التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما جاء في قول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في}

          ░1▒ بَابُ: مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللهِ تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} إلى قوله: {وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:10-11].
          وَقَوْلِهِ تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29].
          2047- ذَكر حديثَ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وسَعِيد بْن المُسَيِّب: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم وَتَقُولُونَ مَا بَالُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لاَ يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنَ المُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُم السَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ صلعم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، وَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَتِي مِنَ الأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ: إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعَ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ، إِلَّا وَعَى مَا أَقُولُ. فَبَسَطْتُ نَمِرَةً عَلَيَّ، حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلعم مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ صلعم تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ).
          وقد سلف في باب: حفظ العلم [خ¦118].
          2048- وذكرَ حديثَ (إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ _☺_: لَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللهِ صلعم بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ: إِنِّي أَكْثَرُ الأَنْصَارِ مالًا، فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي...) الحديث. (فَغَدَا إِلى سُوقِ قَيْنُقاعٍ فَأَتى بِسَمْنٍ وأَقِطٍ...) ثمَّ ساقه بكماله. وذكر بعدَه حديثَ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بنحوه.
          وحديثَ ابن عبَّاس قَالَ: (كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو المَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الإِسْلاَمُ كَأَنَّهُمْ تَأَثَّمُوا فِيهِ)، فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] فِي مَوَاسِمِ الحَجِّ قَرَأَهَا ابن عبَّاس، وقد سلف هذا في الحجِّ [خ¦1770].
          الشَّرح: لمَّا فرَغ البخاريُّ _☼_ مِنْ بيان العباداتِ المقصودِ بها التَّحصيلُ الأُخرويُّ، شَرَع في بيان المعامَلات المقصودِ بها التَّحصيلُ الدُّنيويُّ، فقدَّم العباداتِ لاهتمامها، ثم ثنَّى بالمعاملات لأنَّها ضروريَّة، وأخَّر النِّكاح لأنَّ شهوتَه متأخِّرة عن الأكل ونحوه، / وأخَّر الجناياتِ والمخاصَمات لأنَّ وقوع ذلك في الغالب إنَّما هو بعد الفراغ مِنْ شهوة الفرج والبطن، وأَغْربَ ابنُ بَطَّال فذَكر هنا الجهادَ وأخَّر البيوعَ إلى أنْ فرَغ مِنَ الأيمان والنُّذور، ولا أدري لمَ فعلَ ذلك، وقد أسلفنا أنَّه قدَّم الصَّوم على الحجِّ أيضًا، وجَمَعَ البيوعَ باعتبار أنواعِه، وغيرُه أفرده تبرُّكًا بلفظ القرآن.
          وهو في اللُّغة: مقابَلة شيءٍ بشيء ويُسمَّى شراءً أيضًا، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف:20] ويُسمَّى كلُّ واحد مِنَ المتبايعين بائعًا ومشتريًا. وسيأتي حديث: ((الْمُتَبَايِعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا)) [خ¦2110]. وقولُ إبراهيم في باب: لا يشترِ حاضرٌ لبادٍ: فيه عن العرب.
          وهو في الشَّرع: مقابلةُ مالٍ بمالٍ ونحوه، وبِعْتُه وأَبَعْتُه بمعنًى، وكذا باعَ وأَبَاعَ، قيل: سُمِّيَ بيعًا لأنَّ البائع يمدُّ باعَهُ إلى المشتري حالةَ العقد غالبًا، وغلط قائلُه لأنَّ المصادرَ غيرُ مشتقَّة، ولأنَّ البيع مِنْ ذوات الياء، والباعَ مِنْ ذوات الواو.
          ثم استفتحه بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] ولم يذكرِ الواوَ فيما رأيناه مِنْ أصوله، وأصحُّ أقوال الشَّافعيِّ أَنَّها عامَّةٌ مخصوصةٌ، وهو بناء على أنَّ المفرد المعرَّف بـ «ال» يعُمُّ، وهو ما عليه الأكثرون.
          وبقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة:282] أي متَّجَرٌ فيه حاضر مِنَ العُروض وغيرِها مما يُتقابَض، وهو معنى {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} وذلك أنَّ ما يُخاف مِنَ الفساد والتَّأجيل يُؤْمَن في البيع يدًا بيد، وذلك قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [البقرة:282].
          والآية الثَّالثة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} [الجمعة:10] إلى آخر السُّورة، هي مدنيَّة بإجماع.
          وقوله: {فَانْتَشِرُوا} [الجمعة:10] جماعةُ أهل العلم على أنَّه إباحةٌ بعد حَظْر، وقيل: هو أمرٌ على بابه، وقال الدَّاوُديُّ: هو على الإباحة لِمَنْ له كَفافٌ أو لا يُطيق التَّكسُّب، وفرضٌ على مَنْ لا شيءَ له ويُطيق التَّكسُّب، وقال غيره: مَنْ يُعطف عليه بسؤالٍ أو غيره ليس طلبُ الكفافِ عليه بفريضةٍ.
          {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} [الجمعة:10] أي اطلبوا، وفي الحديث: ((لَيْسَ بِطَلَبِ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ مِنْ عِيَادَةٍ وَحُضُورِ جِنَازَةٍ وَزِيَارَةِ أخٍ فِي اللهِ)) أو البيعِ والشِّراء، أو العملِ يوم السَّبت.
          {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا} [الجمعة:10] أي على كلِّ حال، ولعلَّ: مِنَ الله واجبٌ. والفلاح: الفوز والبقاء. واللَّهو: الطَّبل. هو دِحْيةُ الكَلْبيُّ وافى بتجارته، وقيل: كانوا في مَجاعةٍ وكان الطَّعامُ إذا جاؤوا به ضُرِب الطَّبلُ، وقيل: الغناء. وقيل: اللَّعب.
          {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11] في الكلام حذفٌ: إن كان لهوًا انفضُّوا إليه، أو تجارةً إليها، كقوله
نحنُ بما عِندنا وأنتَ بما                     عِنْدَك راضٍ، والرَّأيُ مختلِفُ
          وأعاد الضَّميرَ على التِّجارة لأنَّها المقصودُ لا اللَّهوَ.
          {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] أي في خُطبتك ومعه اثنا عشر رجلًا مِنْهم أبو بكر وعمر، أو ثمانية، قال الحسن: قال رسول الله صلعم: ((لَوْ تَبِعَ آخِرُهُم أَوَّلَهُم اضْطَرَمَ الوادي نَارًا عَلَيْهِم)).
          {قُلْ مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ} [الجمعة:11] أي ما عندَه مِنَ الثَّواب والأجر خيرٌ مِنْ ذلك لِمَنْ جلس واستمع الخُطبة {وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] فارغبوا إليه في سَعتها.
          واستفتحه أيضًا بقوله تعالى: {إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} [النساء:29] أي فليست مِنَ الباطل لأنَّه بحقٍّ، والباطلُ بغير حقٍّ، وكذا ما كان مِنْ هِبةٍ أو صدقةٍ ونحوهما، وهذا استثناءٌ منقطعٌ بالإجماع، أي: لكنَّ لكم أَكْلَها تجارةً عن تراضٍ مِنْكم، وخصَّ الأكل بالنَّهي تنبيهًا على غيره، لكونه معظمَ المقصود مِنَ المال، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ} [النساء:10] و{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} [البقرة:275]. وقام الإجماع على أنَّ التَّصرُّف في المال بالحرامِ باطلٌ حرامٌ، سواءٌ كان أكلًا أو بيعًا أو هبةً أو غيرَ ذلك.
          والباطل: اسم جامعٌ لكلِّ ما لا يحلُّ في الشَّرع كالزِّنا والغَصب والسَّرقة والجناية، وكلِّ محرَّم وردَ الشَّرعُ به.
          وفي {تِجَارَةً} قراءتان: الرَّفعُ على أنَّ {تَكُوْنَ} تامَّةً، والنَّصب على تقدير: إلَّا أن يكون المأكولُ تجارةً، أو إلَّا أن تكون الأموالُ أموالَ تجارةٍ، فحُذف المضاف، قال الواحديُّ: الأجودُ الرَّفع لأنه أدلُّ على انقطاع الاستثناء ولأنَّه لا يحتاج إلى إضمار، و{عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء:29] بِرضَى كلِّ واحدٍ مِنْهما بما في يده، قال أكثر المفسِّرين: هو أن يجيزَ كلُّ واحد مِنَ البائعين صاحبَه بعد عقد البيع عن تراضٍ، والخِيار بعد الصَّفقة.
          ثم الآيات الَّتي ذكرها الإمام البخاريُّ ظاهرة في إباحة التِّجارة، إلَّا قولَه: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} [الجمعة:11] فإنَّها عَتَبٌ عليها، وهي أدخَلُ في النَّهي مِنْها في الإباحة لها، لكنَّ مفهوم النَّهي عن تركه قائمًا اهتمامًا أنَّها تشعر أنَّها لو خلت مِنَ المُعارض الرَّاجح لم تدخل في العَتَب، بل كانت حينئذٍ مباحةً، وفي «صحيح الحاكم» مِنْ حديث عمرِو بن تَغْلِبَ مرفوعًا: ((إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَتَفْشُوَ التِّجَارَةُ)) ثم قال: صحيحٌ على شرط الشَّيخين، وفيه على شرطهما مِنْ حديث ابن مسعودٍ مرفوعًا: ((إِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ)) وكأنَّ النَّهي محمولٌ على أن يجعلها دَيْدَنه فيشتغلَ بها عن المُهمَّات.
          إذا تقرَّر ذلك كلُّه فقد أباح الله _تعالى_ التِّجارة في كتابه وأمر بالابتغاء مِنْ فضله، وكان أفاضلُ الصَّحابة يتَّجرون ويحترفون طلبَ المَعاش، وقد نهى العلماء والحكماء عن أن يكون الرَّجلُ لا حرفةَ له ولا صناعة؛ خشيةَ أن يحتاج إلى النَّاس فيَذلَّ لهم، وقد رُوِيَ عن لُقمانَ أنَّه قال لابنه: يا بُنيَّ خذ مِن الدُّنيا بلاغَك، وأنفقْ مِنْ كسبك لآخرتك، ولا ترفضِ الدُّنيا كلَّ الرَّفض فتكونَ عيالًا، وعلى أعناق الرِّجال كلالًا.
          وَرُوِيَ عن حمَّاد بن زيد أنَّه قال: كنتُ عند الأوزاعيِّ فحدَّثه شيخٌ كان عنده أنَّ عيسى صلعم قال: إنَّ الله يحبُّ العبدَ يتعلَّم المَهْنة يستغني بها عن النَّاس، وإنَّ الله _تعالى_ يبغضُ العبدَ يتعلَّم العلمَ يتَّخذه مَهْنة.
          وقال أبو قِلابةَ لأيُّوبَ السَّخْتِيانيِّ: يا أيُّوبُ الزَمِ السُّوق فإنَّ الغنى مِنَ العافية، وقد أسلفنا قريبًا ما يخالف ذلك وتأويلَه.
          إذا علمتَ ذلك فالحديثُ الأوَّل فيه (ابْنُ المُسَيَّـِبِ) بفتح الياء وكسرها، قال عليُّ بن المَدينيِّ: أهل المدينة على الثَّاني، وأهل الكوفة على الأوَّل. و(يَشْغَلُهُمْ) بفتح الياء. و(السَّفْقُ) بالسِّين، كذا وقع في بعض روايات أبي الحسن، وفي بعضها / وروايةِ أبي ذرٍّ بالصَّاد، قال الخليل: كلُّ صادٍ قبل القاف، وكلُّ سين تجيء بعد القاف فللعرب فيها لغتان: سين وصاد، لا يبالون اتَّصلت أو انفصلت بعد أن يكونا في كلمة، إلَّا أنَّ الصَّاد في بعضٍ أحسنُ، والسِّينَ في بعضٍ أحسنُ، وموضع التَّبويب قوله: (سَفْقٌ بِالأَسْوَاقِ)، وأراد بالصَّفق: صفقَ الأكفِّ عند البيع، كانوا إذا تبايعوا تصافقوا بالأكفِّ علامةً على انبرام البيع، وذلك لأنَّ الأملاك إنَّما تضاف إلى الأيدي والقبض بها يقع، فإذا تصافقتِ الأكفُّ استقرَّت كلُّ يدٍ مِنْها على ما اشترت.
          وقوله: (وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا) فيه ذكرُ ما كانوا عليه مِنَ المَسكنة على غير الشَّكوى. وفيه ذكرٌ للزومه رسولَ الله صلعم.
          وقوله: (وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَتِي مِنَ الأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ) قال الدَّاوُديُّ: إنَّما أصلحوها للنَّهي عن إضاعة المال، وشَغَلَ ثلاثيٌّ، قال ابن فارس: لا يكادون يقولون: أَشْغَلَ وهو جائز.
          وقوله: (أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ) أي أحفظُ.
          وقوله: (فَبَسَطْتُ نَمِرَةً عَلَيَّ) قال ثعلبٌ: النَّمِرة ثوبٌ مخطَّط تلبَسه العجوز، وقال ابن فارس: هي كساء ملوَّن. وقال القُتَبيُّ: هي بُردة تلبَسها الإماء، وجمعُها نَمِراتٌ ونِمَارٌ.
          قال الهَرَويُّ: هو إزار مِنْ صوف، وقال القزَّاز: هي دِراعة تُلبس أو تُجعل على الرَّأس، فيها سوادٌ وبياض. وجزم ابنُ بَطَّال بأنَّه ثوبٌ مخمَلٌ مِنْ وبرٍ أو صوفٍ.
          وقوله: (فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ النَّبيِّ صلعم تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ) يريد ما بعد ذلك.
          وفيه جوازُ نسيانه لما قبله.
          وفي الحديث الثَّاني مؤاخاة النَّبيِّ صلعم بين أصحابه.
          وفيه مواساةُ النَّبيِّ صلعم الأنصارَ، وقد مدَحهم الله _تعالى_ في كتابه فقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] وكان هذا القولُ قبل أن يسأل رسول الله صلعم الأنصارَ أن يكْفوا المهاجرين العملَ، ويُعطوهم نصفَ الثَّمرة.
          وفيه تعفُّف عبد الرَّحمن عن أخذ ما يجوز، وكان مُجيدًا في التِّجارة، قيل: كان يشتري الجِمالَ فيبيعُها ويربح أرسانَها، ومات عن مالٍ جَسيم.
          و(قَيْنَُِقَاعٍ) مثلَّثَ النُّون أعني: بضمِّ النُّون وفتحها وكسرها، قال ابنُ التِّين: ضُبِطَ في أكثر نسخ أبي الحسن بكسر النُّون وكذا سمعتُه، وفي بعضها بضمِّها، ولم يذكر الفتح، وهو شَعْب مِنْ يهودِ المدينةِ أُضيفت إليهم السُّوق، وينصرف على إرادة الحيِّ ولا ينصرف على إرادة القبيلة، وهم أوَّل يهودٍ نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلعم وحاربوا فيما بين بدرٍ وأُحدٍ، فحاصرهم حتَّى نزلوا على حكمِه.
          و(أَثَرُ الصُّفْرَةِ) المذكورة هو (الوَضَرُ) _بالضَّاد والرَّاء_ في الرِّواية الأخرى، وهو التَّلطُّخ بخلوقٍ أو طِيبٍ له لونٌ.
          قال أبو عبد الملك: كانت الأنصار إذا دخل الزَّوج بزوجته كسَتْه ثوبًا مصبوغًا بصُفرة يُعرف بأنَّه عروس، وقال الدَّاوُديُّ فيه ما يصيب العروسَ مِنْ خلوق الزَّوجة، قلتُ: وهذا هو الظَّاهر.
          وفيه سؤالُ رسول الله صلعم أصحابَه عن أحوالهم وكم مقدارُ صَداقهم.
          وقوله: (زِنَةُ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ) النَّواة: خمسةُ دراهمَ قاله لُوَيْنٌ وغيره، وقيل: إنَّه وهمٌ، قال أبو عُبيد: كان بعضُ النَّاس يقول لم يكن ثَمَّ ذهبٌ، إنما هي خمسةُ دراهم تُسمَّى نواةً كما سُمِّيت الأربعون أوقيَّة والعشرون نَشًّا. وقال الأزهريُّ: لفظ الحديث يدلُّ على أنَّه تزوَّجها على ذهب قيمتُه خمسةُ دراهم، ألا تراه قال: (نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ)، ولستُ أدري لمَ أنكره أبو عُبيد؟ وقال أبو عبد الملك: (زِنَةُ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ) مثل ثُمُنِ دينارٍ أو سُدُس دينار، وعِوَضُه خمسةُ دراهمَ مِنَ الفضَّة، وقال الخطَّابيُّ: هي زنة خمسةِ دراهمَ ذهبًا كان أو فضَّةً، وعن أحمد: زنةُ ثلاثة دراهمَ، زاد التِّرمِذيُّ عنه: وثلثٍ. وقيل: وزن نواةِ التَّمر مِنْ ذهبٍ. وقيل: ربع دينارٍ.
          وقوله: (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) أخذ بظاهره الشَّافعيُّ في أحد قوليه وأحمد وقالا: الوليمة واجبة، وبه قال داود. وقال مالك والشَّافعيُّ في أظهر قوليه: إنَّها مستحبَّة وحملاه على الاستحباب. ووقتُها بعدَ الدخول، وقيل: عند العقد. وعن ابن حَبيب الاستحباب فيهما، وظاهر الحديث بعد الدُّخول، قال أبو عبد الملك: والمعروف أنَّها عنده، ولعلَّه إذ ذاك لمَّا فاته كالقضاء. وقال ابن الجَلَّاب: الوليمة تكون عند الدُّخول، وفيه أنَّ العيش بالتِّجارة والصِّناعات أَولى بنزاهة الأخلاق مِنَ العيش بالصَّدقات والهبات.
          ثمَّ اعلم أنَّ هذا الحديثَ رواه البخاريُّ هنا عن عبد العزيز، عن إبراهيمَ بن سعدٍ عن أبيه، عن جدِّه: قال عبدُ الرَّحمن: (لَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ) وذَكره في فضائلِ الأنصار عن إسماعيلَ بن عبد الله، عن إبراهيمَ بن سعدٍ عن أبيه عن جدِّه قال: ((لَمَّا قَدِمُوا المَدِينَةَ)) وظاهرُه الإرسالُ، لأنَّه إن كان الضَّمير في جدِّه يعود إلى إبراهيمَ بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن، فيكون الجدُّ فيه إبراهيمَ بنَ عبد الرَّحمن، وإبراهيمُ لم يَشهد أمرَ المؤاخاة لأنَّه توفِّي بعد التِّسعين قطعًا عن خمس وسبعين سنةً، وقيل: إنَّه ولد في حياته، ولا تصحُّ له روايةٌ عنه، وأمرُ المؤاخاة كان حين الهجرة، وإن عاد إلى جدِّ سعد بن إبراهيم، فيكونُ على هذا سعدٌ روى عن جدِّه عبد الرَّحمن بن عوف، وهذا لا يصحُّ لأنَّ عبد الرَّحمن توفِّي سنة اثنتين وثلاثين، ومات سعدٌ سنة ستٍّ وعشرين ومئةٍ عن ثلاث وسبعين سنةً، ولكنَّ الحديث المذكور هنا متَّصل لأنَّ إبراهيم قال فيه: قال عبد الرَّحمن بن عَوف.
          يوضح ذلك روايةُ أبي نُعيم لمَّا قال عن جدِّه، عن عبد الرَّحمن بن عوف قال: (لَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ...) الحديث.
          وكذا ذكره الطَّرْقيُّ وأصحابُ الأطراف، وقد أخرجه مسلم أيضًا مِنْ حديث أنسٍ، عن ابن عوفٍ، وكذا هو في «الموطَّأ»: عن حُمَيد عن أنسٍ، أنَّ ابنَ عَوف. وقال الدَّارَقُطْنيُّ: أسنده رَوحُ بن عُبادةَ فقال: عن مالك، / عن حُميد عن أنسٍ عن ابن عَوف، وتفرَّد به.
          وأمَّا حديثُ أنسٍ فقوله في سعد: (وَكَانَ ذَا غِنًى) هو مَقصُور، أي المال، وكانوا يستكثرون مِنْه للمواساة، ونعم الغبط عليه. و(الْأَقِط) مِنَ اللَّبن معروفٌ كالجُبن.
          تنبيهاتٌ: أحدها: هذه المؤاخاة ذكرَها ابن إسحاقَ في أوَّل سنة مِنْ سني الهجرة بين المهاجرين والأنصار، ولها سببان:
          أحدهما: أنَّه أجراهم على ما كانوا ألِفوا في الجاهليَّة مِنَ الحِلف، فإنَّهم كانوا يتوارثون به، قال صلعم: ((لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ)) وأثبتَ المؤاخاةَ لأنَّ الإنسان إذا فُطم ممَّا أَلِفَه عُلِّل بجنسه.
          ثانيهما: أنَّ المهاجرين قَدِموا محتاجين إلى المال وإلى المنزل فنزلوا على الأنصار، فأكَّدوا هذه المخالطةَ بالمؤاخاة، ولم يكن بعدَ بدرٍ مؤاخاة لأنَّ الغنائمَ استُغني بها.
          والمؤاخاة مُفَاعَلَة مِنَ الأخوَّة، ومعناها أن يتعاقد الرَّجلان على التَّناصُر والمواساة حتَّى يصيرا كالأخوين نسبًا كما قال أنسٌ، وقالوا: ((إنَّ رسول الله صلعم آخى بين الصَّحابة مرَّتين: مرَّةً بمكَّةَ قبل الهجرة، والأخرى بعدها)) ذكره القُرْطُبيُّ.
          وقال ابنُ عبد البرِّ: والصَّحيح في المؤاخاة في المدينة بعد بنائه المسجد، فكانوا يتوارثون بذلك دونَ القرابات حتَّى نزلت: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} الآية [الأنفال:75] وقيل: كان قبل ذلك والمسجد يُبْنَى. وقيل: بعد قدومِه المدينة بخمسة أشهرٍ، وفي «تاريخ ابن أبي خَيْثَمة» عن زيدِ بن أبي أَوفى أنَّها كانت في المسجد، وكانوا مئةً: خمسون مِنَ الأنصار، وخمسون مِنَ المهاجرين.
          ثانيها: المرأة الَّتي تزوَّجها عبد الرَّحمن بن عوف هي ابنةُ أبي الحَيْسَر أنيس بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل. قال الزُّبَير: ولدت له القاسمَ وأبا عثمان عبدَ الله بنَ عبد الرَّحمن بنِ عوف.
          ثالثها: إن قلتَ: جاء النَّهي عن التَّزعفُر فكيف الجمع بينه وبين (أَثَرُ الصُّفْرَةِ) و(الوَضَرُ)؟ قلتُ: مِنْ أوجهٍ: أنَّه كان يسيرًا فلم ينكره. ثانيها: أنَّ ذلك عَلِقَ مِنْ ثوبها مِنْ غير قصدٍ. ثالثها: أنَّه كان في أوَّل الإسلام أنَّ مَنْ تزوَّج لبس ثوبًا مصبوغًا لسروره وزواجِه، وقيل: كانت المرأة تكسوه إيَّاه وقد سلف، وقيل: إنَّ هذا غير معروف. وقيل: إنَّه كان يفعل ذلك ليُعان على الوليمة. رابعها: قاله أبو عبيد: كانوا يرخِّصون في ذلك للشَّاب أيَّام عرسه. خامسها: أنَّه يحتمل أنَّ ذلك كان في ثوبه دون بدنه، ومذهبُ مالكٍ جوازُه، حكاه عن علماء بلده، وقال الشَّافعيُّ وأبو حنيفة: لا يجوز ذلك للرِّجال.
          رابعها: ذَكر الصُّفرةَ في الحديث لأنَّها أحسنُ الألوان كما قاله ابن عبَّاسٍ، قال تعالى: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69]. قال: فقرَنَ السُّرورَ بالصُّفرة، ولما سُئِلَ عبد الله عن الصَّبغ بها قال: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَصْبُغُ بِهَا، فَأَنَا أَصْبُغَ بِهَا)).
          خامسها: قوله: (مَهْيَمْ) هو بفتح الميم وسكون الهاء ثمَّ ياء مثنَّاة تحتُ ثمَّ ميم، وهي كلمة يمانية أي ما شأنُك؟
          سادسها: ذَكر البخاريُّ هذا الحديثَ في النِّكاح، في باب: كيف يُدعى للمتزوِّج، لقوله: (بَارَكَ اللهُ لَكَ) فيه ردٌّ على ما كانت العرب تقوله: بالرِّفاء والبنين، ولمَّا قيل ذلك لعَقيل بن أبي طالب قال: لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كما قال صلعم: ((بَارَكَ اللهُ لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ)) أخرجه النَّسائيُّ.
          وفي التِّرمِذيِّ _وقال حسن صحيح_ عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلعم كان إذا رفأ الإنسانُ _إذا تزوَّج_ قال: ((بَارَكَ اللهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ)) وعن خالدِ بن مَعْدانَ عن معاذٍ _ولم يَسمع مِنْه_ أنَّه _◙_ شَهد إملاك رجل مِنَ الأنصار، فقال: ((عَلَى الْأُلْفَةِ والْخَيْرِ وَالطَّيْرِ الْمَيْمُونِ وَالسَّعَةِ فِي الرِّزْقِ، بَارَكَ اللهُ لَكُمْ)).
          سابعها: ظاهر قوله: (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) أنَّها أقلُّ ما تتأدَّى به السُّنَّة، وفيه دِلالة على الاستكثار مِنْها ما لم يُؤَدِّ إلى الرِّياء، قاله الدَّاوُديُّ، قال القاضي: والإجماع أنَّه لا حدَّ لقَدْرها المجزِئ، وقال الخطَّابيُّ: الشَّاة للقادر عليها وإلَّا فلا حرج، قد أولم صلعم على بعض نسائه بسَويقٍ وتمر.
          فرع: كرهتْ طائفةٌ الوليمةَ أكثرَ مِنْ يومين. وعن مالكٍ أسبوعًا.
          ثامنها: (عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ) بفتح الميم و(ذُو المَجَازِ) أسواقٌ في الجاهليَّة عند عرفات.
          وقراءة ابن عبَّاس (فِي مَوَاسِمِ الحَجِّ) كالتَّفسير، إذ لم يثبت بين اللَّوحين.
          خاتمةٌ: في سرد الفوائد في حديث عبد الرَّحمن أنَّه لا بأس بالشَّريف أن يتصرَّف في السُّوق بالبيع والشِّراء، ويتعفَّف بذلك عمَّا يُبذل له في المال وغيره، والأخذُ بالشِّدَّة على نفسه في أمر معايشه، وأنَّ العيش مِنَ الصِّناعات أَولى بنزاهة الأخلاق مِنَ العيش مِنَ الهبات والصَّدقات وشِبهِها، وبركةُ التِّجارة والمؤاخاة على التَّعاون في أمر الله تعالى، وبذلُ المال لِمَنْ يؤاخي عليه.
          وفي حديثِ أبي هريرة الحرصُ على التَّعلُّم، وإيثارُ طَلبِه على طلبِ المال، وفضيلةٌ ظاهرةٌ لأبي هريرة، وأنه صلعم خصَّه ببسطِ ردائه وضمِّه، فما نسي مِنْ مقالته تلك شيئًا.
          وقوله: (مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ) كان رئيسَهم، والعربُ تقول: صَفَفْتُ البيتَ وأَصْفَفْتُه: جعلتُ له صُفَّة _وهي السَّقيفة_ أمامه، وأصحاب الصُّفَّة: الملازِمون لمسجده صلعم.