التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا اشترى شيئًا فوهب من ساعته قبل أن يتفرقا ولم ينكر

          ░47▒ بَابُ: إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا، فَوَهَبَ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، وَلَمْ يُنْكِرِ البَائِعُ عَلَى المُشْتَرِي، أَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ.
          وَقَالَ طَاوُسٌ: فِيمَنْ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ عَلَى الرِّضَا، ثمَّ بَاعَهَا: وَجَبَتْ لَهُ وَالرِّبْحُ لَهُ.
          2115- وَقَالَ الحُمَيْدِيُّ: حدَّثنا سُفْيَانُ، حدَّثنا عَمْرٌو، عَنِ ابْنِ عُمَرَ في بيع الجَمل الصَّعب بطوله.
          2116- (وَقَالَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحمن بْنُ خَالِدٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: بِعْتُ مِنْ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ مَالًا بِالوَادِي بِمَالٍ لَهُ بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا تَبَايَعْنَا رَجَعْتُ عَلَى عَقِبِي حتَّى خَرَجْتُ مِنْ بَيْتِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِي البَيْعَ وَكَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ المُتَبَايِعَيْنِ بِالخِيَارِ حتَّى يَتَفَرَّقَا.
          قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَلَمَّا وَجَبَ بَيْعِي وَبَيْعُهُ، رَأَيْتُ أَنِّي غَبَنْتُهُ، بِأَنِّي سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُودَ بِثَلاَثِ لَيَالٍ، وَسَاقَنِي إِلَى المَدِينَةِ بِثَلاَثِ لَيَالٍ).
          الشَّرح: أثرُ طاوسٍ أخرجه عبد الرَّزَّاق عن مَعْمَرٍ عن ابن طاوسٍ عن أبيه به. وعن مَعْمَر عن أيُّوب عن ابن سِيرينَ: إذا بعت شيئًا على الرِّضا قال: الخيار لكليهما حتَّى يتفرقا عن رضًا.
          وتعليقُ الحُمَيديِّ روى البخاريُّ مِنْه قطعةً في باب: مَنْ أُهْدِيَ له هديَّة وعنده جلساؤه. فقال: حدَّثنا عبد الله بن محمَّد حدَّثنا ابن عُيَينةَ.
          وأخرجه الإسماعيليُّ مِنْ حديث ابن أبي عمر وهارون عنه، وأخرجه أبو نُعيم مِنْ حديث بِشْر بن موسى عنه، وكذا هو في «مسنده» مِنْ رواية بِشْر بن موسى عنه.
          وتعليق اللَّيث رواه الإسماعيليُّ مِنْ حديث أبي صالح عنه، ورواه أيضًا مِنْ حديث أيُّوب بن سُويد، عن يونسَ بن يزيدَ عن الزُّهْريِّ به، قال: ورواه أبو صالح أيضًا عن اللَّيث: عن يونسَ أخبرنا القاسم: أخبرنا ابن زَنْجَوَيْهِ، حدَّثنا أبو صالح. وقال البَيْهَقيُّ: رواه يحيى بن بُكَير أيضًا عن اللَّيث عن يونسَ عن الزُّهْريِّ به وذكره أبو نُعيم مِنْ حديث أبي صالح عنه، ثمَّ قال: ذكره _يعني البخاريَّ_ فقال: وقال اللَّيث، ولم يذكر مَنْ دُونَه، ويدلُّ على أنَّ الحديث لأبي صالح، وأبو صالح ليس مِنْ شرطِه.
          إذا تقرَّر ذلك، فالحديث حجَّة لِمَنْ يرى الافتراق بالكلام في الحديث السَّالف في الباب قبله: ((البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا)) وهو بيِّن في ذلك، ألا ترى أنَّه _◙_ وهب الجملَ مِنْ ساعته لابن عمر قبل التفرُّق مِنْ عمر، ولو لم يكن الجَمل له ما جاز له أن يهَبه لابن عمر حتَّى يجبَ له بافتراق الأبدان. وأمَّا حديثُ ابن عمر في مبايعته لعثمان فقد احتجَّ به مَنْ قال: إنَّ التَّفرُّق بالأبدان.
          واحتجَّ به أيضًا مَنْ قال: إنَّه بالكلام، وكان مِنْ حجَّة الثَّاني أنْ قالوا: لو كانَ _يعني الحديثَ_ التَّفرُّقَ بالأبدان، لكان المرادُ به الحضَّ والنَّدبَ إلى حسن المعاملة مِنَ المسلم للمسلم وألَّا يفترسه في البيع على استخباره عن الدَّاء والغائلة، وقد قال ◙: ((مَنْ أَقَالَ نَادِمًا، أَقَالَ اللهُ عَثْرَتَهُ / يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). مِنْ حديث أبي هريرة. ألا ترى قولَ ابن عمر: (وَكَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ المُتَبَايِعَيْنِ بِالخِيَارِ مَا لَم يَفْتَرِقَا)، وفي رواية: ((وَكَانَتِ السُّنَّةُ يَوْمَئِذٍ)). ذكرها أبو عبد الملك، ولو كان على الإلزام لقال: كانت، وتكون إلى يوم الدِّين، فحكى ابن عمر أنَّ النَّاس حينئذٍ كانوا يلتزمون النَّدْب، لأنَّه كان زمنَ مكارمةٍ، وأنَّ الوقت الَّذي حدَّث ابن عمر بهذا الحديث كان التَّفرُّق بالأبدان متروكًا، ولو كان على الوجوب ما قال: وكانت السُّنَّة، فكذلك جاز أن يرجع على عقبيه، لأنَّه فَهِم أنَّ المراد بالحديث الحضُّ والنَّدب، لاسيَّما وهو الَّذي حصر فعله في هبته البَكْرَ له بحضرة البائع قبل التَّفرُّق.
          وقال الطَّحاويُّ: يحتمل حديثُ ابن عمر الوجهين جميعًا، فنظرنا في ذلك، فرُوِّينا عنه ما يدلُّ أنَّ رأيه كان في الفرقة، بخلاف ما ذهب إليه مَنْ قال: إنَّ البيع لا يتمُّ إلَّا بها. وهو ما رُوِّيناه عن ابن عمر قال: ما أدركَتِ الصَّفقة حيًّا فهو مِنْ مال المبتاع. قال ابن حزم: صحَّ هذا عنه ولا يُعلم له مخالفٌ مِنَ الصَّحابة.
          قال ابن المنذِر: يعني في السِّلعة تَتْلفُ عند البائع قبل أن يقبضَها المشتري بعد تمام البيع هي مِنْ مال المشتري، لأنَّه لو كان عبدًا فأعتقه المشتري كان عتقُه جائزًا بخلاف عِتق البائع، فهذا ابنُ عمر يذهب فيما أدركتِ الصَّفقةُ حيًّا فهلَك بعدها أنَّه مِنْ مال المشتري، فدلَّ ذلك أنَّه كان يرى أنَّ البيع يتمُّ بالأقوال قبل الفُرقة الَّتي تكون بعد ذلك، وأنَّ البيع ينتقل بالأقوال مِنْ ملك البائع إلى ملك المبتاع حتَّى يهلكَ مِنْ ماله إن هلَك، وهذا مِنِ ابن عمر دالٌّ على أنَّ مذهبه في الفُرقة الَّتي سمعها مِنْ رسول الله صلعم فيما ذكروا. وقد وجدنا عن رسول الله صلعم ما يدلُّ على أنَّ المبيع يملكه المشتري بالقول دون التَّفرُّق بالأبدان، وذلك أنَّ رسول الله صلعم قال: ((مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حتَّى يَقْبِضَهُ)) فكان ذلك دليلًا على أنَّه إذا قبضه حلَّ له بيعُه ويكون قابضًا له قبل التَّفرُّق بالأبدان.
          وفي ابن ماجَهْ مِنْ حديث ابن لَهِيعةَ عن موسى بن وَرْدانَ، عن سعيد بن المسيِّب قال: سمعتُ عثمان يخطُب على المنبر ويقول: كنت أشتري التَّمر وأبيعه بربحٍ فقال لي رسولُ الله صلعم: ((إِذَا اشْتَرَيْتَ فَاكْتَلْ، وَإِذَا بِعْتَ فَكِلْ)) وسيأتي عند البخاريِّ أيضًا معلَّقًا. وكان مَنِ ابتاع طعامًا مكايَلةً فباعه قبل أن يكتاله لا يجوز بيعُه، فإذا ابتاعه واكتاله وقبضه ثمَّ فارق بائعه، فكلٌّ قد اجتمع أنَّه لا يحتاج بعد الفُرقة إلى إعادة الكيل.
          وخولف بين اكتياله إيَّاه بعد البيع قبل التَّفرُّق وبين اكتياله إيَّاه قبل البيع، فدلَّ ذلك أنَّه إذا اكتاله اكتيالًا يحلُّ له به بيعه، فقد كان ذلك اكتيالًا له وهو له مالكٌ، وإنِ اكتال اكتيالًا لا يحلُّ له، فهو كالهُ وهو غير مالكٍ له، فثبَت بما ذكرنا وقوعُ ملك المشتري في المبيع بابتياعه إيَّاه قبل فُرقةٍ تكون بعد ذلك، فهذا وجهُ طريق الآثار.
          وأمَّا طريقُ النَّظر، فرأينا الأموال تُملك بعقودٍ في أبدانٍ وفي أموالٍ وفي أبضاعٍ وفي منافعَ، فكان ما يُملك مِنَ الأبضاع هو النِّكاح، وكأنَّه يُملك بعقده لا بفُرقةٍ بعد العَقد، وكان ما يملك به المنافع هو الإجارات، وكان ذلك أيضًا مملوكًا بالعَقد لا بفرقةٍ بعده، فالنَّظر على ذلك أن تكونَ كذلك الأموالُ المملوكةُ بسائر العقود مِن البيوع، وغيرُها تكون مملوكةً بالأقوال لا بفُرقةٍ بعدها قياسًا ونظرًا.
          وفي الحديث: أن يُسأل ربُّ السِّلعة بيعَها وإن لم يعرضْها، وأنَّ البيع لا يحتاج إلى قبضٍ.
          وقول البخاريِّ: (وَلَمْ يُنْكِرِ البَائِعُ عَلَى المُشْتَرِي) فيه تعسُّف، ولا يُحمل فعلُه أنَّه وهب ما فيه لآخر خيار ولا إنكار لأنَّه إنَّما بُعث مبيِّنًا. نبَّه عليه ابنُ التِّين، قال: وليس فيه ما بوَّب له.
          ومعنى: (سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُودَ) يعني أنَّ الأرض الَّتي أعطيتُه بُعدُها مِنْ أرض ثمودَ ثلاثُ ليالٍ، والأرض الَّتي أعطاني مِن المدينة على ثلاث، وما قرُب موضعُ حاجته، وقد ذكر أنَّ مسافة ما بين المدينة وخيبرَ أكثرُ مِن أربعة أيَّام.
          وقوله في التَّرجمة: (أَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ) كأنَّه إنَّما أخذه مِنَ القياس على الهبة، لأنَّ القبض آكدُ مِنَ الهبة.
          وفي الحديث: جوازُ بيع الغائب على الصِّفة، وهو مذهبُ جماعات، وسيأتي ذلك بعدُ إن شاء الله تعالى.
          وقام الإجماعُ أنَّ البائع إذا لم يُنكِرْ على المشتري ما أَخذ به مِنَ الهِبة أو العِتْقِ أنَّه بيعٌ جائزٌ، واختلفوا إذا لم يُنْكِر ولم يرضَ بما أخذ به المشتري، فالَّذين يرَون أنَّ البيع يتمُّ بالكلام يجيزون هِبَتَه وعِتْقَه، ومَنْ يرى التَّفرُّقَ بالأبدان لا يجيز شيئًا مِنْ ذلك إلَّا بعد التَّفرُّق، وحديثُ عمر حُجَّة عليهم، وفي حديث الجَمَلِ توقيرُهم الشَّارعَ، ولا يتَقدَّمونه في المشي.
          وفيه: زجرُ الدَّوابِّ وهِبةُ المبيع للغيرِ وإن لم يأذنِ البائعُ كما سلف. وفي مبايعة ابنِ عمرَ عثمانَ جوازُ بيع الأرض بالأرض. وفي تلطُّفِ ابنِ عمر وافتراقِه مِنْ عثمانَ استعمالُ النَّدب إذ ليس مِنْ شأنهم التَّحيُّل.