التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب:بيع الشريك من شريكه

          ░96▒ بَابُ: بَيْعِ الشَّرِيكِ مِنْ شَرِيكِهِ.
          2213- ذكر فيه حديثَ جابر: (جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلاَ شُفْعَةَ).
          هذا الحديثُ ذكره بعدُ، وترجم عليه باب: بيع الأرض والدُّور والعروض مُشاعًا غيرَ مقسوم، ولفظه: ((قَضَى رَسُولُ اللهِ صلعم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ)) بمثله.
          وفي آخرَ في موضعٍ آخر: ((إِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم الشُّفْعَةَ)) بمثله أيضًا، وأخرجه مسلم بألفاظ نحوها، وقال البخاريُّ هنا: (فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ) رواه عبد الرَّحمن بن إسحاق عن الزُّهْريِّ، تابعه هِشام عن مَعْمر، وقال عبد الرَّزَّاق: في كلِّ مال، فإن قلت: مِنْ أين يُؤخذ ما بوَّب له؟ وهو بيع الشَّريك مِنْ شريكه؟
          قلت: لأنَّه أخذَه مِنَ الشَّريك كأنَّه شراءٌ، فإذا كان له الأخذُ بالشِّراء فالشُّفعة أَولى، لأنَّه إنما يأخذ بحقِّ الشَّركة المتقدِّمة، فيأخذ ما هو أولى أن يقع البيعُ مِنْه.
          إذا عرفتَ ذلك فبيعُ الشَّريك مِنَ الشَّريك في كلِّ شيءٍ مُشاعٍ جائزٌ، وهو كبيعِه مِنَ الأجنبي، فإن باعه مِنَ الأجنبي فللشَّريك الشُّفعة لعلَّة الإشاعة، وخوفِ دخول الضَّرر عليه.
          وإن باعه مِنْ شريكه ارتفعت الشُّفعة وإذا كان للشَّريك الأخذُ بالشُّفعة، بالسُّنَّة الثَّابتة عن رسول الله صلعم، فعلى البائع إذا أحبَّ البيعَ ألَّا يبيع مِنْ أجنبيٍّ حتَّى يستأذن شريكَه، كما ثبت في «الصَّحيح» مِنْ حديث جابر.
          وفي لفظ: ((لَا يَحِلُّ أَنْ يَبِيعَ حتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ)) وفي لفظٍ: ((لَا يَصْلُحُ)) وبه صرَّح الإمام أحمدُ.
          وأمَّا بيعُ العروض مُشاعًا فأكثرُ العلماء أنَّه لا شُفعة فيها، وإنَّما الشُّفعة في الدُّور والأرَضينَ خاصَّة، وهو قول عطاء والحسن ورَبيعة والحَكم وحمَّاد، وبه قال مالكٌ والثَّوريُّ والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ. وَرُوِيَ عن عطاءٍ أنَّه قال: الشُّفعة في كلِّ شيء حتَّى في الثَّوب، وإذا اختلف فيها قوُل عطاء فكأنَّه لم يأتِ عنه فيها شيء، فهو كالإجماع أنَّه لا شفعة في العُروض والحيوان، قاله ابن المنذِر، وحكى مقالةَ عطاءٍ بعضُ الشَّافعيَّة عن مالك، وأنكره القاضي أبو محمَّد.
          وقول البخاريِّ في باب: بيع الأرض والدُّور (رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحمن بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ) عبد الرَّحمن هذا يُعرف بعبَّاد، مدنيٌّ نزَل البصرة.
          وقول عبد الرَّزَّاق: (فِي كُلِّ مَالٍ) رواه الإمام أحمدُ في «مسنده» عن عبد الرَّزَّاق: في كلِّ مال يقسم. ورواه إسحاقُ بن إبراهيم عنه فقال: في الأموال ما لم يقسَم، فإذا قُسمت الحدودُ وعَرف النَّاس حقوقهم فلا شُفعة.
          وفيه: جواز بيع المُشاع.
          وقوله: (فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ) لفظٌ عامٌّ، ومرادُه: العَقار كما سلف، ولا شُفعة عندنا في البئر وفاقًا لمالك وخلافًا لأبي حنيفة، وقوَّاه الخطَّابيُّ لانتفاء قسمته. والحدود: هي الَّتي تمسكُ الماء بين الأرَضين، سُمِّيت بذلك لمنعها الماء.
          وقوله: (وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ) يحتجُّ به مَنْ يرى الشُّفْعة واجبةً في الطَّريق إذا كانت واحدة، وهو حكمُ الظَّاهر، وتأوَّله مَنْ لا يراه على أنَّه أراد به الطَّريق في المُشاع دون المقسوم، وذلك أنَّ الطريق المُشاع مُشاعٌ بين الشُّركاء، فإذا قُسم بينهم مُنع كلُّ واحد أن يطرق في حقِّ صاحبه، وجمهور العلماء على أنَّه لا شفعة إلَّا في المُشاع لحقِّ ضرر الشَّركة، مِنْهم الأربعة خلا أبا حنيفة والأوزاعيَّ وإسحاقَ وأبا ثور، وَرُوِيَ عن عمرَ وعثمانَ وسعيدِ بن المسيِّب وسليمانَ بن يَسارٍ ورَبيعةَ وأبي الزِّناد وعمرَ بن عبد العزيز والزُّهْريِّ ويحيى الأنصاريِّ والمُغيرةِ بن عبد الرَّحمن.
          وخالف بعضُ أهل العراق، فقال: تجب الشُّفعة بالجوار الملاصِق، وهو قول الثَّوريِّ وشُريح، فيما حكاه ابن أبي شَيبة وعمرو بن حُرَيْث. وقال إبراهيم: الشَّريك أحقُّ، فإن لم يكن شريكٌ فالجار. ورواه الشَّعبيُّ مرفوعًا مرسلًا، وكذا عن الحسن. وقال ابن أبي شيبة: حدَّثنا غُنْدَرٌ، عن شُعْبَة قال: سألتُ الحَكم وحمَّادًا عن الشُّفعة فقالا: إن كانت الدَّار إلى جنب الدَّار ليس بينهما طريق ففيها شُفعة. وروى الطَّحاويُّ عن عمر أنَّه كتب إلى شُريح أن يقضيَ بالشُّفعة للجار الملاصق.
          واحتجُّوا بقوله _◙ _: ((الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ)) وأباه أكثرُهم وقالوا: معناه أحقُّ بمواساته وما توجبُه المجاورة. وحديثُ الباب حُجَّة لهم: (إِذَا صُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلاَ شُفْعَةَ) لأنَّه حينئذٍ يصير جارًا فلم يجعل له شفعة بجواره، وحديث: ((الجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ مَا كَانَ)) وإن حسنَّه التِّرمِذيُّ، ونقل عن البخاريِّ تصحيحه مِن طريق الشَّريد بن سُوَيْد قلت: ((يَا رَسُولَ اللهِ، أَرْضٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شِرْكٌ وَلَا قَسْمٌ إِلَّا الْجِوَارُ، فَقَالَ ◙...)) الحديثَ. قال عبد الله الرَّاوي عن عمرو قلتُ لعمرو: ما سَقَبُه؟ قال: الشُّفعة، فقلت: زعم النَّاس أنَّها الجوار، قال: النَّاس يقولون ذلك، فهذا راويه لا يرى الشُّفعة بالجوار، ولا يرى لفظ ما روى يقتضيه.