التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا اشترى متاعًا أو دابة فوضعه عند البائع أو مات قبل أن

          ░57▒ بَابُ: إِذَا اشْتَرَى مَتَاعًا أَوْ دَابَّةً، فَوَضَعَهُ عِنْدَ البَائِعِ أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ.
          وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا أَدْرَكَتِ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنَ المُبْتَاعِ.
          2138- ثمَّ ساق حديثَ عائشة: (لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِي عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم إِلَّا يَأْتِي فِيهِ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الخُرُوجِ...) الحديث.
          وفي آخره: (إِنَّ عِنْدِي نَاقَتَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ إِحْدَاهُمَا، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ).
          وشيخ البخاريِّ فيه فَرْوَةُ بنُ أبي المَغْراءِ مَعْدِي كَرِبَ الكوفيُّ، وروى التِّرمِذيُّ عن رجلٍ عنه، مات سنة خمس وعشرين ومئتين.
          وأثرُ ابن عمر سلفَ، وصحَّحه ابنُ حزمٍ، ولا مخالفَ كما قال ابن المنذِر، فهو كالإجماع.
          وحديثُ عائشة سَلف في الصَّلاة مطوَّلًا.
          وقد اختَلف العلماءُ في هلاك المبيع قبل أن يُقبض، فذهب أبو حنيفة والشَّافعيُّ أنَّه مِنْ ضمان البائع. وقال أحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور: مِنْ ضمان المشتري. وفرَّق مالكٌ بين الثِّياب والحيوان، فقال: ما كان مِنَ الثِّياب والطَّعام، وما يُغاب عليه فهو مِنْ ضمان البائع. قال ابن القاسم: لأنَّه لا يُعرف هلاكُه ولا ينبه عليه، ويُتَّهم أن يكون نَدِم فيه فغيَّبه، وأمَّا الدَّوابُّ والحيوان والعقار فمِنَ المشتري.
          وبالأوَّل قال سعيد بن المسيِّب وربيعةُ واللَّيث فيمَنْ باع عبدًا واحتبَسه بالثَّمن وهلَك في يده قبل أن يأتيَ المشتري بالثَّمن، وأخذَ به ابنُ وهب، وكان مالكٌ قد أخذ به أيضًا. وقال سليمانُ بن يَسارٍ: هو مِنَ المشتري، سواءٌ حبَسه البائعُ ومنعه مِنَ الثَّمن أم لا. ورجَع إليه مالك.
          احتجَّ الأوَّلون بفسادِ بيع الصَّرف قبل القبضِ، فدلَّ أنَّه مِنْ ضمان البائع، ولا خلاف أنَّ مَنِ اشترى طعامًا مكايَلةً فهلَك قبل القبض في يد البائع أنَّه مِنَ البائع، فكذا ما سِواه قياسًا، والشَّارع قد نهى عن بيع ما لم يُقبض، لأنَّه لم يُضمن. وفرَّق غيرُهم بين الصَّرف وبين ما نحن فيه بانتفاء حقِّ التَّوفية هنا. قيل: وإنَّما نهى عن بيع ما لم يُقبض إذا لم يُضمن بدليل إتلاف المشتري، فإنَّه قبضٌ.
          ووجهُ استدلال البخاريِّ بحديث عائشة هنا أنَّ قوله ◙: (قَدْ أَخَذْتُهَا) في النَّاقة لم يكن أخذًا باليد، ولا لحيازة شخصها، وإنَّما كان التزامه، لأنَّه باعها بالثَّمن وإخراجها مِنْ ملك أبي بكر، لأنَّ قوله: (قَدْ أَخَذْتُهَا) يوجب أخذًا صحيحًا وإخراجًا للنَّاقة مِنْ ذمَّة الصِّدِّيق إليه بالثَّمن الَّذي يكون عِوضًا عنها، فهل يكون الضَّياع أو التَّصرُّف بالبيع قبل القبضِ إلَّا لصاحبِ الذِّمَّة الضامنة لها؟
          وفيه مِنَ الفقه: إخفاءُ السِّرِّ في أمر الله _╡_ إذا خُشي مِنْ أهل العصر. وفيه أنَّ الصِّدِّيق أوثقُ النَّاس عند رسول الله صلعم وأنِّه مِنْ أمَنِّ النَّاس عليه في صحبته وماله، لأنَّه لم يرغب بنفسه عنه في حَضرٍ ولا سَفرٍ / ولا استأثر بماله دونه. ألا ترى أنَّه أعطاه إحدى ناقتيه بلا ثمنٍ فأبى إلَّا به، وسرَّه حتَّى تكون الهجرة خالصة لله. وفي استعداد الصِّدِّيق النَّاقتين دِلالةٌ على أنَّه أفهمُ النَّاسِ لأمر الدِّين، لأنَّه أعدَّهما قبلَ أن يَنزل الإذنُ بالهجرة، لأنَّه قبل ذلك رجا أنَّه لا بدَّ أن يؤذَن له، كما أخرجه البَيْهَقيُّ في «دلائله» وغيره، فأعدَّ ذلك.
          وفيه أنَّ الافتراق الَّذي يتمُّ به البيع في قوله: ((البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا)) إنَّما يكون بالكلام عند مَنْ يراه لا بالأبدان، لقوله _◙_ لأبي بكر: (قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ) قبل أن يفترقا، وتمَّ البيع بينهما، وسيأتي بعضُ معانيه في باب: التَّقنُّع مِنَ اللِّباس إن شاء الله [خ¦5807].
          وبهذا الحديث أخذ مالكٌ وأحمد وأبو حنيفة أنَّ بيع العين الغائبة على الصِّفة جائز، ومنعه الشَّافعيُّ في أظهر قوليه، وجائزٌ عند مالك أن يبيعَ على أنَّ المشتريَ بالخيار إذا رأى، وأنكره البغداديُّون مِنْ أصحابه.
          قال ابنُ التِّين: اختلف قول مالك في ضمان ما اشتُري على الصِّفة وهو غائب، فقال مرَّة: هو مِنَ البائع، وبه أخذ ابن القاسم. وقال مرَّة: مِنَ المشتري، وبه أخذ أشهبُ. وعند أبي حنيفة أنَّ البيع جائزٌ، وإن لم يشترط المشتري الخيارَ، ويجب له الخيار حكمًا، ويستدلُّ بهذا الحديث، وأنَّه _◙_ أخذها بالثَّمن، ولم يذكر شرطَ خيار رؤية، ودليل البغداديِّين: أنَّه عقدٌ عَرِي عن الصِّفة فكان فاسدًا كالسَّلَم إذا عَرِي عنها.
          وفي «تاريخ دمشق» وغيره: أنَّ الصِّدِّيق لمَّا قدَّم النَّاقة إلى رسول الله صلعم ليركبها، قال: ((لَا أَرْكَبُ نَاقَةً لَيْسَتْ لِي)) قال: هي لك، قال: ((بِالثَّمَنِ)) فيستدلُّ أنه رآها عند العقد، لا كما استدلَّ به مِنْ صحَّة بيع الغائب عند الوصف.
          وقوله: (أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ) كذا هو بخطِّ الدِّمْياطيِّ، وفي «الحاشية»: <عَدَدْتُهما>، وادَّعى ابنُ التِّين: أنَّه وقع في البخاريِّ عَدَدْتُهما، ثمَّ قال: وصوابه: أعددتُهما، لأنَّه رباعيٌّ وأمَّا عَدَدْتُ فمِنَ العدد، وليس هذا موضعَه.
          وقوله: (لَمْ يَرُعْنَا): أي: لم يُفْزِعنا.
          وقوله: (أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ) كذا هو بلفظ (مَنْ)، وادَّعى ابن التِّين أنه وقع بلفظ ((مَا)) ثمَّ قال: وصوابه (مَنْ) ولا حاجة إلى ذلك.