التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب شراء الدواب والحمير

          ░34▒ بَابُ: شِرَاءِ الدَّوَابِّ وَالحَمير.
          (وَإِذَا اشْتَرَى دَابَّةً أَوْ جَمَلًا وَهُوَ عَلَيْهِ، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم لِعُمَرَ: بِعْنِيهِ. يَعْنِي جَمَلًا صَعْبًا).
          2097- ثمَّ ساق حديثَ جابر في بيع الجمل.
          حديثُ جابر هذا أخرجه البخاريُّ في نحو عشرين موضعًا ستمرُّ بك إن شاء الله، وسلف مِنْها الصَّلاة إذا قدم مِنْ سفر، وبعضه في الحجِّ. في حديث عمر: ركوبُ الجمل الصَّعب، لأنه بيَّن بعدُ في باب: إذا اشترى شيئًا فوهب مِنْ ساعته، أنَّ ابن عمر كان راكبًا عليه فلذلك بوَّب عليه هنا.
          وقول جابر: (كُنْتُ فِي غَزَاةٍ) فيه ذكرُ العمل الصَّالح ليأتي بالأمر على وجهه لا يريد به فخرًا.
          وقوله: (مَا شَأْنُكَ؟) فيه تفقُّده لأحوال صحابته وذكرُهم له ما ينزل بهم عند سؤاله.
          وقوله: (فَتَخَلَّفْتُ، فَنَزَلَ يَحْجُنُهُ بِمِحْجَنِهِ) فيه نزول الشَّارع لأصحابِه. ومعنى (يَحْجُنُهُ) يضربه بالمِحْجَن _بكسر الميم_ عصًا محنيَّةُ الرَّأس كالصَّولجان، وقال ابن فارس: خَشبة في طرفها العقاب، واحتجنتُ بها الشَّيء، وفيه ضرب الدَّوابِّ.
          وقوله: (أَكُفُّهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم) فيه توقيرُه، وهو واجب مِنْ غير شكٍّ.
          وقوله: (أَفَلاَ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ) فيه حضٌّ على تزويج البِكْر، وعلى ما هو أقربُ لطول الصُّحبة والمودَّة وما تستريح إليه النُّفوس لما فيها مِنْ طبع البشريَّة والضَّعف، وقيل: معنى تلاعبُها مِنَ اللُّعاب لا اللَّعب، يؤيده رواية البخاريِّ في موضعٍ آخر: ((فَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الأَبْكَارِ ولُعَابِها)) بضمِّ اللَّام كما قيَّده المُسْتملي، وقوله: (إِنَّهُنَّ أَطْيَبُ أَفْوَاهًا) وفيه اعتذارُ جابر بأخواته.
          وقوله: (أَمَّا إِنَّكَ قَادِمٌ) يحتمل أن يكون إعلامًا وإن قدمت، قاله الدَّاوُديُّ. و(الكَيْسَ الكَيْسَ) أي: الجِماع، كما قاله ابن الأعرابيِّ لما فيه، والغسل مِنَ الأجر، والكَيس: العقل جعل طلب الولد عقلًا. وفي البخاريِّ في موضع آخرَ: الكَيْس الولد، ولعلَّه حضَّه على طلب الولد واستعمال الكيس والرِّفق فيه إذا كان لا ولد له إذ ذاك، وقيل: أمره أن يتحفَّظ لئلَّا تكون حائضًا. والكيس: شدَّة المحافظة على الشَّيء، وقيل: حضَّه على الولد ليكثر الإسلام ويعملوا بشرائعه. وفيه سؤال ربِّ السِّلعة للبيع وإن لم يعرضها له، وفيه وزنُ ما يُباع به لقوله: (بِأُوقِيَّةٍ) وفيه: الاستعجال للقُدوم.
          وقوله: (وَقَدِمْتُ بِالْغَدَاةِ) أي غداةِ اليوم الَّذي قدم فيه ◙.
          وقوله: (فَوَزَنَ لِي أُوقِيَّةً) كذا هو بالألف، وادَّعى ابن التِّين أنَّه وقع بدونها، وفيه التَّوكيل في القضاء، قاله الدَّاوُديُّ. وفيه: الرُّجحان في الوزن، ولعلَّه كان يأمره الوكيل، والوكيل لا يرجِّح إلا بالإذن، ومذهب مالكٍ والشَّافعيِّ والكوفيِّين: أنَّ الزِّيادة في البيع مِنَ البائع والمشتري والحطَّ مِنَ الثَّمن يجوز، سواء قبض الثَّمن أم لا، على حديث جابر، وهي عندهم هبة مستأنفة. وقال ابن القاسم: هبة، فإن وجد بالمبيع عيبًا رجع بالثَّمن في الهبة. وقال أبو حنيفة: إن كانت الزِّيادة فاسدة لحقت بالعقد وأفسدته، وخالفه صاحباه. وقال الطَّحاويُّ: لا تجوز الزيادة في المبيع. وترك أصحابنا فيه القياس، ورجعوا إلى حديث جابر، وسنوضح ذلك في باب استقراض الإبل.
          واختلفوا في أحكام الهبة فعند مالك: أنَّها تجوز وإن لم تُقبض. وعند الشَّافعيِّ والكوفيِّين: لا تجوز حتَّى تقبض، كما ستعرفه في أحكامها في بابِه، وفيه جواز هبة المبتاع وردِّ ما اشتراه، وكذا فعل في جملِ عمرَ كما سيأتي. وقد اختلف أهل العلم في البيع هل القبض شرط في صحَّته أم لا؟ على قولين: أحدهما: لا، وأنَّ البيع يتمُّ بالقول غير الرِّبوي، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق.
          وثانيهما: نعم، وإنه مِنْ تمام العقد، فإن تَلِفَ قبل قبضِه فمِنْ ضمان بائعه. قال ابن المنذِرِ: وقد وهب الشَّارع الجملَ مِنْ جابر قبل أن يقبضه، وإذا جاز أن يهبَه المشتري للبائع قبله، جاز أن يهبَه لغيره وبيعُه، وأن يفعل فيما اشتراه ما يفعلُه المالك فيما ملكه، وليس مع مَنْ خالف هذا سنَّةٌ يدفع بها هذه السُّنَّة الثَّابتة.