلك ابنُ عَديٍّ.
          قاعدة: أذكرُها هنا تتعلَّق بحديث مالكِ بن أوسٍ في الباب قبلَه وببقيَّة أبواب الرِّبا الآتيةِ ويُحال ما بعدُ عليها: وهي أنَّ الإجماعَ قائمٌ على أنَّ الذَّهبَ عينُه وتِبْرُه سواءٌ لا تجوز المفاضَلة فيه، وكذا الفِضَّة بالفضَّة ومصوغُ ذلك ومضروبُه، وهو خَلفٌ عن سَلَفٍ، إلَّا شيء يُروى عن معاوية مِنْ وجوهٍ أنَّه كان لا يرى الرِّبا في بيع العين بالتِّبر ولا بالمصوغ، وكان يجيز في ذلك التَّفاضلَ، ويذهب إلى أنَّ الرِّبا لا يكون في التَّفاضل إلَّا في التِّبر بالتِّبر، والمَصُوغ بالمصُوغ، وفي العين بالعين.
          والسُّنَّة المجمع عليها بنقل الآحاد والكافَّة خلافُ ما كان يذهب إليه معاويةُ، وقام الإجماع على تحريم الرِّبا في الأعيان السِّتَّة المنصوص عليها: الذَّهبِ والفضَّةِ / والبُرِّ والشَّعيرِ والتَّمر والملح. واختلفوا فيما سواها، فعند أهل الظَّاهر وقبلَهم مسروقٌ وطاوسٌ والشَّعْبيُّ وقَتادةُ وعثمانُ البَتِّيُّ فيما ذكره المازَريُّ إلى أنَّه يتوقَّفُ التَّحريم عليها، وأباه سائرُ العلماء وقالوا: بل يتعدَّى إلى ما في معناها. فأمَّا الذَّهبُ والفضَّة ففي علَّتها قولان: أحدُهما: أنَّ العلَّة كونُهما قِيمُ الأشياءِ غالبًا، قاله الشَّافعيُّ.
          ثانيهما: أنَّ العلَّةَ الوزنُ في جنسٍ واحد فأُلحق بهما كل موزون، قاله أبو حنيفة.
          وأمَّا الأربعةُ الباقية ففيها تسعة مذاهبَ غيرُ مذهبِ أهل الظَّاهر:
          أحدها: أنَّها الانتفاع، فُعدِّي إلى كلِّ ما يُنتفع به، قاله أبو بكر بن كَيْسانَ الأصمُّ، فيما حكاه القاضي الحسين.
          ثانيها: أنَّها الجنسيَّةُ، قاله ابنُ سيرينَ والأَوْديُّ مِنْ أصحابنا، فحَرُمَ كلُّ شيءٍ بِيع بجنسِه، كالتُّراب بالتُّراب متفاضلًا، والثَّوب بالثَّوبين، والشَّاة بالشَّاتين.
          ثالثها: أنَّها المنفعةُ في الجنس، قاله الحسن البصريُّ، فيجوز عنده بيعُ ثوبٍ قيمتُه دينارٌ بثوبين قيمتُهما دينارٌ، لا بثوب قيمته ديناران.
          رابعها: أنَّها تفاوتُ المنفعةِ في الجنس، قاله سعيدُ بن جُبَير، فيحرُم التَّفاضُل في الحِنطة بالشَّعير، لتفاوُت منافعهما، وكذلك الباقِلَاء بالحِمِّص، والدُّخْنُ بالذُّرَة.
          خامسها: أنَّها كونُه جنسًا تجب فيه الزَّكاةُ، قاله ربيعة، فحَرُم الرِّبا في جنسٍ تجبُ فيه الزَّكاة مِنَ المواشي والزُّروع وغيرهما، ونفاه عمَّا لا زكاةَ فيه.
          سادسها: أنَّها الاقتيات والادِّخار، وهو مذهبُ مالك، ونفاه عمَّا ليس بقوتٍ كالفواكه، وعمَّا هو قوتٌ لا يُدَّخر كاللَّحم.
          سابعها: أنَّها كونُه مَكيلَ جنسٍ أو الوزنَ مع جنسين، وهو مذهبُ أبي حنيفة، فحَرُم الرِّبا في كلِّ مَكيل وإن لم يُؤكل كالجصِّ والنُّوْرة والأُشْنانِ، ونفاه عمَّا لا يُكال ولا يوزَن وإن كان مأكولًا كالسَّفَرْجَلِ والرُّمَّان.
          ثامنها: أَنَّ العلَّة الطَّعمُ فقط، سواءٌ كان مكيلًا أو موزونًا أم لا، وهو مذهبنا، وإليه ذهب أحمدُ وابن المنذِر.
          تاسعها: أنَّها المطعوم الَّذي يُكال أو يُوزن، وهو مذهبُ سعيد بن المسيِّب، وقولٌ قديم للشَّافعيِّ. ونفَوه عمَّا لا يُؤكل ولا يُشرب، أو يُؤكل ولا يُوزن كالسَّفَرْجَل والبِطِّيخ.
          ومحلُّ بَسْطِ أدلَّة المذاهبِ كُتُب الخلاف والفروع، واتَّفقوا على أنَّ مِنْ شَرْطِ الصَّرف أن يكون ناجزًا، واختلفوا في حدِّه، فقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ: ما لم يَفْتِرقا. وقال مالك: إنْ تأخَّر القبضُ في المجلس بَطَلَ الصَّرفُ وإنْ لم يفترقا. وهذه متعلَّقات به، فإنَّ البخاريَّ فرَّق أبوابه:
          الأولى: سيأتي في باب: بيع الشَّعير بالشَّعير [خ¦2174]: ((فراوضنا)). يعني زِدتُ أنا ونَقَصَ هو.
          وفيه: (اصْطَرَفَ مِنِّي) افْتَعَلَ مِنَ الصَّرف، والأصلُ اصْتَرَفَ بالتَّاء، والذَّهب ربَّما أُنِّثَ لغةً حجازيَّةً، القطعةُ مِنْه ذهبة، والجمع: أذهابٌ وذهوب، قاله كلَّه في «المنتهى». وقال الأزهريُّ: لا يجوز تأنيثُه إلَّا أن يُجعل جمعًا لذَهَبَةٍ. وعن صاحب «العين»: الذَّهب: التِّبْرُ، والقِطعة مِنْه ذَهَبَةٌ، تُذكَّر وتُؤنَّث. وعن ابن الأنباريِّ: الذَّهب أنثى وربَّما ذُكِّر. وعن الفرَّاء: وجمعُه ذُهْبانٌ.
          ثانيها: أسلفنا في باب: ما يُذكر في بيع الطَّعام والحُكْرة، الكلامَ على ((هَاءَ وَهَاءَ))، قال صاحب «العين»: هو حرف مستعملٌ في المناوَلة، تقول: هاءَ وهاكَ، وإذا لم تجئ بالكاف مَدَدْتَ، فكانت المَدَّة في هاءَ خلفًا مِنْ كافِ المخاطَبة. وعن الفرَّاء: أهلُ نجدٍ يقولون: ها يا رجلُ، وأهل نجدٍ تنصبها كقول أهل الحجاز، وبعضهم يجعل مكان الهمزة كافًا. وفي «المنتهى»: هاءْ بالهمز والسُّكون. وفي «الجامع»: فيه لغات: بألف ساكنة وهمزة مفتوحة، وهو اسمٌ للفعل، ولغة أخرى: ها يا رجل، فتُحذف الياء للجزم، ومِنْهم مَنْ يجعله بمنزلة الصَّوت، فيقول: ها يا رجل. وذكر السِّيرافيُّ فيها سبعَ لغات.
          ثالثها: قوله: (سَوَاءً بِسَوَاءٍ) قال ابنُ التِّين: ضُبِطَ في غير أمٍّ بالقصر، وهو في اللُّغة ممدودٌ مفتوح السِّين: أي المماثلة في المقادير.
          وقوله هناك في باب: بيع الفضَّة بالفضَّة: (وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ). الشَّفُّ: النُّقصان والزِّيادة، شفَّ يَشِفُّ شَفًّا: زاد، وأَشَفِّ يُشِفُّ: إذا نَقَص، والاسم مِنْه الشَّفُّ والشِّفُّ. قال ابنُ التِّين: أراد في الحديث: لا تزيدوا بعضَها على بعض ولا تنقصوا، وكأنَّ الزِّيادة أَولى إلَّا أنه عَدَّاه بعلى، وعلى مختصَّةٌ بالزِّيادة، وعن مختصَّةٌ بالنُّقصان، ولا يصحُّ حملُه على النَّقص مع على إلَّا على مذهب مَنْ يجيز بدلَ الحروفِ بعضِها مِنْ بعضٍ، فيَجعل على موضعَ عن وفيه بُعْد.
          رابعها: الرِّبا يقع في التَّبايُع إمَّا بالزِّيادة أو بالنَّسيئة، فالزِّيادة لا تكون إلَّا في الجنس الواحد كالذَّهب بالذَّهب مثلًا، بخلاف النَّسيئة فإنَّها قد تكون فيه وفي الجنسين كالذَّهب بالورِق وعكسِه نَسيئةً، وهذان الأمران حرامٌ عند الشَّافعيِّ، وبه قال عامَّة الصَّحابة والتَّابعين ومَنْ بعدَهم. وقال أبو حنيفة كذلك في النَّقدين، وقال فيما عداهما: يجوز التَّفرُّق قبلَ القبضِ، فأجاز فيها النَّسيئةَ.
          وذهب جماعةٌ مِنَ الصَّحابة إلى أنَّ الرِّبا إنَّما هو في النَّسيئة خاصَّةً، فأمَّا في التَّفاضل فجائزٌ إذا كان يدًا بيدٍ، حُكِيَ ذلك عن ابن عبَّاس وزيدِ بن أرقمَ وأسامةَ بن زيدٍ وعبدِ الله بن الزُّبَير والبَراء بن عازِب، واختُلف عن ابن عبَّاس، ففي مسلم ((أنَّ أبا سعيد قال له: أرأيتَ هذا الَّذي تقولُ أشيءٌ سمعتَه مِنْ رسول الله صلعم أو شيءٌ وجدتَه في كتاب الله؟)) فقال: لا ولَأنتم أعلمُ برسول الله صلعم مِنِّي، ولكنْ أخبرني أسامةُ بن زيد أنَّ رسول الله صلعم قال: ((إِنَّ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ)). وسيأتي في البخاريِّ أيضًا [خ¦2178].
          وفي رواية الأثرَم عنه أنَّه قال: ما أنا بأقدمِكم صحبةً ولا أعلمِكم بكتاب الله، ولكنِّي سمعتُ زيدَ بن أرقم والبراءَ بن عازب يقولان: سمعنا رسولَ الله صلعم يقول: ((لَا يَصْلحُ بَيْعُ الذَّهبِ وَالفِضَّةِ إِلَّا يَدًا بِيَدْ)) فقال أبو سعيد: إنَّما سمعتُه يقول: ((مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ فَهُو رِبًا)). وعند التِّرمِذيِّ وابن المنذِر والأثرم أنَّه رجَع إلى قول الجماعة.
          قال ابنُ التِّين: وروايةُ ابن عبَّاس عن أسامةَ إن كانت محفوظةً، فيحتمل أن يكون سَمع بعضَ الحديث فحكى ما سَمع، / وذلك أن يكون _◙_ سُئِلَ عن الذَّهب بالفضَّة، أو الشَّعير بالتَّمر فقال: ((إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ)).
          وردَّ الخطَّابيُّ قولَ مَنْ زَعم النَّسخ، لأنَّه لم يكنْ مشروعًا قطُّ حتَّى نُسخ، وهذا ممَّا غَلِط فيه كثير مِنَ العلماء، يَضعون التَّحريم موضعَ النَّسخ كَمَنْ يقول: شُربُ الخمر منسوخٌ ولم يكن شربُه مشروعًا قطُّ، وإنَّما كانوا يشربونها على عادتهم المتقدِّمة قبل الحظر. ولابن حزم مِنْ طريق حَيَّانَ بنِ عُبيد الله، عن أبي مِجْلَزٍ: قال عبد الله لأبي سعيد: جزاك الله خيرًا ذكَّرتني أمرًا قد كنتُ أُنسيته، فأنا أستغفر الله وأتوبُ إليه، فكان ينهى عنه بعد ذلك.
          ورواه الطَّبَريُّ بلفظ: فلقيَه أبو سعيد فقال: يا ابن عبَّاس ألا تتَّقي الله حتَّى متى تُؤْكِلُ النَّاس الرِّبا؟! ثمَّ ساق الحديث ((يَدًا بِيَدٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَا زَادَ فَهُو رِبًا)).
          قال ابن حزم: حيَّان عن أبي مِجْلَزٍ لا حجَّة فيه، لأنَّه منقطعٌ لم يسمعه مِنْ أبي سعيد ولا مِنِ ابن عبَّاس، قال: وقد روى رجوعَه سليمانُ بن عليٍّ الرَّبَعيُّ وهو مجهولٌ لا يُدرى مَنْ هو، عن أبي الجَوزاء، وروى عنه أيضًا أبو الصَّهباء أنَّه كَرهه، وروى عنه طاوسٌ ما يدلُّ على التَّوقُّف، وروى عنه الثِّقة المختصُّ به خلافَ هذا، ثمَّ روى بإسناده إلى سعيد بن جُبير عنه أنَّه قال: ما كان الرِّبا قطُّ هاك وهاك، وحلفَ سعيدُ بن جُبير بالله ما رجع عنه عبد الله حتَّى مات.
          وفي حديث سعيدٍ عن أبي صالح قال: صحبتُ ابنَ عبَّاس حتَّى مات، فوالله ما رجع عن الصَّرف. وعن سعيد بن جُبير: سألتُ ابن عبَّاس قبل موته بعشرين ليلةً عن الصَّرف، فكان يأمر به ولم يرَ به بأسًا.
          قال ابن حزم: وفي حديث أبي مِجْلَزٍ عن ابن عبَّاس الَّذي أسلفناه ((وَكَذَلِكَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ)) هذه اللَّفظة مُدرَجة مِنْ كلام أبي سعيد ثمَّ أوضحه، لأنَّه لمَّا تمَّ كلام رسول الله صلعم قال أبو مِجْلَزٍ: وكذا ما يُكال، مفصولًا عن الحديث الأوَّل. وروى الأثرمُ في البيوع عن الحسن البصريِّ: لو لم يرجع عنه لما التفتُّ إليه.
          فائدة: ذَكر محمَّد بن أسلمَ قاضي سَمَرْقَنْدَ في كتاب «الرِّبا»: أنَّ مِنَ الاحتيال في الرِّبا إذا قال: اشترِ هذا حتَّى أشتريَه مِنْك، وأسندَ عن ابنِ عمر كراهَته، وعن إبراهيم أيضًا. وسمَّاه الحسنُ: المواضَعة وكَرهه، وكذا طاوسٌ. قال محمَّد بن أسلم: ولقد كَره الحسن وابن سِيرينَ أن يشتريَ الرَّجل التِّجارة ويحملها إلى منزله، فيضعَها في بيته يبتغي بها مَنْ يشتريها بالنَّسيئة.