التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها

          ░85▒ بَابُ: بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهَا.
          2193- (وَقَالَ اللَّيْثُ _يعني ابنَ سعد_ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَير، يُحَدِّثُ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الأَنْصَارِيِّ، مِنْ بَنِي حَارِثَةَ: أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم يَبْتَاعُونَ الثِّمَارَ، فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ، قَالَ المُبْتَاعُ: إِنَّهُ أَصَابَ الثِّمَارَ الدُّمَانُ، أَصَابَهُ مُرَاضٌ، أَصَابَهُ قُشَامٌ، عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا، فَقَالَ صلعم: فَإِمَّا لاَ، فَلاَ تَتَبَايَعُوا حتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُ الثَّمَرِ).
          2194- وحديث ابن عمر: (عَنِ النَّبيِّ صلعم: نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، نَهَى البَائِعَ وَالمُبْتَاعَ).
          2195- وحديث أنس: (نَهَى النَّبيُّ صلعم أَنْ يُبَاعَ النَّخْلُ حتَّى يَزْهُو. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: يَعْنِي حَتَّى تَحْمَرَّ).
          2196- وعن جابر: (نَهَى النَّبيُّ صلعم أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حتَّى تُشَقِّحَ. فَقِيلَ: وَمَا تُشَقِّحُ؟ قَالَ: حَتَّى تَحْمَارَّ وَتَصْفَارَّ وَيُؤْكَلَ مِنْها).
          الشَّرح: تعليق اللَّيث مِنْ أفراده، وأخرجه أبو داود إلَّا ما في آخره عن أحمد بن صالح، عن عَنبسة بن خالد، عن يونس بن يزيد، عن أبي الزِّناد، وأخرجه البَيْهَقيُّ مِنْ طريق الحاكم وغيره عن الأصمِّ أخبرنا ابنُ عبد الحَكم، حدَّثنا أبو زُرْعةَ وَهْب بن عبد الله بن راشد عن يونس قال: قال أبو الزِّناد: كان عُروة يحدِّث.. فذكره.
          ورُوِّيناه مِنْ حديث عُيَينةَ بن سعيد، عن زكريَّا بن خالد عن أبي الزِّناد، عن عروة بن الزُّبَير عن سهل بن أبي حَثْمةَ عن زيد بن ثابت قال: كانوا يتبايعون الثِّمار قبل أن تطلع، ثمَّ يختصمون إلى رسول الله صلعم فتكثر خصومتهم، فقال صلعم: ((أمَّا إِذْ فَعَلْتُمْ هَذَا فَلَا تَبايَعوه حتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ)).
          وحديث ابن عمر أخرجه مسلم، وزاد البخاريُّ في موضع آخر: ((وَعَنْ بَيْعِ الوَرِقِ نَسَاءً بِنَاجِزٍ))، وهذه الزِّيادة موقوفة عنده على ابن عمر، قال عبد الحقِّ: وهو الصَّحيح، قال: وقد رُوِّيتها مسنده في رواية عن رسول الله صلعم.
          وحديثُ أنس أخرجه مسلم أيضًا، وكذا حديثُ جابر أيضًا، وفي الباب عن ابن عبَّاس أخرجاه، وأبي هريرة انفرد به مسلم، وأنس: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حتَّى يَشْتَدَّ، وَبَيْعِ الْعِنَبِ حتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ التَّمْرِ حتَّى يَحْمَرَّ وَيَصْفَرَّ)) على شرط مسلم، كما قال الحاكم.
          إذا تقرَّر ذلك فقوله: (إِذَا جَدَّ النَّاسُ) أي: قطعوا ثمرَ نخلهم، ومِنْه الجداد _بفتح الجيم وكسرها_ المبالغة في الأمر.
          وقوله: (جَدَّ) كذا في الرِّواية. وقال ابنُ التِّين: أكثر الرِّوايات: ((أَجَدَّ)) أي: دخلوا زمنَه، كأظلم: دخل في الظلام. وَ(الدُّمَانُ) بضمِّ الدَّال وتخفيف الميم، وهو أن تنشقَّ النَّخلة أوَّل ما يبدو قلبُها عن عَفَنٍ وسواد. وحكى صاحب «المطالع» فيه الفتح والكسر أيضًا، وبالفتح ذكره أبو عُبيد، ومعناه: فساد الطَّلع وتعفينه.
          وعند أبي داود مِنْ طريق ابن داسَةَ: ((الدُّمَارُ)) بالرَّاء. وكأنَّه ذهب إلى الفساد المُهْلِك لجميعه المُذْهِب له، وقال القاضي: إنَّه تصحيف، وقال الخطَّابيُّ: لا معنى له، قال: وقال الأصمعيُّ: الدُّمال _باللَّام في آخره_ المتعفِّن. وحكى أبو عُبيد عن أبي الزِّناد: الأَدَمان بفتح الهمزة والدَّال، والصَّحيح الدُّمَانُ، وقال أبو حنيفة: هو الَّذي قد عَتُقَ جدًّا وفَسَدَ، وأصلُه السَّماد. وزعم بعضُهم أنَّه فساد التَّمر وعفنُه قبل إدراكه حتَّى يسودَّ مِنَ الدِّمن وهو: السِّرْقِينُ، والضَّمُّ ما في «غريب الخطَّابيِّ» وهو القياس، لأنَّ ما كان مِنَ الأدواء والعاهات فبالضَّمِّ كالسُّعال والزُّكام والصُّداع والمُراض. قال ابنُ التِّين: وهو اسم لجميع الأدواء على وزن فُعال غالبًا، وَضُبِطَ في أكثر الأمَّهات بالكسر، وقال في «المحكَم»: الدَّمْن والدُّمَان: عفنُ النَّخل وسوادُها وقيل: هو أن تُنْسِغَ النَّخلة عن عفنٍ وسَواد، وقال القَّزاز: هو فساد النَّخل قبل إدراكه، وإنَّما يكون ذلك في الطَّلع يخرُج قلبُ النَّخلة أسودَ معفونًا.
          والمراض _بضمِّ الميم وَحُكِيَ كسرُها_: داء يصيب النَّخل، قال الخطَّابيُّ: هو اسم لجميع الأمراض على وزن فُعال غالبًا، وَضُبِطَ في «الأمَّهات» بكسر الميم.
          والقُشَام _بضمِّ القاف عن الأصمعيِّ وغيره_ انتفاضُ ثمر النَّخل قبل أن يصير بلحًا، فإذا كثُر نفضُ النَّخلة وعظُم ما بقي مِنْ بُسرها قيل: خَرْدَلَت، وقيل: هو أُكالٌ يقع في التَّمر، وهو القَشْمُ وهو الأكل، حكاه ابن بَطَّال وابنُ التِّين. وذكر الطَّحاويُّ في حديث عُروة عن سهلٍ عن زيد: والقُشامُ شيءٌ يصيبُه حتَّى لا يُرْطِبَ.
          وقوله: (فَإِمَّا لاَ، فَلاَ تَتَبَايَعُوا) قال سِيبَوَيْهِ: كأنَّه يقول: افعلْ هذا إن كنتَ لا تفعلُ غيرَه. وإنَّما هي لا أُميلت في هذا الموضع، لأنَّها جُعلت مع ما قبلَها كالشَّيء الواحد، فصارت كأنَّها ألفٌ رابعة فأُميلت لذلك، وعلى الإمالة كُتبت بالياء. وذكر الجَوَالِيقيُّ: أنَّ العوامَّ يفتحون الألف واللَّام ويسكِّنون الياء والصَّوابُ كسرُ الألف وبعدها لا، وأصلُه إلَّا يكون ذلك الأمرُ فافعلْ هذا، وما زائدة، وقال ابن الأنباريِّ: دخلت ما صلةً كقوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} [مريم:26] فاكتفي بلا من الفعل. كما تقول العرب: مَنْ سلَّم عليك فسلَّم عليه ومَنْ لا، أي: فلا، فاكتفي بلا مِنَ الفعل، وأجاز الفرَّاء مَنْ أكرمني أكرمتُه، ومَنْ لا. أي: لم أكرمه. قال ابن الأثير: أصلها إنْ ما أُدغمت النُّون في الميم، وما زائدة لفظًا لا حكم لها، وقد أمالت العرب لا إمالةً خفيفة، والعوامُّ يُشبعون إمالتها، وتصير ألفُها ياءً وهو خطأ، ومعناها: إن لم تفعل هذا فليكن هذا.
          وقوله: (كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا) قال الهَجَريُّ في «نوادره»: شوار بفتح الشِّين، المَشورة _بإسكان الواو_ فَعُولة، وعند ابنُ سِيدَهْ: هي مَفْعُلة ولا تكون مفعولة، لأنَّها مصدر، والمصادر لا تجيء على مثال مفعولة وإن جاءت على مثال مفعول، وكذلك المشورة.
          وقال الفرَّاء فيما حكاه في «الجامع»: / مَشْوَرة: قليلة، وبدأ بها صاحب «المنتهى» والجوهريُّ قبل الضَّمِّ، وزعم صاحب «التَّثقيف» والحريريُّ وغيرهما أنَّ إسكان الشِّين وفتحَ الواو ممَّا تلحن فيه العامَّة، وليس بجيِّد، وهي مشتقَّة مِنْ شُرْتُ العسلَ إذا جنيتَه، فكأنَّ المستشير يجتني الرَّأي مِنَ المشير، وقيل: بل أُخذ مِنْ قولك: شُرْتُ الدَّابَّة إذا أجريتَها مقبلةً ومدبرة، لتَسْبُرَ جريَها وتَخبرَ جوهرَها، فكأنَّ المستشير يستخرج الرَّأي الَّذي عند المشير، وكِلا الاشتقاقين متقارب، والمراد بهذه المشورة ألَّا يشتروا شيئًا حتَّى يتكاملَ صلاحُه، لئلَّا تجريَ منازعةٌ. قال الدَّاوُديُّ: هذا تأويلٌ مِنْ بعض نَقَلَة الحديث، وإن يكن محفوظًا فقد يكون ذلك أوَّل الأمر، ثمَّ عزم بعدُ كما في حديث ابن عمر مبيِّنًا النَّهي، وكذا حديثُ أنس وغيرهما.
          وقوله: (وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا، فَيَتَبَيَّنَ الأَصْفَرُ مِنَ الأَحْمَرِ)، يريد مع طلوع الفجر تكون طالعةً مِنَ المشرق، وهو استقبالُ الصَّيف ووقتُ خروج السُّعاة، ومِنْه قولهم: إذا طلعتِ الثُّريَّا فهيِّئ للرَّاعي كُسَيًّا، وعن مالك أنَّه لم يأخذ بقول زيد هذا، وذكر أنَّ الحُكم عنده: ألَّا تباع ثمارٌ حتَّى تزهو، ولعلَّ زيدًا أيضًا لم يكن تطلع الثُّريَّا إلَّا وثمارُه قد زَهَتْ، فلذلك كان يبيعُها.
          قلت: ولعلَّ زيدًا أخذَ بحديث: ((حَتَّى تَذْهَبَ الْعَاهَةُ، قِيلَ: مَتَى ذَلِكَ؟ قَالَ: طُلُوعُ الثُّرَيَّا)) ذكره الطَّحاويُّ مِنْ حديث ابن عمر، لأنَّ الثُّريَّا إذا طلَعت آخرَ اللَّيل بدأ صلاحُ الثِّمار بالحجاز خاصَّة، لأنَّه أشدُّ حرًّا من غيره.
          وقوله: (تزْهُوَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: تَحْمَرَّ) هو كما قال، قال ابن فارس: الزَّهو: احمرارُ الثَّمر واصفراره، وحكى بعضُهم: زَهَا وأَزْهَى، وقال الأصمعيُّ: ليس إلَّا زها، وقال القزَّاز: يُقال زَها البُسْرُ يَزْهُو زَهْوًا إذا احمرَّ أو اصفرَّ، ويُقال: زَهَا النَّخلُ وأَزْهَى إذا صار بُسْرُه كذلك، وقال ابن الأعرابيِّ: زَهَا النَّخْلُ يَزْهُو إذا ظهرتْ ثمرتُه، وأَزْهَى إذا احمرَّ أو اصفرَّ، وقال غيره: يَزْهُو خطأٌ في النَّخل، وإنَّما يُقال: يُزْهِي، وقد حكاهما أبو زيد الأنصاريُّ. وفي «المحكَم»: الزَُّهو _يعني بفتح الزَّاي وضمِّها_ البُسْرُ إذا ظهرت فيه الحُمْرة، وقيل: إذا لوِّن، واحدته زَهْوَة، وأَزْهَى النَّخل، وزَهَا تلوَّن بحُمرة أو صُفرة. وقال الخطَّابيُّ: الصَّواب في العربيَّة تُزْهي.
          والشَّقَح: تغيُّر لونها إلى الحمرة والصُّفرة قاله القزَّاز.
          وأراد بقوله: (تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ) ظهورَ أوائلهما، وإنَّما يُقال: تَفْعالُّ في اللَّون غير المتمكِّن إذا كان يتلوَّن مرَّة ومرَّة ألوانًا، وأنكرَه بعضُ أهل اللُّغة، وقال: لا فرق بين تَحْمَرُّ وتَحْمَارُّ.
          ومعنى (يَبْدُوَ) يظهر، وهو بلا همز، ووقع في كتب بعض المحدِّثين بألفٍ بعد الواو وهو خطأ، والصَّواب حذفها في مثل هذا للنَّاصب، وإنَّما اختلفوا في إثباتها إذا لم يكن ناصبٌ، مثل: زيدٌ يبدُو. والاختيار حذفُها أيضًا، ووقع في مثل: حتَّى تزهوَا، وصوابه حذفُ الألف مِنْه.
          أمَّا حكمُ الباب فإنْ باع الثَّمرة بعد بدوِّ صلاحِها جاز بشرط القطع، وبشرط الإبقاء وِفاقًا لمالكٍ وخلافًا لأبي حنيفة، حيث قال: يجب بشرط القطع، والإطلاقُ يقتضي الإبقاء، وإن باعها قبل بدوِّ الصَّلاح منفردةً عن الشَّجر فلا يجوز إلَّا بشرط القَطْع، فإنْ شَرَطَ الإبقاءَ فلا خلافَ في فساده، ذكره جماعةٌ وحكى بعضُهم عن يزيدَ بن أبي حَبيب جوازَه، والأخبار تردُّه، وإنْ أطلقَ فلا يجوز خلافًا لأبي حنيفة. لنا أن النَّهي عامٌّ.
          قال الطَّحاويُّ: ذهب قومٌ إلى هذه الآثار فقالوا: لا يجوز بيعُ الثَّمرة في رؤوس النَّخل حتَّى تحمرَّ أو تصفرَّ، وعزاه غيرُه إلى اللَّيث ومالكٍ والثَّوريِّ والأوزاعيِّ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإسحاق. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنَّه يجوز بيعُها إذا ظهرت وإن لم يبدُ صلاحُها. احتجُّوا بقوله في الحديث الآتي: ((مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطهَا المُبْتَاعُ)) فأباح بيعَ ثمره في رؤوس النَّخل قبل بدوِّ صلاحها.
          وقالوا: لما لم يدخل ما بعد الإبار في الصَّفقة إلَّا بالشَّرط جاز بيعُها منفردةً، فدلَّ أنَّ نهيَه عن بيعها حتَّى يبدوَ صلاحها، المراد به غيرُ هذا المعنى، وهو النَّهي عن السَّلَم في الثِّمار في غير حينها وقبل أن تكون، فيكون بائعها بائعًا لما ليس عنده، وقد نهى عن ذلك في نهيه عن السِّنين كما رُوِيَ مِنْ حديث جابرٍ والحسن عن سَمُرَةَ، وفسَّره سفيان ببيع الثِّمار قبل بدوِّ الصَّلاح، وأمَّا بيعُها بعدما ظهرت في أشجارها فجائزٌ، فيُقال له: قد يدخل في عقد البيع أشياءُ لو أُفردت بالبيع لم يجزْ بيعُها مفردةً، ويجوز في البيع تَبَعًا لغيرها، مِنْ ذلك أنَّه يجوز بيع الأَمَة والنَّاقة حاملتين، ولا يجوزُ عند أحدٍ مِنَ الأُمَّة بيعُ الحمل وحدَه، لنهيه _◙_ عن بيع حَبَل الحَبَلَةِ.
          وإنَّما لم يجز إفرادُه بالبيع، لأنَّه غَرَرٌ، ونظيره بيعُ الثَّمرة قبل بدوِّ صلاحها، مع أنَّ حديث جابرٍ وأنسٍ في النَّهي عن بيع الثِّمار حتَّى يبدوَ صلاحُها يغْنيان عن حجَّة سِواهما، لأنَّه قد فُسِّر فيهما أنَّ المراد ببدوِّ صلاحها أن تحمرَّ أو تصفرَّ، وذلك علامةُ صلاحِها للأكل، ألا ترى قولَه في حديث جابرٍ بعد ذكرِهما: (وَيُؤْكَلُ مِنْها)، فلا تأويلَ لأحد مع تفسير الشَّارع فهو المقنِع.
          وقال بعض الكوفيِّين: النَّهيُ عنه للتَّنزيه فقط والمشُورةِ عليهم لكثرة ما كانوا يختصمون إليه فيه، واحتجُّوا بحديث زيد بن ثابتٍ، وأئمَّةُ الفتوى على خلافِ قولهم، والنَّهي عندهم محمولٌ على التَّحريم، وكان محمَّد بن الحسن يذهبُ إلى أنَّ النَّهي الَّذي ذكرناه هو بيعُ الثَّمرة على أن تُترك في رؤوس النَّخل حتَّى تتناهى وتُجَدَّ، وقد وقع البيعُ عليه قبل التَّناهي، فيكون المشتري قد باع ثمرًا ظاهرًا. وأمَّا تَنَمِّيه على نخل البائع بعد ذلك إلى أن يُجَدَّ فذلك باطل، فأمَّا إذا وقع البيعُ بعد ما تناهى عُظْمُه وانقطعت زيادتُه فلا بأس بابتياعه واشتراطِ تركه إلى أن يُحْصَد ويُجَدَّ، وإنَّما وقع النَّهي عن ذلك لاشتراط التَّرك لمكان الزِّيادة.
          قال: وفي ذلك دليلٌ على أن لَّا بأسَ بذلك الاشتراطِ في ابتياعِه بعد عدم الزِّيادة. قال الطَّحاويُّ: / وتأويل أبي حنيفة وأبي يوسف في هذا أحسنُ عندنا، والنَّظر يشهد له.
          وتخصيصُه _◙_ البائعَ والمبتاعَ بالذِّكر يدلُّ على تأكيد النَّهي في ذلك، لأنَّ النَّهي إذا ورد عن الله ورسولِه فحقيقتُه الزَّجرُ عمَّا ورد فيه، قال تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. ومعنى النَّهي عن ذلك عند عامَّة العلماء خوفُ الغَرَرِ، لكثرة الجوائح فيها، وقد بيَّن ذلك بقوله: ((أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ...)) إلى آخره كما سيأتي، فنهى عن أكل المال بالباطل، فإذا بدا صلاحُها واحمرَّت أُمنت العاهة عليها في الأغلب وكثر الانتفاع بها، لأكلهم إيَّاها رُطَبًا فلم يكن قصدُهم بشرائها الغَرَرَ، وأمَّا فعلُ زيد بن ثابت في مراعاته طلوعَ الثُّريَّا فقد رُوِيَ عن عطاءٍ عن أبي هريرة عن رسول الله صلعم قال: ((إِذَا طَلَعَ النَّجْمُ صَبَاحًا رُفِعَت العَاهَةُ عَنْ أَهْلِ البَلَدِ)) يعني: الحجاز، والنَّجم: الثُّريَّا. وطلوعُها صباحًا لاثنتي عشرة تمضي مِنْ شهر مَايُه.
          وقال ابن القاسم عن مالك: لا بأس أن تُباع الحوائط وإن لم تُزْهِ إذا زهي ما حوله مِنَ الحيطان، وكان الزَّمان قد أُمنت العاهة فيه، ولا يجوز عندنا، واختلفوا في بيع جميع الحائط فيه أجناس التَّمر يطيب جنس واحد مِنْه، فقال مالك: لا أرى أن يُباع ذلك الصِّنف الواحد الَّذي طاب أوَّله دون غيره، وهو قول الشَّافعيِّ. وقال اللَّيث: لا بأس أن تُباع الثِّمار كلُّها متَّفقةَ الأجناسِ أو مختلفةً بطيب جنس مِنْها أو مخالفٌ لها، واحتجَّ بأنَّه _◙_ نهى عن بيع الثِّمار حتَّى يبدوَ صلاحها، فعمَّ الثِّمارَ كلَّها، فإذا بدا الصَّلاح في شيء مِنْها فقد بدا الصَّلاح في الثِّمار كلِّها، لأنَّه لم يخصَّ، وعن أحمدَ روايتان فيما إذا بدا الصَّلاح في بعض الجنس هل يجوز بيعُ ذلك الجنسِ:
          إحداهما: نعم، وثانيهما: لا، إلَّا بَيعَ ما قد بدا صلاحُه.
          فائدة: قال البخاريُّ آخرَ حديث زيد بن ثابتٍ: رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ، حدَّثنا حَكَّامٌ، حدَّثنا عَنْبَسَةُ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ سَهْلٍ. (حَكَّامٌ) هو ابن سهلٍ الرَّازيُّ، و(عَنْبَسَةُ) هو ابن سعيد بن الضَّريس. و(زكَرِيَّاءَ) هو ابن أبي زائدة. ومات عليُّ بن بحر البغداديُّ سنة 234.