التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التجارة في البر

          ░8▒ بَابُ: التِّجَارَةِ فِي البَرِّ وغيره.
          وَقَولِهِ تعالى: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ} [النور:37]. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ القَوْمُ يَتَبَايَعُونَ وَيَتَّجِرُونَ، ولكن إِذَا نَابَهُمْ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللهِ لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، حتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى اللهِ.
          2060- 2061- ذَكر فيه حديثَ (عَمْرو بْن دِينَارٍ، عَنْ أَبِي المِنْهَالِ، قَالَ: كُنْتُ أَتَّجِرُ فِي الصَّرْفِ، فَسَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، فَقَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم...).
          (وَعَن ابنِ جُريج: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَعَامِرُ بْنُ مُصْعَبٍ: أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا المِنْهَالِ، يَقُولُ: سَأَلْتُ البَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالاَ: كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم فَسَأَلْنَاهُ عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلاَ بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ نَسَاءً فَلاَ يَصْلُحُ).
          هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا.
          وشيخ البخاريِّ: (أَبُو عَاصِمٍ) اسمه الضَّحَّاك بن مَخْلَد.
          و(ابْنِ جُرَيْجٍ) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُرَيج أحد الأعلام، أخو محمَّد، قال: ما دَوَّن العلمَ تدوينُ أحد، مات سنة خمسين ومئة.
          و(أَبُو المِنْهَالِ) اسمُه عبد الرَّحمن بن مُطْعِم البصريُّ الرَّاوي عن ابن عبَّاس والبراء، وعنه عمرُو بن دينارٍ، مات سنة ستٍّ ومئة، وليس بأبي المِنْهال ذاك سَيَّار بن سَلامة الرَّاوي عن أبي بَرْزةَ فاعلمه.
          والبَرُّ في التَّرجمة بفتح الباء والرَّاء المشدَّدة، كذا هو مضبوط في أصل الدِّمْياطيِّ، وسيترجم بعده التِّجارة في البحر، وقال بعض شيوخنا: اختُلف في هذا التَّبويب هل هو البرُّ بفتحِ الباء أو ضمِّها أو بالزَّاي؟ قال: وبكلِّها جاءت النُّسخ ولم أر متقنًا ضَبَطَها.
          وقال ابن بَطَّال: إنَّ التِّجارة في البَرِّ ليس في الباب ما يقتضي تعيينها مِنْ بين سائر التِّجارات غير أنَّ قوله تعالى: {لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ} [النور:37] يدخل في عمومه جميع أنواع التِّجارات مِنَ البَزِّ وغيره، وتفسير قَتادة المذكور رُوِيَ عن عطاءٍ وابن عُمر، ونحوَه قال عطاء: لا يلهيهم ذلك عن حضور الصَّلاة أي في جماعة، وجاز بهم ابنُ عمر السُّوق، وقد غلَّقوا حوانيتهم وقاموا ليُصلُّوا في جماعة فقال: فيهم نزلت، وذكر الآية.
          قال ابن بَطَّال: ورأيت في تفسير الآية قال: كانوا حدَّادين وخرَّازين، وكان أحدُهم إذا رفع المِطرقة أو غَرَزَ الإِشْفى فسَمِع الأذان، لم يُخرجِ الإشفى مِنَ الغرزة، ولم يرفع المِطرقة، ورمى بها وقام إلى الصَّلاة.
          وفي الآية نعتُ تجَّار سلفِ الأمَّة وما كانوا عليه مِنْ مراعاة حقوق الله _تعالى_ والمحافظة عليها والتزام ذكر الله في حال تجارتهم وصبرِهم على أداء الفرائض وإقامتها، وخوفِهم سوءَ الحساب والسُّؤالَ يوم القيامة. والنَّسَاءُ _بالمدِّ_ التَّأجيل، ثمَّ الحديث دالٌّ على أنَّ اسم الصَّرف إنَّما يقع على بيع الذَّهب بالوَرِق، وأمَّا الذَّهب بمثله والوَرِق بمثله فيُسمَّى مراطَلة ومبادلَة، وفيه أنَّ الصَّرف لا يكون إلَّا يدًا بيد.
          وقوله: (وَسَأَلْنَاهُ عَنِ الصَّرْفِ) قال الدَّاوُديُّ: يعني الذَّهبَ والفضَّة.
          وقول أبي المِنْهال: (كُنْتُ أَتَّجِرُ فِي الصَّرْفِ) كان في ذلك الزَّمان لاهتمامهم بالأحكام، وأمَّا اليوم فقلَّ مَنْ يعمل بها.
          قال الحسنُ البصريُّ في زمانه: لو استَقيتَ ماءً فَسُقيتَ مِنْ بيت صرَّاف فلا تشربْ، قال بُكَيْر بنُ عبد الله بن الأشَجِّ: بئسَ ما قال الحسنُ، رُبَّ صرَّافٍ خيرٌ مِنَ الحسن، قال مالك: ليس كما قال بُكَير، إنَّما يُنظر إلى الأمر الَّذي يشمل النَّاسَ كثرتُه فيُجتنَب لذلك، وقال الخليل: الصَّرْفُ فضلُ الدِّرهم على الدِّرهم، ومِنْه اشتُقَّ اسم الصَّيرفيِّ لتصريفه بعضَ ذلك في بعض، وقال ابنُ التِّين: قول الدَّاوُديِّ أَولى للحديث الآخر: ((الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، والفِضَّةُ بِالفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ)) وهو مذهب سائر الفقهاء.