التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب بيع العبيد والحيوان بالحيوان نسيئةً

          ░108▒ بَابُ: بَيْعِ العَبِيدِ وَالحَيَوَانِ بِالحَيَوَانِ نَسِيئَةً.
          (وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ، يُوفِيهَا صَاحِبَهَا بِالرَّبَذَةِ، وَقَالَ ابن عبَّاس: قَدْ يَكُونُ البَعِيرُ خَيْرًا مِنَ البَعِيرَيْنِ. وَاشْتَرَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا، وَقَالَ: آتِيكَ بِالْآخَرِ غَدًا رَهْوًا إِنْ شَاءَ اللهُ، وَقَالَ ابْنُ المُسَيِّبِ: لاَ رِبَا فِي الحَيَوَانِ: البَعِيرُ بِالْبَعِيرَيْنِ، وَالشَّاةُ بِالشَّاتَيْنِ إِلَى أَجَلٍ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لاَ بَأْسَ بَعِيرٌ بِبَعِيرَيْنِ وَدِرْهَمٌ بِدِرْهَم نَسِيئَةً).
          2228- ثمَّ ساق حديث أنس: (كَانَ فِي السَّبْيِ صَفِيَّةُ فَصَارَتِ إِلى دَحْيَةَ الكَلْبِيِّ، ثمَّ صَارَتِ الى النَّبيِّ صلعم).
          الشَّرح: أثر ابن عمر أخرجه مالك في «الموطَّأ» عن نافع عنه: ((أَنَّهُ اشْتَرَى...)) فذكره. وأثر ابن عبَّاس أخرجه الشَّافعيُّ وهو في «مسنده»: ((أخبرنا ابن عُيَينةَ عن ابن طاوس عن أبيه، عن ابن عبَّاس أنه سُئِلَ عن بعير ببعيرين، فقال: قَدْ يَكُون..)) إلى آخره.
          و(الرَّبَذَةِ) اسم مكان، وأثرُ رافعٍ ذكره عبد الرَّزَّاق في «مصنَّفه» ((عن مَعْمرٍ عن بُدَيْلٍ العُقَيْليِّ عن مُطَرِّفِ بن عبد الله بن الشِّخِّير أنَّ رافعَ بن خَديجٍ..)) فذكره. وأثر ابن المسيِّب رواه الشَّافعيُّ، عن مالكٍ عن ابن شِهاب عنه، قال: ((لاَ رِبَا فِي الحَيَوَانِ، قَدْ نُهِيَ عَنِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ)).
          وقال عبد الرَّزَّاق في «مصنَّفه»: ((أخبرنا مَعْمرٌ، عن الزُّهْريِّ، سُئِلَ سعيدٌ..)) فذكره. وتعليقُ ابن سِيرينَ وقع لأبي زيد: ((وَدِرْهَمٍ أَوْ دِرْهَمَيْنِ))، وعند أبي ذرٍّ ولأبي الهيثم والحَمَويِّ: / ((وَدِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ)) وهو خطأ.
          ورواه سعيدُ بن منصورٍ، حدَّثنا هُشَيْمٌ، أخبرنا يونسُ، عن ابن سِيرينَ أنَّه كان لا يرى بأسًا بالحيوان بالحيوان يدًا بيد، والدَّراهم نسيئة، ويُكره أن تكون الدِّرهم نقدًا، والحيوان نَسيئة.
          ورواه عبد الرَّزَّاق عن مَعْمر عن قَتادة، عن أيُّوبَ عن ابن سِيرينَ قال: لا بأس بعيرٌ ببعيرين، ودرهمٌ بدرهمين نَسيئةً، قال: فإن كان أحدُ البعيرين نسيئةً فهو مكروه.
          واعتَرض ابن بَطَّال، فقال: أمَّا قولُ ابن سِيرينَ.. فذكره، (وَدِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ نَسِيئَةً) وفي بعض النُّسخ: <وَدِرْهَمٌ بِدِرْهَمَيْنِ نَسِيئَةً> وإنَّ ذلك خطأٌ في النَّقل عن البخاريِّ، والصَّحيح عن ابن سِيرينَ ما رواه عبدُ الرَّزَّاق، فذكره، لكن أسقطَ قَتادةَ كما سقناه، وساقه بلفظ: ((لَا بَأْسَ بِبَعِيرٍ بِبَعِيرَيْنِ، وَدِرْهَمٍ الدِّرْهَمُ نَسِيئَةٌ)) والباقي مثله، وهذا مذهبُ مالكٍ، وقد ذكره في «الموطَّأ» في مثله: الجَمل بالجَملِ وزيادةِ دراهمَ، قال: والَّذي يجوز مِنْ ذلك أن يكون الجَملان نقدًا، ولا يبالي تأخَّرت الدَّراهم أو تعجَّلت، لأنَّ الجَمل بالجَمل قد حصل يدًا بيد، فبطَل أن يُتوهَّم فيه السَّلفُ على أنَّه بيع، لأنَّ الدَّراهم هاهنا تَبَعٌ للجَمل وليس هي المقصِد، وأمَّا إذا كان أحدُ الجملين نَسيئةً فلا يجوز، لأنَّه عنده مِنْ باب الزِّيادة في السَّلف، كأنَّه أسلف جملًا في مثلِه واستزاد عليه الدَّراهم، ولو كانت الدَّراهم والجَمل جميعًا إلى أجلٍ لم يجزْ، لأنَّه أقرضَه الجملَ على أنَّه يردُّه إليه بصفته ويردُّ معه دراهمَ، فهو سلفٌ جرَّ منفعةً وزيادةً على ما أخذ المتسلِّف، فلا يجوز.
          وحديثُ صَفيَّةَ لا تعلُّق له بما أوردَه، نعم رواه حمَّادُ بن سَلَمَةَ عن ثابتٍ عن أنس ((أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي سَهْمِ دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ، فَاشْتَرَاهَا رَسُولُ اللهِ صلعم بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ)).
          وقال ابنُ التِّين: هو لا يشبهُ التَّبويب، لكنَّه أراد أنَّه _◙_ أعطاه غيرها، فصار رقيقًا برقيقٍ، ولا يكرهُه أحدٌ، نعم وقع الخلافُ في واحدٍ باثنين إلى أجلٍ مِنْ جنسٍ واحد. واختَلف أصحابُ مالكٍ في واحد باثنين، أحدُهما تقدَّم والآخرُ إلى أجلٍ.
          وقول رافع: (آتِيكَ غَدًا رَهْوًا) أي سهلًا عفوًا، لا باحتباس ولا تشدُّد.
          قال صاحب «العين»: الرَّهو: المشي في سكون. وقال أبو عُبيد: أي آتيك عفوًا لا احتباس فيه. قال الهَرَويُّ: ويُقال: سَيرًا رهوًا أي: ساكنًا، وقيل: معناه ارتفاعُ النَّهار. وقال ابن عبَّاس: الرَّهْو المنخفِضُ مِنَ الأرض، وقيل: المرتفِع.
          إذا تقرَّر ذلك، قال عبد الملك: الأَبْعِرةُ صِغار الإبل، فكأنَّه باع جملًا كبيرًا بأربعةِ أَبْعِرةٍ صغارٍ إلى أجل، وجاز لاختلافِ المنافع، وقيل: إنَّ البعير يُطلق على الحمار، حكاه ابن التِّين عن مجاهدٍ، قال: وأثرُ ابنِ سِيرينَ لا ربا في كذا، هو الرِّبا بعينِه، وسلفٌ جرَّ منفعةً، إذا كان الجَمل مِنْ جنس الجملين.
          وأمَّا بيعُ الحيوان بالحيوان نسيئةً فقد اختلف العلماءُ فيه، فقالت طائفة: لا رِبا فيه، وجائزٌ بعضُه ببعض نقدًا ونسيئةً، اختَلف أو لم يختلف، هذا مذهب عليٍّ وابنِ عمر وابن المسيِّب، وهو قول الشَّافعيِّ وأبي ثور، وقال مالك: لا بأس بالبعير النَّجيبِ بالبعيرين مِنْ حاشية الإبل نسيئةً، وإن كانت مِنْ نَعَمٍ واحدٍ إذا اختلفت وبانَ اختلافها، وإن أشبه بعضُها بعضًا واتَّفقت أجناسُها فلا يؤخذ مِنْها اثنان بواحدٍ إلى أجل. ويُؤخذ يدًا بيد، وهو قول سليمانَ بن يَسارٍ ورَبيعةَ ويحيى بنِ سعيد.
          وقال الثَّوريُّ والكوفيُّون وأحمدُ: لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً، اختلفت أجناسُها أو لم تختلف، واحتجُّوا بحديث الحسن عن سَمُرَةَ أنَّ النَّبيَّ صلعم ((نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً)). صحَّحه التِّرمِذيُّ وصحَّح سماعَ الحسن مِن سَمُرَةَ كما قاله عليُّ بن المَدينيِّ وغيره، وقال في «علله»: سألت محمَّدًا عنه فقال: روى داودُ العطَّار عن مَعْمر هذا، وقال: عن ابن عبَّاس، وقال النَّاس: عن عِكْرِمة مرسلٌ، وهَّن محمَّد هذا الحديث، ورواه إبراهيمُ بن طَهْمانَ عن مَعْمَر، ذكره البَيْهَقيُّ. قال التِّرمِذيُّ: والعمل على هذا عند أكثرِ أهل العلم مِنَ الصَّحابة وغيرهم.
          وقال الأثرم: عن أحمد أنَّه سُئِلَ عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً، فقال: يعجبني أن يتوقَّاه. فقيل له: فيه شيء يصحُّ؟ قال: فيه الحسن عن سَمُرَة ولا يصحُّ سماعُه مِنْه. وساقه عبدُ الله بن أحمد عن والده، ثمَّ قال في آخره: ثمَّ نسي الحسنُ فقال: إذا اختلف الصِّنفان فلا بأس.
          وأمَّا حديثُ: ((نَهَى عَنْ بَيْعِ الشَّاةِ بِاللَّحْمِ)) فأخرجه الحاكم مِنْ هذا الوجه أيضًا، ثمَّ قال: صحيح الإسناد، ورواته عن آخرهم ثقاتٌ. وقد احتجَّ البخاريُّ بالحسن عن سَمُرةَ أي: في حديث العَقيقة، وله شاهد مرسلٌ في «الموطَّأ» عن زيد عن ابن المسيِّب أنَّه _◙_ نهى عن بيع الحيوان بالحيوان، وفي «التَّمهيد» عن سهل بن سعد مرفوعًا مثله، ووهَّاه فقال: سندُه موضوعٌ.
          واحتجُّوا أيضًا بحديثِ عِكرمة عن ابن عبَّاس: ((َنهَى رَسُولُ اللهِ صلعم عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً)). قال الحاكم: صحيحُ الإسناد.
          وروى أبو أحمد الزُّبَيريُّ وعبد الملك بن عبد الرَّحمن الزِّياديُّ عن الثَّوريِّ عن مَعْمر كما سلف.
          قال البَيْهَقيُّ: فيه وفي ابن طَهْمانَ والعطَّار وكلُّ ذلك وهمٌ، والصحيح: عن مَعْمَر عن يحيى عن عِكْرمة، عن رسول الله صلعم مرسلٌ. وذكره الإسماعيليُّ في حديث ابن أبي كَثير أن ابن طَهْمانَ رواه عن يحيى مرسلًا.
          وقال ابن خُزَيمَة: الصَّحيحُ عند أهل المعرفة بالحديث إرسالُه، وكذا ابن أبي حاتم لمَّا سأل أباه عن حديث عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن مَعْمَرٍ به مرفوعًا، قال: الصَّحيحُ عن عِكْرمة عن رسول الله صلعم، مرسل. وقال أحمد فيه فيما حكاه الأثرمُ: باطلٌ ليس بشيءٍ، وإنَّما هو مرسل، كذا رواه ابنً المبارَك وفي كتب مَعْمَر مرسل عن عِكْرِمة. ونقل المنذريُّ عن البخاريِّ أنَّ الثِّقاتِ رَوَوه عنه موقوفًا، وعِكْرِمة عن رسول الله صلعم مرسل.
          قلت: ذكره الإسماعيليُّ مِنْ حديث ابن عُيَينةَ عن مَعْمَر عن الزُّهْريِّ ويحيى بن أبي كَثير، عن عِكْرِمة فذكره. وأخرجه الطَّحاويُّ مِنْ حديث أشعثَ عن أبي الزُّبَير عن جابر ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم لَمْ يَكُنْ يَرَى بَأْسًا بِبَيْعِ الحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ، وَيَكْرَهُهُ نَسِيئَةً)). وحسَّنه التِّرمِذيُّ مِنْ حديث حجَّاج بن أَرْطاةَ عن أبي الزُّبَير. وقال الأثرمُ: قيل لأحمد: حجَّاجٌ عن أبي الزُّبَير، / عن جابرٍ الحديث، فقال: حجَّاج زاد فيه شيئًا، وليثُ بن سعدٍ سمعه من أبي الزُّبَير، لا يذكر فيه شيئًا، يقول: ((إِنَّهُ _◙_ بَاعَ عَبْدًا بِعَبْدَيْنِ)) ثمَّ قال: ليس فيه شيء يُعتمد عليه، ويعجبني أن يتوقَّاه.
          وروى التِّرمِذيُّ في «علله» مِنْ حديث زِياد بن جُبَير عن ابن عمر: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم عَنْ بَيْعِ الحَيَوَانِ نَسِيئَةً)) ثمَّ قال: سألت محمَّدًا عنه فقال: إنَّما يرويه عن زِياد، عن رسول الله صلعم، مرسلًا.
          ورواه الطَّحاويُّ مِنْ حديث مسلم بن إبراهيمَ عن محمَّد بن دينارٍ عن يونُس بن عُبيدٍ عن زيادٍ عنه مرفوعًا.
          وقال الأثرم: ورواه عن مسلم. قال أبو عبد الله محمَّد بن دِينارٍ: زعموا كان لا يحفظ، كان يتحفَّظ لهم، فذكرت له حديثَ ابن عمر في الحيوان قال: ليس فيه ابنُ عمر إنَّما هو زِياد بن جُبَير، موقوف.
          وقال ابنُ مسعودٍ: السَّلف في كلِّ شيءٍ إلى أجلٍ مسمًّى لا بأس به، ما خلا الحيوانَ. وقال سعيد بن جُبَير: كان حذيفة يكره السَّلم في الحيوان نسيئةً، وقيل: هو مذهب ابن عبَّاس وعمار، وأجازوا التَّفاضُل فيه يدًا بيد، ومعنى النَّهي عندَهم في ذلك: عدمُ وجوده، وأنَّه غير موقوف عليه. قال الطَّحاويُّ: وقد كان قبل نسخ الرِّبا يجوزُ بيعُ الحيوان نَسيئةً.
          وروى ابن إسحاقَ عن أبي سفيانَ عن مسلمِ بن كَثير عن جُبَير عن عَمْرو بن حَرِيشٍ قال: قلت لعبد الله بن عمرو: إنَّه ليس بأرضنا ذهبٌ ولا فضَّة، وإنَّما نبيع البعيرَ بالبعيرين، والبقرةَ بالبقرتين، والشَّاةَ بالشَّاتين، فقال: ((إنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا فَنَفِدَت الْإِبِلُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي قِلَاصِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ)) ثمَّ نُسخ ذلك بأحاديث المنع، وثبَت أنَّ القرض الَّذي هو بدلٌ مِنْ مال لا يجب فيه حيوان في الذِّمم، وقد رُوِيَ ذلك عن نَفَرٍ مِنَ المتقدِّمين.
          ولمَّا ذَكر ابنُ أبي حاتمٍ حديثَ ابن عمرٍو هذا قال: اختُلف على ابن إسحاقَ في إسناده، والحديث مشهور. ولمَّا ذكره البَيْهَقيُّ قال: له شاهدٌ صحيحٌ عن ابن جُريج أنَّ عمرو بن شُعَيبٍ أخبره عن أبيه عن جدِّه ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا...)) الحديثً. وفيه: ((البعير بالبعيرين وبالأَبْعِرة)).
          وسأل عثمانُ السِّجِسْتانيُّ يحيى بنَ مَعينٍ عن سند هذا الحديث، فقال: سندٌ صحيحٌ مشهور، وهذا المذهبَ أراد البخاريُّ.
          ووجهُ إدخالِه حديثَ صَفِيَّةَ في هذا الباب أنَّ صَفِيَّةَ صارت إلى دِحْيَةَ الكَلْبيِّ بأمره صلعم فأُخبر رسولُ الله صلعم أنَّها سيِّدةُ قُرَيظةَ، ولا تصلحُ إلَّا له، فأَمر فأُتي بها، فلمَّا رآها قال له: ((دَعْهَا وَخُذْ غَيْرَهَا)) فكان تركُه لها عند رسول الله صلعم وأخذُه جاريةً مِنَ السَّبي غيرَ معيَّنةٍ بيعًا لها بجاريةٍ نَسيئةً، حتَّى يأخذَها ويَستحسنَها، فحينئذٍ تتعيَّن له، وليس ذلك يدًا بيد.
          وحجَّةُ مالكٍ أنَّ الحيوان إذا اختلفت منافعُه، صار كجِنْسَين مِن سائر الأشياء، يجوزُ فيه التَّفاضل والأجَل، لاختلاف الأغراض فيه، لأنَّ غَرض النَّاس مِنَ الحيوانِ والعبيدِ المنافعُ، ولا رِبا عندَهم في الحيوان والعُروض إذا أحدث فيها النَّسيئة، إلَّا مِنْ باب الزِّيادة في السَّلف، وإذا كان التَّفاضُل في الجهة الواحدة خرجَ أن يُتَوَهَّمَ فيه الزِّيادةُ في السَّلف، وليس العبدُ الكاتبُ والصَّانعُ عندَهم مثلَ العبد الَّذي هو مثلُه في الصُّورة، إذا لم يكن كاتبًا ولا صانعًا، وأَّما إذا اتَّفقت منافعُها، فلا يجوزُ عنده صنفٌ مِنْه بصنفٍ مثله أكثرَ مِنْه إلى أجلٍ، لأنَّ ذلك يدخُل في معنى قَرْضٍ جرَّ منفعةً، لأنَّه أعطى شيئًا له منفعةٌ بشيءٍ أكثرَ مِنْه مثلُ تلك المنفعة، لأنَّه إنَّما طلب زيادة الشَّيء، لاختلاف منافعِه، فلم يجزْ ذلك.
          وتأوَّل مالكٌ فيما رُوي عن عليٍّ أنَّه باع جملًا له يُدعى بعُصَيْفِيرٍ بعشرين بعيرًا إلى أجلٍ. وبما رُوِيَ عن ابن عمر أنَّه اشترى راحلةً بأربعةِ أَبْعِرة، أنَّ منافعَها كانت مختلفةً، وليس في الحديث عنهم أنَّ منافعَها كانت متَّفقةً، فلا حجَّة للمخالِف فيه. وروى وَكيعُ بن الجَرَّاح في «مصنَّفه»: حدَّثنا حسنُ بن صالحٍ عن عبد الأعلى، قال: شهدتُ شُريحًا ردَّ السَّلم في الحيوان، وحدَّثنا إسرائيلُ عن إبراهيم بن عبد الأعلى سمعتُ سُوَيدَ بنَ غَفَلَةَ يكرهُ السَّلم في الحيوان، وحدَّثنا النَّضْرُ بن أبي مريمَ أنَّ الضَّحَّاكَ رخَّص فيه ثمَّ رَجَعَ عنه.
          احتجَّ الشَّافعيُّ بحديث أبي هريرة الثَّابتِ في «الصَّحيح»، ورواه الشَّافعيُّ، عن الثِّقةِ عن سُفيانَ بن سعيدٍ عن سَلَمَةَ بن كُهَيلٍ عن أبي هريرة: ((كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم سِنٌّ مِنَ الْإِبِلِ، فَجَاءَ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: أَعْطُوهُ. فَلَمْ يَجِدُوا إِلَّا سِنًّا فَوْقَ سِنِّهِ، فَقَالَ: أَعْطُوهُ، فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً)) وللبخاريِّ: ((دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا)) وسيأتي [خ¦2401].
          وفي أفراد مسلم مِنْ حديث أبي رافعٍ قال: ((استسلفَ رسول الله صلعم بَكْرًا فقَدِمَتْ عليه إبلٌ مِنْ إبلِ الصَّدقة، فأَمر أبا رافعٍ أن يقضيَ الرَّجلَ بَكْرَةً، فرجع إليه أبو رافعٍ، فقال: لم أجد فيها إلَّا خيارًا رُباعيًّا، فقال: أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً)) وفي لفظ: ((فَإِنَّ خَيْرَ عِبَادِ اللهِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً)) ولم يخرج البخاريُّ عن أبي رافعٍ في كتابه إلَّا حديثًا واحدًا في الشُّفعة. يأتي.
          قال الشَّافعيُّ: هذا الحديثُ الثَّابت عن رسول الله صلعم أنَّه _◙_ ضَمِنَ بعيرًا بالصِّفة ما دلَّ على أنَّه يجوزُ أن يضمن الحيوانَ كلَّه بصِفةٍ في السَّلف وغيره، وفيه دليلٌ أنَّه لا بأسَ أن يقضيَ أفضلَ ممَّا عليه متطوِّعًا.
          قال البَيْهَقيُّ: واحتجَّ الشَّافعيُّ بأمر الدِّية، فقال: قَدْ قَضَى رَسُولُ اللهِ صلعم بِالدِّيَةِ مئةً مِنَ الْإِبِلِ، ولم أعلم المسلمين اختلفوا بأسنانٍ معروفة في مضيِّ ثلاث سنين، وأنَّه افتدى كلَّ مَنْ لم يطبْ عنه نفسًا مِنْ سبيِ هَوازنَ بإبلٍ سمَّاها ستٍّ أو خمسٍ إلى أجلٍ.
          قال البَيْهَقيُّ: هذا فيما رواه أهلُ المَغازي، وفيما رواه عمرُو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه، قال الشَّافعيُّ: أخبرنا مالكٌ عن صالحِ بن كَيْسانَ عن الحسن بن محمَّد بن عليٍّ عن عليِّ بن أبي طالب، فذكر قصَّة العُصَيفير. وعن مالك عن نافع أنَّ ابن عمر..، فذكر أثرَه السَّالفَ أوَّل الباب.
          وأخبرَنا الثِّقة عن اللَّيث عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ: ((جَاءَ عَبْدٌ فَبَايَعَ رَسُولَ اللهِ صلعم عَلَى الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَشْعُرْ _أَوْ قَالَ_ لَمْ يَسْمَعْ بِأَنَّهُ عَبْدٌ، فَجَاءَ سَيِّدَهُ يُرِيدُهُ، / فَقَالَ ◙: بِعْهُ. فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ)) وأخبرَنا سعيدُ بن سالمٍ عن ابن جُرَيجٍ عن عبد الكريم الجَزَريِّ، أخبرَه أنَّ زياد بن أبي مريمَ مولى عثمانَ بن عفَّان أخبره ((أنَّ رسول الله صلعم بَعثَ مصدِّقًا فجاء بظَهرٍ مُسِنَّاتٍ، فلمَّا رآه قال: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ. فقال: يا رسول الله إنِّي كنتُ أبيعُ البَكْرَينِ والثَّلاثَ بالبعير المسنِّ يدًا بيد، وعلمتُ مِنْ حاجة رسول الله صلعم إلى الظَّهر فقال: فَذَاكَ إِذَنْ)).
          وفي رواية ابن عبَّاس: ((بَيْعِ الْبَعِيرِ بِالْبَعِيرَيْنِ)). ورُوِّينا عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عبَّاس ((أنَّه كان لا يرى بأسًا بالسَّلف في الحيوان)). وذكر أيضًا قولَ ابن شِهابٍ في بيع الحيوان اثنين بواحدٍ إلى أجلٍ لا بأس به. وأخبرنا مالكٌ عن ابن شِهابٍ عن سعيد بن المسيِّب أنَّه قال: ((لَا رِبَا فِي الحَيَوَانِ، وَإِنَّما نُهِيَ مِنَ الحَيَوَانِ عَنْ ثَلاثٍ: الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ)).
          قال: و((الْمَضَامِينِ)): ما في بطون الإناث، و((الْمَلَاقِيحِ)): ما في ظهور الجمال، وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ: بيعٌ لأهل الجاهليَّة.
          وأخبرنا سعيدُ بن سالم عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاء أنَّه قال: وأبيعُ البعيرَ بالبعيرين يدًا بيدٍ زيادةَ وَرِق، والوَرِقُ نَسيئة، قال الشَّافعيُّ: وبهذا كلِّه أقول، وخالفَنا بعضُ النَّاس فقال: لا يجوز أن يكون الحيوان نسيئة أبدًا، فناقضتهم بالدِّية والكتابة عن الوُصَفاءِ بصفة، وبإصداقِ العبيدِ والإبل بِصِفَةٍ، قال: فإنَّما كرهنا السَّلم في الحيوان، لأنَّ ابن مسعود كرهه، قال الشَّافعيُّ: هو منقطع عنه. قال أحمد: يرويه عنه إبراهيمُ النَّخَعيُّ، قلتُ: رواه ابنُ أبي شَيبةَ عن وَكيعٍ، حدَّثنا سفيانُ عن قيس بن مسلمٍ، عن طارق بن شِهابٍ أنَّ زيد بن ثابت أسلم إلى عِتْرِيسِ بن عُرْقوبٍ في قلائصَ، قال: فسألتُ ابنَ مسعود فكَرِهَ السَّلم في الحيوان.
          قال الشَّافعيُّ: ويزعم الشَّعبيُّ الَّذي هو أكبرُ مِنَ الَّذي روى عنه كراهيتَه أنَّه إنَّما أسلفَ له في لقاح فحل إبل بعينه، وهذا مكروهٌ عندنا وعند كلِّ أحدٍ، هذا بيعُ الملاقيح أو المضامين أو هما، وقلت لمحمَّد بن الحسن: أنت أخبرتَني عن أبي يوسُف عن عَطاءِ بن السَّائب عن أبي البحتري: أنَّ بني عمٍّ لعثمان بن عفَّان أتَوا واديًا فصنعوا شيئًا في إبلِ رجلٍ، قطعوا به لبنَ إبله، وقتلوا فِصالَها، فأتى عثمانَ وعنده ابنُ مسعودٍ فرضيَ بحكم ابن مسعود، فحكم أن يُعطيَ بواديه إبلًا مثلَ إبله، وفصالًا مثل فصاله، فأنفذ ذلك عثمانُ.
          وَيُرْوُى عن ابن مسعود أنَّه قضى في حيوانٍ مثلَه دينًا، لأنَّه إذا قضى به بالمدينة ويعطيه بواديه كان دينًا، ونريد أن يروي عن عثمان أنَّه يقول بقوله، وأنتم تروُون عن المسعوديِّ عن القاسم بن عبد الرَّحمن قال: أُسْلِم لابن مسعودٍ وُصَفاءُ أحدُهم أبو زِيادةَ أو أبو زائدة مولانا. وتروُون عن ابن عبَّاس أنَّه أجاز السَّلم في الحيوان، وعن رجلٍ آخرَ مِن الصَّحابة.
          قال البَيْهَقيُّ: روى أبو حسَّان الأعرجُ قال: سألتُ ابنَ عمر وابن عبَّاس عن السَّلم في الحيوان، فقالا: إذا سمَّى الأسنانَ والآجالَ فلا بأسَ. وقال أبو نَضْرَةَ: سألتُ ابنَ عمر عن السَّلف في الوُصَفاءِ فقال: لا بأس به. قلت: أخرجه ابن أبي شَيبةَ حدَّثنا سهلُ بن يوسفَ عن حُميدٍ عن أبي نَضْرَةَ قال: قلتُ لابن عمر: إنَّ أمراءنا ينهَوننا عنه _يعني السَّلم_ في الحيوان وفي الوُصَفاءِ. قال: فأطِعْ أمراءَك إن كانوا ينهون عنه. وأمراؤهم يومئذٍ مثلُ الحَكَم بن عمرٍو الغِفاريِّ، وعبدِ الرَّحمن بنِ سَمُرَةَ، قال: وَرُوِيَ عن عمر أنَّه كرهه، وكذلك عن حُذيفةَ، والحديثُ عنهما منقطعٌ، وعن ابن عبَّاس وابن عمر موصولٌ بقولنا: قال الشَّافعيُّ في القديم: وقد يكون ابن مسعود كرهه تنزُّهًا عن التِّجارة فيه، لا على تحريمه.