التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: كم يجوز الخيار؟

          ░42▒ بَابٌ: كَمْ يَجُوزُ الخِيَارُ؟
          2107- ذَكر فيه حديثَ يَحيَى (عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبيِّ صلعم: إِنَّ المُتَبَايِعَيْنِ بِالخِيَارِ فِي بَيْعِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَكُونُ البَيْعُ خِيَارًا) قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ.
          2108- وحديث أَبِي الخَلِيلِ _هو صالح بن أبي مريم_ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الحَارِثِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنِ النَّبيِّ صلعم قَالَ: (البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا) وَزَادَ أَحْمَدُ: حدَّثنا بَهْزٌ قَالَ: قَالَ هَمَّامٌ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي التَّيَّاحِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي الخَلِيلِ، لَمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ الحَارِثِ بِهَذَا الحَدِيثَ.
          حديثُ ابن عمر وحَكيم أخرجهما مسلم أيضًا، والثَّاني سلف. وأحمد قيل: إنَّه ابن حَنْبلٍ الإمامُ، وكذا ذكره عن أبي المعالي أحمد بن يحيى بن هبة الله بن البيِّع. و(بَهْزٌ) هو ابن أسد.
          ثم ترجم:
          ░43▒ بَابُ إِذَا لَمْ يُوَقِّتْ فِي الخِيَارِ، هَلْ يَجُوزُ البَيْعُ؟
          2109- ثمَّ ذَكر حديث أيُّوب عن نافع، عن ابن عمر: (البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ)، وَرُبَّمَا قَالَ: (أَوْ يَكُونُ بَيْعَ خِيَارٍ).
          ثم ترجم عليه:
          ░44▒ بَابٌ: البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا.
          وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ.
          2110- ثمَّ ذَكر حديثَ حَكيم بن حِزام السَّالفَ.
          2111- وحديثَ مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا: (المُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهمَا بِالخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ، إِلَّا بَيْعَ الخِيَارِ).
          ثم ترجم عليه:
          ░45▒ بَابٌ: إِذَا خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ البَيْعِ فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ.
          2112- ثمَّ ساق حديثَ لَيث، عن نَافِع، عَنِ ابنِ عُمَرَ مرفوعًا: (إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهمَا بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا...) الحديث.
          ثم ترجم عليه:
          ░46▒ بَابُ: إِذَا كَانَ البَائِعُ بِالخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ البَيْعُ؟
          2113- ثمَّ ساق حديثَ سُفيَان، عَن عَبدِ اللهِ بنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مرفوعًا: (كُلُّ بَيِّعَيْنِ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلَّا بَيْعَ الخِيَارِ).
          2114- وحديثَ حَكيم بن حِزام السَّالفَ.
          (قَالَ هَمَّامٌ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِي: يَخْتَارُ ثَلاَثَ مِرَارٍ...) الحديث.
          (وَحَدَّثنا همَّام، حدَّثنا أبو التَّيَّاح أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ الحَارِثِ، يُحَدِّثُ بِهَذَا الحَدِيثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَن رَسُولِ اللهِ صلعم).
          الشَّرح: الكلُّ في «صحيح مسلم» أيضًا. واتَّفقت الأئمَّة على إخراج حديث نافع.
          واتَّفق البخاريُّ والنَّسائيُّ على حديث ابن دينارٍ، وانفرد البخاريُّ بحديث سالم. وفي الباب عن سَمُرَةَ، أخرجه النَّسائيُّ وابن حزمٍ بزيادة: ((وَيَتَخَايَرَانِ ثَلَاثَ مِرَارٍ))، وأبي بَرْزةَ وعمرو بن العاص وأبي هريرة وجابر وغيرهم.
          وتعليقُ ابن عمر سَلف. والتَّعاليق الأربعة _أعني تعليقَ شُريح والشَّعبي وعطاء وابن أبي مُلَيكة_ أسندها ابن أبي شَيْبة، وروى أثر ابن أبي مُلَيكة مرسلًا مرفوعًا أيضًا. وَ(شُرَيْحٌ) هو ابن الحارث بن قيس، كان قاضيًا شاعرًا فائقًا كَوْسجًا بلغ مئةً وثمانيَ سنين، وقيل: مئة وعشرين سنة، ولِيَ القضاء مِنْ زمن عمر إلى زمن الحجَّاج ستِّين سنة، ثمَّ استعفى فأعفاه الحجَّاج، ووَلِيَ قضاء البصرة أيضًا، وَحُكِيَ عنه أنَّ التَّفرُّق إذا حصل بالقول وجب البيع.
          وقوله في باب: البيِّعين بالخيار: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ / حدَّثنا حَبَّانُ) ذكر الجَيَّانيُّ أنَّه ابن منصور وقال: حدَّث مسلم عن إسحاقَ بن منصورٍ عن حَبَّانَ.
          وقوله في الباب الأخير: (حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هو الفِرْيابيُّ (حدَّثنا سُفْيَانُ) هو ابن سعيد الثَّوريُّ، كما بيَّنه أبو نُعيم. واعترض ابن التِّين على هذا التَّبويب فقال: لم يأتِ فيه هنا بما يدلُّ على خيار البائع وحده. وأخذه القاضي مِنْ حديث حَبَّانَ السَّالفِ، قال: وقول همَّام... إلى آخره، ليس بمحفوظٍ والرواية على خلافه، وإذا خالف الواحد الرُّواة جميعًا لم يُقبل قولُه، سيَّما أنَّه إنَّما وجده في كتابه، وربما أُدخل على الرَّجل في كتبه إذا لم يكن شديد الضَّبط. قال: وليس في الباب الأوَّل ذكر مدَّته إلَّا ما ذكر مِنَ التَّفرُّق. وأجاب ابن المنيِّر بأنَّه يُؤخذ مِن عدم تحديده، إذ فيه تفويض الأمر إلى الحاجة في اشتراطه، وهو مذهب مالك. قلت: لعلَّه يشير إلى رواية همَّام السَّالفة، لأنَّه عقده للكمِّيَّة لا للمدَّة.
          إذا عرفت ذلك، فألفاظ الحديث مع كثرة طرقه متواردة على ثبوت خيار المجلس لكلِّ واحد مِنَ المتبايعَين وأنَّ التفرُّق المذكور إنَّما هو بالأبدان، وإليه ذهب كثير مِنَ الصَّحابة والتَّابعين والشَّافعيُّ وأحمد، وحمله طائفة على أنَّه محمول على ظاهره لكن على جهة النَّدب لا على الوجوب، وعليه طائفة مِنَ المالكيَّة وغيرهم.
          وعن مالك ورَبيعة وأبي حنيفة وصاحبيه والثَّوريِّ والنَّخَعيِّ في أحد قوليهما أنَّ التفرُّق إذا حصل بالأقوال وجب البيع، وأنْ لَا خيار إلَّا إنِ اشتُرط، ولهم على الحديث شُبَه كثيرة ذكرتها موضَّحةً في «شرح العمدة» فلتراجع مِنْه.
          ولنتكلَّم على أبواب البخاريِّ بابًا بابًا:
          أمَّا أمد الخيار فاختَلف الفقهاء فيه على خمسة أقوال:
          أحدها: أنَّ البيع جائز والشَّرط لازم إلى الأمدِ الَّذي اشتُرط إليه الخيار، وهو قول ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبي يوسف ومحمَّد وأحمد وإسحاق وأبي ثور عن ابن المنذِر.
          ثانيها: وهو قول مالك: يجوز شرطُ الخيار في بيع الثَّوب اليومَ واليومين، وفي «الواضحة»: الثلاثةَ، والجارية الخمسةَ أيَّام والجمعةَ. وفي ابن وَهْب: الرَّقيق الشَّهرَ. وقيل: عشَرة أيَّام. وقيل: خمسة. والدَّابَّة تُركب اليومَ وشِبهَه، ويُسار عليها البريدَ ونحوَه، وفي الدَّار الشَّهر لتُختبرَ ويُستشار فيها. وفي «الواضحة»: الشَّهران والثلاثة، ذكره الدَّاوُديُّ، وما بعُد مِنْ أجل الخيار لا خيرَ فيه لأنَّه غَرَر، ولا فرق بين شرط الخيار للبائع والمشتري.
          ثالثها: وهو قول الثَّوريِّ وابن شُبْرُمة: يجوز شرطه للمشتري عشَرة أيَّام وأكثر ولا يجوز شرطه للبائع.
          رابعها: وهو قول الأوزاعيِّ: يجوز أن يَشْرط الخيار شهرًا وأكثر.
          خامسها: وهو قول أبي حنيفة والشَّافعيِّ واللَّيث وزُفرَ: الخيار في البيع ثلاثةَ أيَّام، ولا تجوز الزِّيادة عليها، فإنْ زاد فسَد البيع.
          وقال عُبيد الله بن الحسن: لا يعجبني شرط الخِيار الطَّويل إلَّا أنَّ الخيار للمشتري ما رضي البائعُ، احتجُّوا بأنَّ حَبَّانَ بن مُنْقذٍ أو والده كان يُخدع في البيوع، فقال له ◙: ((إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ)) وجعل له الخيار ثلاثًا فيما يُبتاع. وفي حديث المصرَّاة إثبات الخيار ثلاثًا.
          قالوا: ولولا الحديثُ في الثَّلاثة أيَّام ما جاز الخيار ساعةً واحدة. وحجَّة القول الأوَّل ظاهر حديث الباب: (المُتَبَايِعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إِلَّا بَيْعَ الخِيَارِ) وهو مطلق، وقد قال ◙: ((الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ)).
          وحجَّة الثَّاني أنَّ العبد والجارية لا يُعرف أخلاقهما، ولا ما هما عليه مِنَ الطِّباع في الثَّلاث، لأنَّهما يتكلَّفان ما ليس مِنْ طبعهما في مدَّة يسيرة ثمَّ يعودان بعد ذلك إلى الطَّبع، فيجب أن يكون الخيار مدَّةً يُختبران في مثلها، ليكون المبتاع داخلًا على بصيرة، يوضحه أنَّ أجلَ العِنِّينِ سنةٌ لأنَّ حاله يُختبر فيها، فلذلك ينبغي أن يكون كلُّ خيار على حسبٍ يُعرَف حال المختبَر، ويقال لِمَنْ قال بالخامس: إنَّ خيار الثَّلاث في حديث حَبَّان مِنْ رواية ابن إسحاقَ عن نافع عن ابن عمر، أخرجه البخاريُّ في «تاريخه» وابن ماجَهْ في «سننه»، وليس في رواية الثِّقات الحفَّاظ.
          وأمَّا حديث المصرَّاة فهو حجَّة لنا، لأنَّ المصرَّاة لمَّا كانت لا يختبر أمرُها في أقلَّ مِنْ ثلاث، جعل فيها هذا المقدارَ الَّذي يُختبر في مثله، فوجب أن يكون الخيار في كل مبيعٍ على قدر المدَّة الَّتي يُختبر فيها، وأمَّا القول الثَّالث فلم يقل به أحد مِنْ أهل العلم غيرُ الثَّوريِّ، كما قاله الطَّحاويُّ.
          وأمَّا الباب الثَّاني فهو إذا اشترط في الخيار مدَّة غير معلومةٍ، وقد اختلف العلماء فيه على خمسةِ أقوال:
          أحدها: صحَّة البيع وإبطال الشَّرط، وهو قول ابن أبي ليلى والأوزاعيِّ عملًا بحديث بَريرةَ.
          ثانيها: صحَّتهما، وله الخيار أبدًا، وهو قول أحمدَ وإسحاق.
          ثالثها: وهو قول مالك: البيع جائز، ويُجعل له مِنَ الخيار مثلُ ما يكون له في تلك السِّلعة.
          رابعها: وهو قول أبي يوسفَ ومحمَّد: له أن يختار بعد الثَّلاث.
          خامسها: وهو قول أبي حنيفة والشَّافعيِّ: البيع فاسد فإنِ اختاره في الثَّلاث جاز، وإن مضت الثَّلاث لم يكن له أن يختاره.
          وظاهرُ الحديث يردُّه ويدلُّ أنَّه يجوز مِنْ غير توقيتٍ لأنَّه أطلق وسوَّى بين تمام البيع بعد التَّفرُّق، وبعد الأخذ بالخيار إذا شَرَطاه دون ذكر توقيت مدَّة، فلا معنى لقول مَنْ خالفه.
          وأمَّا الثَّالث وهو معنى التَّفرُّق المذكور في الحديث، وفيه قولان، أحدهما: أنَّ المراد به التَّفرُّق بالأبدان، وأنَّ المتبايعَين إذا عقدا بيعَهما فكلُّ واحد مِنْهما بالخيار بين إتمامه وفسخه، ما داما في مجلسهما لم يتفرَّقا بأبدانهما، رُوِيَ ذلك عن ابنِ عمر وأبي بَرْزةَ وجماعة مِنَ التَّابعين، ذَكرهم البخاريُّ، وَرُوِيَ عن سعيد بن المسيِّب والزُّهْريِّ، وبه قال اللَّيث وابنُ أبي ذئبٍ والثَّوريُّ والأوزاعيُّ وأبو يوسفَ والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور. ونقلَه ابن التِّين عن عليٍّ وابن عبَّاس وأبي هريرة والحسن.
          ثانيهما: أنَّ البيع يتمُّ بالقول دون الافتراق بالأبدان، ومعنى قوله: (مَا لَمْ يَفْتَرِقَا) أنَّ البائع إذا قال له: قد بعتك فله أن يرجِع ما لم يقلِ المشتري: قد قبلتُ، والمتبايِعان هما المتساومان، رُوِيَ هذا القول عن النَّخَعيِّ، وهو قول رَبيعة ومالكٍ وأبي حنيفة ومحمَّد. ونقله الطَّحاويُّ عن أبي يوسف أيضًا وعيسى بن أَبَانٍ.
          احتجَّ الأوَّلون بأنَّ ابن عمر راوي الحديث _وهو أعلم بمَخْرجه_ قد رُوِيَ عنه أنَّه بايع عثمانَ بن عفَّان، قال: فرجَعت على عَقِبي كراهة أن يُرادَّني البيعَ. قالوا: فالتَّفرُّق عند ابن عمر بالبَدن لا باللَّفظ. وقالوا: إنَّ مَنْ جعل المتبايِعين هنا المتساوِمَين لا وجه له، لأنَّه معقول أنَّ كلَّ واحد في سلعته بالخيار قبل السَّوم وما دام مساومًا حتَّى يُمضيَ البيع ويَعقدَه، وكذلك المشتري بالخِيار قبل الشِّراء وفي حين المساوَمة، / وإذا كان هذا كلُّه بَطَلت فائدة الخبر، والشَّارع يُجَلُّ عن أن يخبِر بما لا فائدة فيه، وأُجِيْبَ بأنَّ له فائدةً، وذلك أنَّ المتبايعَين لا يبعُد أن يختلفا قبل الافتراق بالأبدان، فلو كان كلُّ واحدٍ مِنْهما بالخيار لم يجب على البائع يمينٌ ولا تَرادٌّ، لأنَّ التَّرادَّ إنَّما يكون فيما تمَّ مِنَ البيوع.
          وادَّعى الطَّحاويُّ أنَّ مَنْ لم يسمِّ المتساومَين متساومَين فقد أغفل سَعة اللُّغة، لأنَّه يُحتمل أن يسمَّيا متبايعين لقربهما مِنَ التَّبايع وإن لم يَتبايعا، كما سُمِّيَ إسحاقُ ذبيحًا لقربه مِنَ الذَّبح وإن لم يُذبح، وقد قال ◙: ((لَا يَسُومُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَلَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ)) ومعناهما واحد، وهو اللَّازم لهم. والتَّفرُّق في لسان العرب بالكلام معروفٌ كعقد النِّكاح، وكوقوع الطَّلاق الَّذي سمَّاه الله فراقًا قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] وقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة:4] وأجمعت الأمَّة أنَّ التَّفريق فيها أن يقول لها: أنت طالق. وقال ◙: ((تَفْتَرِقُ أُمَّتِي)) ولم يُرِدِ التَّفرُّق بالأبدان.
          وأجمعوا أنَّ رجلًا لو اشترى قرصًا أو ماء فأكل القرص أو شرب الماء قبل التَّفرُّق لكان ذلك له جائزًا، وكان قد أكل ماله، وسيأتي ذكرُ مبايعة ابن عمرَ لعثمان، بعد بيان مذهبِ ابن عمر، وأنَّه حُجَّة لِمَنْ قال: التَّفرُّق بالكلام كذا قال، ولا يُسلَّم له. وحَكَى الطَّحاويُّ عن المُزَنيِّ عن الشَّافعيِّ أنَّه قال في قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة:234] أي: قاربن. وإثبات الشَّارع الخيارَ للمتبايعَين ما لم يفترقا، إنَّما هو على ما سِوى بيع الخيار عملًا بقوله: (إِلَّا بَيْعَ الخِيَارِ) فاستثنى بيع الخِيار فيما قد تمَّ فيه البيع، وبقي الخيار في بيع الخيار بعد التَّفرُّق حتَّى يتمَّ أمد الخيار فيختارَ البيع أو يردَّ.
          وذهب أكثر مَنْ يرى التَّفرُّق بالأبدان إلى أنَّه إذا خَيَّر أحدُهما صاحبَه بعد البيع فاختار إمضاء البيع فقد تمَّ البيع وإن لم يتفرَّقا بالأبدان، إلَّا أحمدَ فإنَّه قال: هما بالخيار حتَّى يتفرَّقا، خيَّر أحدُهما صاحبَه أو لم يُخيِّره. أمَّا الَّذين يجيزون البيع بالكلام دون افتراقِ الأبدان فهو عندهم بيعٌ جائز، قال: اخترْ أو لم يقلْه، فجعل مِنْ ذلك اتِّفاق الجميع غير أحمد وحدَه، وقولُه خلافُ الحديث، فلا معنى له كما قاله ابن بَطَّال.
          تنبيهاتٌ: أحدها: قوله: (إِنَّ المُتَبَايِعَيْنِ) كذا وقع في الأصل، وهو الصَّواب. وادَّعى ابن التِّين أنَّه وقع في رواية أبي الحسن ((الْمُتَبَايِعَانِ)) وخرَّجه على لغة مَنْ يجعل المثنَّى على حدٍّ سَواءٍ رفعًا ونصبًا وجرًّا، وهو أحد وجوه {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ} [طه:63].
          ثانيها: قال ابنُ التِّين: جمهور أصحاب مالك على أنَّ حديث الخيار ليس بمعمول به ثمَّ اختلفوا في الانفصال عنه، فادَّعى أشهبُ نَسْخه بقوله: ((الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ))، وبقوله: ((إِذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ اسْتُحْلِفَ الْبَائِعُ))، أي: لو كان هناك خيار لم يحتجْ إلى اليمين.
          وقيل: إنَّه مخالف لظاهر قوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282] لا يمكن الإشهاد بعد التَّفرُّق. وقيل: عمل أهل المدينة ومكَّة أقوى مِنْه. وقيل: إنَّها جهالةٌ وقف البيع عليها، فيكون كبيع الملامَسة، وكبيع خيار إلى أجلٍ مجهول. وسلف أنَّ من جملتها حمله على المتساومَين، ويردُّه أنَّه لو حلف ما باع _وكان في السَّوم_ لا حنث.
          ثالثها: قوله في الباب الثَّاني: (أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ)، وَرُبَّمَا قَالَ: (أَوْ يَكُونُ بَيْعَ خِيَارٍ) هما سواء كما قال الدَّاوُديُّ، ومعناهما أنَّه بيع خيار الشَّرط. وقال ابن حبيب: معناه قطع خيار المجلس.
          وقوله في الباب الرابع: (مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا) إلى آخره، هو أوضح حديث فيه كما قال الخطَّابيُّ، لأن قوله: (وَكَانَا جَمِيعًا) يبطل كلَّ تأويل يخالف ظاهرَ الحديث ممَّا تأوَّله أهل العراق وغيرهم يعني مالكًا وأصحابه.
          وكذا قوله: (وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا...) إلى آخره، فيه أبْيَنُ دليل على أنَّ التَّفرُّق بالبدن هو القاطع للخيار، وأنَّ للمتبايعين أن يتركا البيع بعد عقده ما داما في مجلسهما، ولو كان معناه التَّفرُّقَ بالقول لخلا الحديث عن الفائدة، لأنَّ النَّاس على اختيارهم في أملاكهم، فأيُّ فائدة في ذكر البيع إذا وقع؟ وادَّعى الدَّاوُديُّ أنَّ قوله في هذا الحديث: (وَكَانَا جَمِيعًا...) إلى آخره ليس بمحفوظ، قال: وليس مقامُ اللَّيث في نافع مقامَ مالكٍ.
          رابعها: في التِّرمِذيِّ محسَّنًا مِنْ حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةُ خِيَارٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ)) وهو مؤوَّل إمَّا باستقلاله باختيار الفسخ أو باختيار الاستقلال كما قاله ابن العربيِّ، والصَّواب الأوَّل، وعبَّر عن الإقالة به.
          خامسها: نقل ابنُ حزمٍ عن الأوزاعيِّ أنَّ كل بيع فالمتبايعان فيه بالخيار ما لم يتفرَّقا بأبدانهما، إلَّا بيوعًا ثلاثة: المغنم، والشُّركاء في الميراث يتقاومونه، والشُّركاء في التِّجارة يتقاومونها.
          سادسها: مِنْ تلك الاعتراضات المشار إليها فيما سَلف خمسةٌ: أنَّ مالكًا رواه وذَهب إلى خلافه، وأنَّه خبرُ واحد فيما تعمُّ به البلوى، وأنَّه يخالف قياسَ الأصول لأنَّ عقود المعاوَضات لا خيار فيها، حمله على المتساومَين باعتبار ما يؤُول إليه حالُهما مِنَ التَّبايع، وحمله على ما إذا قال البائع: بعت، ولم يقل المشتري: قبلت لأنَّه بعد تمام العقد يُقال: كانا متبايعين، وحمله التَّفرُّق على الأقوال، وقد قال تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] وجوابه كلُّه لائح، والحقُّ أحقُّ بالاتِّباع.
          سابعها: لمَّا ذَكرَ ابن حزمٍ مقالةَ الثَّوريِّ السَّالفةَ قال: رُوِّينا في ذلك آثارًا عن المتقدِّمين. روى الشَّعْبيُّ أنَّ عمر اشترى فرسًا واشترط حبسه على: إن رضيه وإلَّا فلا بيع بعدُ بينهما، فحَمل عليه رجلًا فعُطِب الفرسُ / فجعل بينهما شُريحًا، فقال شُريح لعمر: سلِّم ما ابتعت أو رُدَّ ما أخذتَ، فقال عمر: قضيت بالحقِّ.
          ومِنْ طريق عبد الرَّزَّاق عن سفيانَ عن عمرو بن دينارٍ عن عبد الرَّحمن بن فَرُّوخ عن أبيه قال: اشترى نافعٌ دار السِّجن بأربعة آلاف، فإنْ رضي عمر فالبيعُ بيعه، وإنْ عمرُ لم يرضَ فلصفوانَ أربعة، فأخذها عمر. وعن ابن عمر: كنت أبتاع إن رضيت حتَّى ابتاع ابن مطيع إن رضيها فقال: إنَّ الرجل ليرضى ثمَّ يدع وكأنَّما أيقظني، وكان يبتاع ويقول: ها إن أحدثت. وقال سليمان مولى ابن البَرصاء: بايعت ابن عمر بيعًا فقال لي: إن جاءتنا نفقتنا إلى ثلاث ليالٍ فالبيع بيعنا وإلا فلا بيع بيننا وبينك. قال ابن حزم: لا نعلم عن الصَّحابة في بيع الخيار غير هذا، وهو خلاف قول أبي حنيفة والشَّافعيِّ ومالك، وهي عندهم بيوع مفسودة مفسوخة.
          ثامنها: في «علل الخلال»: قال الأثرم: قلت لأحمد: الَّذي يقول أهل المدينة في العهدة الثَّلاث والسَّنة، قال: أمَّا عهدة السَّنة فما أدري روَوه عن أَبَانٍ عن عثمانَ وهشام بن إسماعيل. وأمَّا حديث الثَّلاث فلو ثبت حديث عُقبة، ولكنَّ الحسن ما أُراه سمع مِنْه لأنَّه بصريٌّ، ولكنَّ الحسن كان يأخذ الحديث هكذا. وقال محمَّد بن الحكم عن أحمد: ليس في عهدة الرَّقيق حديثٌ صحيح، ولا أذهب إليه، إنَّما رُوِيَ عن الحسن عن عقبة، وليس فيه شيء يصح. قلت: إن مالكًا يذهب إليه، قال: لا يعجبني.
          تاسعها: الكلام كلُّه في خيار المجلس، أمَّا خيار الشَّرط فثابتٌ بالإجماع ودليلُه حديث حَبَّانَ بنِ مُنْقِذٍ السَّالفُ، وإنما يجوز شرطُ الخيار في البيوع الَّتي لا ربا فيها، أمَّا تلك فلا، إذ لو جوَّزنا تفرَّقا ولم يتمَّ البيع بينهما.
          عاشرها: إذا شُرط الخيار عندنا زيادةً على الثَّلاث بطَل البيع، ولا يخرج على تفريق الصَّفقة، وقد روى الحُذافيُّ محمَّد بن يوسف، أخبرنا محمَّد بن عبد الرَّحيم بن شَرُوسٍ، أخبرنا حفص بن سليمان أخبرنا أبَانٌ، عن أنس أنَّ رجلاً اشترى بعيرًا واشترط الخيار أربعة أيَّام، فأبطل النَّبيُّ صلعم البيع وقال: ((إِنَّما الْخِيَارُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ)). قال: حدَّثنا عبد الرَّزَّاق، حدَّثنا رجلٌ سمع أَبانًا يقول عن الحسن: اشترى رجل بيعًا، وجعل الخيار أربعةَ أيام فقال ◙: ((الْبَيْعُ مَرْدُودٌ، وَإِنَّما الْخِيَارُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ)) وأبَانٌ وحفصٌ ضعيفان، والحديثان عزيزان.
          الحادي عشر: قال ابن المنيِّر في ترجمة البخاريِّ: (إِذَا لَمْ يُوَقِّتْ فِي الخِيَارِ، هَلْ يَجُوزُ البَيْعُ؟) ثمَّ ذكر حديث ابن عمر: (أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ) الظَّاهر أنَّه قصد تجوُّز البيع، وتفويض الأمر بعد اشتراط الخيار المطلق إلى العادة في مثل السِّلعة، وهذا مذهب مالك، وهو أسعد بإطلاق الحديث، خلافًا لِمَنْ مَنع البيع لذلك إلحاقًا بالغَرَر.