التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب بيع المزايدة

          ░59▒ بَابُ: بَيْعِ المُزَايَدَةِ.
          وَقَالَ عَطَاءٌ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ لاَ يَرَوْنَ بَأْسًا بِبَيْعِ المَغَانِمِ فيمَنْ يَزِيدُ.
          2141- ثمَّ ذَكر حديث جابر في بيع المدبَّر، وهو حديثٌ أخرجه مسلم أيضًا.
          وشيخ البخاريِّ فيه بِشْرُ بن محمَّد المَرْوَزيُّ انفردَ به عن الخمسة، مات سنة أربع وعشرين ومئتين. والحسين المكتِّبُ هو ابن ذَكْوانَ العَوْذيُّ، مات سنة خمس وأربعين ومئة.
          وأثرُ عطاء روى ابن أبي شيبة بعضَه عن وكيعٍ عن سفيان، عمَّن سمع مجاهدًا وعطاءً قالا: لا بأس ببيع مَن يزيد. وعند البَيْهَقيِّ مِنْ حديث زيد بن أسلم: ((سمعت رجلًا تاجرًا _يُقال له شَهْر_ يسأل عبدَ الله بن عمر عن بيع المزايَدة، فقال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم أَنْ يَبِيعَ أَحَدَكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ حتَّى يَذَرَ، إِلَّا الْمَغَانِمَ وَالْمَوَارِيثَ)).
          قال أحمدُ _فيما حكاه الخلال عنه_: هذا حديث منكَر. وروى ابن أبي شَيْبةَ عن عمر ((أنَّه باع إبلًا من إبل الصَّدقة فيمَنْ يزيد)). وعن حمَّاد: لا بأس ببيعِ مَنْ يزيدُ.
          والمعتِق في حديثِ جابرٍ رجلٌ من بني عُذْرةَ كما ثبت في مسلم. وفي رواية: يُقال له أبو مذكور، وجاء أنَّه مِنَ الأنصار. ويحتمل أن يكون عُذْريًّا حليفَ الأنصار، والمعتَق يعقوبُ، والمشتري نُعيم، كما صرَّح به في الحديث، وهو ابن عبد الله النَّحَّام، أسلم قديمًا. والنَّحْمةُ: السَّعْلةُ. والثَّمن: ثمان مئة درهم كما ذكره البخاريُّ في موضع آخرَ ومسلمٌ أيضًا، وفي أبي داود بسبع مئة أو تسع مئة، / وفي النَّسائيِّ: وكان محتاجًا وعليه دَين فلما باعه قال: ((اقْضِ دَيْنَكَ)).
          وموضع التَّرجمة: (مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟) وفي النَّسائيِّ تكرارُه، وقد سلف حكم ذلك في الباب قبله.
          وقد اختلف العلماء في بيع المزايدة، فأجازها الأربعة وأكثرُ العلماء في المغانم وغيرها. وكان الأوزاعيُّ يكره المزايدة إلَّا في الغنائم والمواريث، ولعلَّ عمدته ما سلف، لكنَّه منكَر، وهو قول إسحاق، وَرُوِيَ عن أبي أيُّوب وعُقبةَ بن عامر كراهيةُ الزِّيادة، وعن إبراهيم النَّخَعيِّ أنَّه كَره بيعَ مَنْ يزيدُ.
          قال مالك: لو تَرك النَّاس السَّوم عند أوَّل مَنْ يسوم بها أُخذت بشبهة الباطل مِنَ الثَّمن، ودخل على الباعة في سِلعهم المكروهُ، ولم يزل الأمر عندنا على ذلك، وحديث الباب حجَّة على مَنْ كَرهه، لأنَّه قد قال: (مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟) فعرضَه للزِّيادة، وأحبَّ أن يستقصيَ فيه للملِفس الَّذي باعه عليه.
          وهذا الحديث يفسِّر نهيَه أن يسوم الرَّجل على سوم أخيه أو يبيعَ على بيع أخيه أنَّه أراد بذلك إذا تقاربا مِنْ تمام البيع كما قال جمهور الفقهاء. وعلى هذا المعنى حملُ العلماء ما رُوِيَ عن أبي أيُّوب وعُقبةَ أنَّ ذلك بعدما رضي البائعُ ببيعه الأوَّل. وفي «المستخرجة» لابن القاسم: إذا وقع على رجلين يكونان شريكين. قال عيسى: لا يعجبني ذلك مِنْ قوله، وهو الأوَّل. قال: ولا ينبغي للصَّالح أن يَقبل مِنْ أحدٍ مثلَ الَّذي أعطاه غيرُه، وإنَّما يقبلُ الزِّيادة وبها ينادي.
          واعلم أنَّ البخاريَّ ترجم على الحديث أيضًا باب: مَنْ باع مالَ المفلِس أو المعدِم فقسَمه بين الغرماء أو أعطاه حتَّى ينفقَ على نفسه. واعتَرضَ ابن التِّين على ترجمته هنا فقال: ليس فيه بيانٌ لما بوَّب عليه مِنْ بيع المزايدة، لأنَّه إنَّما قال: (مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟) وكذا قال الإسماعيليُّ: ليس فيه ما تَرجم له، فإنَّ المزايدة أن يعطيَ آخرُ أكثرَ ممَّا أعطى الأوَّلُ.
          قلتُ: وأثر عطاءٍ مطابقٌ لها، وقال عبد الملك: لم يخلص للبخاريِّ السَّبب الموجِب لبيعه في ديوانه كلِّه على تكريره له، ولا يُباع المدبَّر لدين بعده في حياة سيِّده، ويُباع بعد موته فيقضي ديونَ سيِّده ويعتق ثلثُ ما بقي مِنْه.
          وقد رُوِيَ بإسناد فيه نظرٌ أنَّه كان عليه دَين. وهذا يَعْضُده تبويبُ البخاريِّ. وقالت فرقةٌ: لسيِّدِه بيعُه كسائر الوصايا، وقال بعض العلماء: لا يجوز لأحدٍ أن يختلع مِنْ جميع ماله لهذا الحديث، ولقوله _◙_ لكعب: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ)) ولنهيه سعدًا أن يجاوز الوصيَّة في الثُّلث.
          ومِنْ تراجمه عليه أيضًا باب: بيع المدبَّر.
          وقد اختَلف العلماء فيه كما حكيتُه لك، والمنع هو قول مالكٍ وأبي حنيفة وجماعةٍ مِنْ أهل الكوفة. قال أبو حنيفة: إن مات سيِّدُه ولم يخرج مِنَ الثُّلث سعى في فِكاك رقبته، وإن مات سيِّده وعليه دَين فبِيع للغرماء سعى لهم وخرج حرًّا. وأجازه الشَّافعيُّ وأحمدُ وأهل الظَّاهر وأبو ثور وإسحاقُ، وهو قول عائشةَ ومجاهدٍ والحسنِ وطاوسٍ، وباعت عائشةُ مدبَّرةً لها سَحَرَتْها.
          وكَرهه ابنُ عمر وزيدُ بن ثابت ومحمَّد بن سِيرينَ وابن المسيِّب والزُّهْريُّ والشَّعبيُّ والنَّخَعيُّ وابنُ أبي ليلى واللَّيث، وحكى ابنُ أبي شَيبة المنعَ عن شُريحٍ وزيدِ بن ثابتٍ وسالمٍ والحسن. وجوَّز أحمدُ بيعَه بشرط أن يكون على السيِّد دَين. وعند مالكٍ يجوز بيعُه عند الموت، ولا يجوز في الحياة، حكاه ابن الجوزيِّ عنه. وحكى مالكٌ إجماعَ أهل المدينة على بيع المدبَّر وهِبَتِهِ، وحديثُ الباب حُجَّة للجواز، وأجاب عنه ابن بَطَّال بأنَّ في الحديث أنَّ سيِّده كان عليه دَين فثبت أنَّ بيعَه كان لذلك، ولأنَّها قضيَّة عينٍ تحتمل التَّأويل. وتأوَّله بعضُ المالكيَّة على أنَّه لم يكن له مال غيرُه فردَّ تصرُّفه. وهذا مصرَّح به في نفس الحديث فلا حاجة إليه.
          وأمَّا حديث: ((الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُشْتَرَى، وَهُوَ حُرٌّ مِنَ الثُّلُثِ)) فالأشبهُ وقفُه على ابن عمر، ووهَّاه ابن حزمٍ، قال: وَرُوِيَ عن أبي جعفرٍ محمَّد بن عليٍّ، عن رسول الله صلعم مرسَلًا أنَّه باع خِدْمة المدبَّر.
          وعن جابر: إنَّ أولاد المدبَّرة إذا مات سيِّدها ما نراهم إلَّا أحرارًا، وهو مذهب الجمهور. وعن ابن شِهابٍ ورَبيعة أنَّ عائشة باعت مدبَّرة، فأنكر ذلك عمرُ وأمرها أن تشتريَ غيرَها بثمنها وتدبِّرَها. وقال ابن سِيرينَ: لا بأس ببيع خِدمة المدبَّر. ونُقل عن ابن المسيِّب أيضًا. وقيل: إنَّ سيِّده كان سفيهًا، فلذلك تولى بيعَه بنفسه، حكاه ابن بَطَّال، وعليه يدلُّ تبويب البخاريِّ السَّالف في الفلس.
          فائدة: قام الإجماع على صحَّة التَّدبير، ومذهبنا ومذهبُ مالك في آخرين أنَّه يجب عِتْقُه مِنَ الثُّلث. وقال اللَّيث وزُفر: مِنْ رأس المال.
          فرع: جمهور العلماء _كما حكاه ابن رُشْد_ على جواز وطء المدبَّرة إلَّا ابنَ شِهابٍ فإنَّه منعَه. وعن الأوزاعيِّ كراهتُه إن لم يكن وَطِئَها قبل التَّدبير.