التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من باع نخلًا قد أبرت أو أرضًا مزروعةً أو بإجارة

          ░90▒ بَابُ: مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ، أَوْ أَرْضًا مَزْرُوعَةً أَوْ بِإِجَارَةٍ.
          2203- (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وقَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، يُخْبِرُ عَنْ نَافِعٍ، مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: أَيُّمَا نَخْلٍ بِيعَتْ، قَدْ أُبِّرَتْ لَمْ يُذْكَرِ الثَّمَرُ، فَالثَّمَرُ لِلَّذِي أَبَّرَهَا، وَكَذَلِكَ العَبْدُ، وَالحَرْثُ. سَمَّى لَهُ نَافِعٌ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَة).
          2204- ثم ساق حديثَ ابن عمر أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: (مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ).
          الشَّرح: (إِبْرَاهِيمُ) هذا هو ابن موسى بن يزيدَ بن زاذانَ التَّميميُّ الفرَّاء الصَّغير، وهذا من باب المذاكرة كما أسلفناه. وحديثُ ابن عمر أخرجه مسلم، قال الطَّرْقيُّ: الصَّحيح مِنْ رواية نافع ما اقتصر عليه مِنَ التَّأبير خاصَّة، وذكرُ العبدِ يعني: ((وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ)) يذكر عن ابن عمر عن عمر قوله: قال: وقد رواه عن نافعٍ عبدُ ربِّه بنُ سعيد، وبُكَيْر بن الأشجِّ فجمعا بين الحديثين، مثل رواية سالم وعِكرمةَ بن خالد، فإنَّهما روَيا الحديثين جميعًا عن ابن عمر، عن رسول الله صلعم. وكذا قال أبو عمر: اتَّفق نافعٌ وسالم عن ابن عمر مرفوعًا في قصَّة النَّخل، واختلفا في قصَّة العبد، رفعها سالم، ووقفها نافعٌ على عمر قوله، وهو أحد الأحاديث الأربعةِ الَّتي اختَلف فيها نافع وسالم.
          ولمَّا روى النَّسائيُّ حديث ابن إسحاقَ عن نافعٍ، عن ابن عمر عن عمر مرفوعًا لحديث التَّأبير والعبد، قال: هذا خطأ، والصَّواب حديث عمر موقوفًا. وقال الدَّارَقُطْنيُّ: رواه سُفيان بن حسين عن الزُّهْريِّ عن سالم عن أبيه عن عمر مرفوعًا، وغيرُه لم يذكر فيه عمر، ورواه نافعٌ فخالف سالمًا فجعله عن ابن عمر عن عمر موقوفًا، ووَهَمَ أبو معاوية فرفعه، والصَّواب الأوَّل وهو الصَّحيح، ورواه ابن إسحاقَ وجماعاتٌ عدَّدهم عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا بإسقاط عمر بالقصَّتين جميعًا، ووَهَمُوا على نافع، ورواه الثَّوريُّ عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعًا ولم يتابَع عن ابن دينار، وذكره البخاريُّ أيضًا في باب: الرَّجل يكون له ممرٌّ أو شِرب في حائط أو نخل.
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: أَبَرتُ النَّخْلَ آبِرها _بالكسر والضَّمِّ والتَّخفيف_ فهي مأبورة، وإِبارُ كلِّ تمرٍ بحسبه، وبما جرت العادة فيه بما ينبت تمره ويعقده، وهو: شَقُّ طَلْعِ النَّخلة، وإن لم يحط فيه، وقد يعبَّر بالتَّأبير عن ظهور الثَّمرة وعن انعقادها وإن لم يُفعل فيها شيءٌ، ويُقال: أبَّرته _بتشديد الباء_ أيضًا أؤبِّره تأبيرًا، كقوَّمتُ الشَّيء تقويمًا فهو مقوَّم، وعلامته فيما عدا النَّخل سقوط النَّور الَّذي لا ينعقد. وقال ابن بَطَّال: أمَّا معنى الإبار في سائر النَّخل فقال ابن القاسم: يُراعى ظهور الثَّمرة لا غيره، وقال ابن عبد الحكم: كلُّ ما لا يُؤبَّر مِنَ الثِّمار فاللَّقاح فيها بمنزلة الإِبار في النَّخل.
          ثانيها: قال القزَّاز: / مَنْ رواه يشترط _بغير هاء_ أجاز اشتراط بعض الثَّمرة، ومَنْ رواه بالهاء لا يجيز إلَّا اشتراط الكلِّ، قال: وكذلك وقع في مال العبد بالهاء وبغيرها.
          ثالثها: قوله: (فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ) يريد أنَّها بمطلق العقد تكون له، وبه قال جمهور الفقهاء، وخالف ابن أبي ليلى فقال: إنَّها للمشتري كالعهن والصُّوف على ظهر الغنم، والنَّصُّ يردُّه، والثَّمرة نَماء عن الأصل بخلافهما، وأمَّا قبل أن تُؤبَّر فهي للمشتري عند مالك والشَّافعيِّ وابن أبي ليلى، وقال أبو حنيفة: هي للبائع كالمأبورة، ودليلُ الخِطاب يردُّه، وأيضًا ما كان غير طاهر تبعًا لما نشأ عنه.
          قال ابن بَطَّال: أَخذَ بظاهر حديث الباب مالكٌ واللَّيث والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاق، فقالوا: مَنْ باع نخلًا قد أُبِّرت ولم يشترط ثمرتَه المبتاعُ فالثَّمر للبائع، وهي في النَّخل متروكةٌ إلى الجِداد وعلى البائع السَّقيُ، وعلى المشتري تَخْلِيَتُه وما يكفي مِنَ الماء، ولذلك إذا باع الثَّمرة دون الأصل فعلى البائع السَّقي.
          وقال أبو حنيفة: سواءٌ أبَّر أو لم يؤبِّر هو للبائع، وللمشتري مطالبتُه بقلعها عن النَّخل حالًا، ولا يلزمه أن يصبرَ عليه إلى الجِداد، وإن اشترط البائعُ في البيع تركَ الثَّمرة إلى الجِداد فالبيع فاسد، واحتجُّوا بالإجماع على أنَّ الثَّمرة لو لم تؤبَّر حتَّى تناهت صارت بلحًا وبُسرًا وبِيع النَّخلُ، أنَّ الثَّمرة لا تدخل فيه فعلمنا أنَّ المعنى في ذكر الإِبار ظهورُ الثَّمرة خاصَّة، إذ لا فائدة في ذكر الإبار غيره، ولم يفرِّقوا بين الإبار وغيره، قالوا: وقد تقرَّر أنَّ مَنْ باع دارًا له فيها مَتاع فللمشتري المطالبةُ بنقله عن الدَّار في الحال، ومَنْ باع شيئًا فعليه تسليمُه ورفعُ يده عنه، وبقاءُ الثَّمرة على النَّخل بعد البيع انتفاع النخل إلى وقت الجِداد، فيكون في معنى مَنْ باع شيئًا واستثنى منفعتَه، وهذا لا يجوز، فخالفوا السُّنَّة إلى قياس، ولا قياسَ لأحدٍ معها.
          ويُقال لهم: مَنْ باع شيئًا مشغولًا بحقٍّ للبائع فإنَّ البائع يلزمُه نقله عن المبيع على ما جرت به العادة في نقل مثله، ألا ترى أنه لو باع دارًا هو فيها وعيالُه في نصف اللَّيل وله فيها طعامٌ كثيرٌ وآلةٌ فلا خلاف أنَّه لا يلزمه نقلُه عنها نصفَ اللَّيل، حتَّى يرتاد منزلًا يسكنه ولا يطرح ماله في الطَّريق، هذا عُرفُ النَّاس.
          وكذلك جرت العادة في أخذ الثَّمرة عند الجِداد، وهو حين كمالِ بلوغها، ولمَّا ملَّك الشَّارعُ الثَّمرة بعد الإِبار للبائع اقتضى استيفاءَ منفعته بها على كمالها، وأغنى ذلك عن استثناءِ البائع ببقيَّة الثَّمرة إلى الجداد، وأبو حنيفة يجيز أن يبيع السِّلعة أو الثَّمرة ويستثنيَ نصفَها وثلثيها، وما يُستثنى مِنْها إذا كان المستثنى معلومًا، وكذلك قولُ أكثر العلماء إذا باع نخلًا وفيها تمرة لم تؤبَّر فهي للمبتاع تابعةً لأصلها بغير شرط، استدلالًا بحديث ابن عمر.
          وخالف ذلك أبو حنيفة فقال: هي للبائع بمنزلة لو كانت مؤبَّرة إلَّا أن يشترطَها المبتاعُ، فيُقال لهم: التَّمر له صفتان: مؤبَّرٌ وغيرُ مؤبَّر، ولمَّا جعله الشَّارعُ إذا كان مؤبَّرًا للبائع بترك المشتري اشتراطَها أفادنا ذلك أنَّ الثَّمرة للمشتري إذا لم تُؤبَّر وكانت في أكمامها، وإن لم يشترطها المشتري، ولو كان الحُكم فيها غيرَ مختلف حتَّى يكون الكلُّ للبائع، لكان يقول: مَنْ باع نخلًا فيها ثَمرة فهي للبائع، فخالَف الحديث مِن وجهين: نصِّه فيما إذا كانت مؤبَّرة، ودليلِه إذا كانت غير مؤبَّرة.
          رابعها: قول نافع: (وَكَذَلِكَ العَبْدُ) يريد أنَّ ماله لبائعه.
          وقوله: (وَالحَرْثُ) يريد الأرض المحروثة. وروى ابن القاسم عن مالك: أنَّ مَنِ اشترى أرضًا مزروعة ولم تُسبِل فالزَّرع للبائع، إلَّا أن يشترطَ المشتري، وإن وقع البيعُ والبذر لم تنبته فهو للمبتاع بغير شرط. وروى ابن عبد الحكم عن مالك: إن كان الزَّرع لُقح أكثرُه، ولَقاحه: أن يتحبَّب ويُسْبِلَ حتَّى لو يَبس حينئذٍ لم يكن فسادًا فهو للبائع، إلَّا أن يشترط المشتري، وإن كان لم يلقح فهو للمبتاع، وذَكر ابنُ عبد الحكم في موضعٍ آخرَ مِنْ كتابه مثلَ رواية ابن القاسم.
          فرع: روى ابنُ القاسم عن مالكٍ أنَّه لا يجوز استثناءُ نصف مال العبد إلَّا أن يكون مالُه معلومًا ويكون غيرَ العين، يريد أنَّه إذ ابتاعه بالعين وهو حاضر يراه، وإنَّما الاستثناء في الجميع، وقاله سعيد بن حسَّان، وقال: لا يجوز أن يستثنيَ مال أحدهما إذا اشتراهما، وأجازه أشهبُ في العبد أن يستثنيَ بعض ماله. واختلف بعض أصحاب مالك إذا استثنى بعض الثَّمرة، فأجازه بعضُهم ومنعه بعضُهم.
          فرع: فإن وقع العقد على النَّخل، أو العبد خاصَّة ثمَّ زاده شيئًا ليلحق الثَّمرة والمال يألِبُها. لابن القاسم: إن كان بحضرة البائع وتقريب جاز وإلَّا فلا، وأجازه أشهبُ في ثمرة النَّخل، ومنعه في مال العبد، والمعنى بالقرب: ألَّا يدخل المالَ زيادةٌ ولا نقص، فإن دخله شيءٌ مِنْ ذلك فقد بعُد وامتنع إلحاقُه بالعقد.