التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إذا اشترى شيئًا لغيره بغير إذنه فرضي

          ░98▒ بَابُ: إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَرَضِيَ. /
          2215- ذَكر فيه حديثَ ابن عمر في الثَّلاثة الَّذين سُدَّ عليهم الغارُ.
          وفيه: الإخبار عن متقدِّمي الأُمم وذكرُ أعمالهم، لترغبَ أمَّتُه في مثلها، ولم يكن يتكلَّم بشيء إلَّا للفائدة، وإذا كان مزحُه حقًّا فما ظنُّك بإخباره؟!
          وفيه: سؤال الرَّبِّ _جلَّ جلاله_ بإنجاز وعدِه قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2] وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4].
          وقوله: (آوَاهُمُ) وفي رواية: ((فَأَوَوْا)) هو: بقصر الهمزة، ويجوز مدُّها كما سلف إيضاحُه في العلم مع بيان الأشهَر فيه، أي: انضمُّوا إلى الغار وجعلوه مأوًى.
          وفيه التوسُّل بصالح الأعمال. وفيه إثبات كرامات الأولياء والصَّالحين.
          وقوله: (فَأَجِيءُ بِالحِلاَبِ) يعني الإناء الَّذي يُحلب فيه، وقيل: اللَّبن.
          وقوله في رواية أخرى: ((لاَ أَغْبِقُ)) هو الغَبوق، وهو اسم للشَّراب المعدِّ للعشيِّ.
          وقوله أيضًا: (دَأْبِي وَدَأْبَهُمَا) أي شأني وشأنهما. قال الفرَّاء: أصله مِنْ دَأَبْتُ، إلَّا أنَّ العرب حوَّلت معناه إلى الشَّأن، يُقال: دَأْبٌ وَدَأَبٌ، وقيل: الدَّأَب الفعل، وهو نحوُ الأوَّل.
          وقوله أيضًا: (فَنَأَى بِي طَلَبُ الشَّجَرِ يَوْمًا) مَنْ يجعل الهمزة قبل الألف، ومِنْهم مَنْ يجعلها بعده، وهما لغتان وقراءتان، وهو البُعد أي: بَعُدَ بي طلب الشَّجر الَّتي ترعاها الإبل.
          وقوله أيضًا: (لَمْ أَرُحْ) هو مِنَ الرَّواح، وهو ما بعد الزوال.
          وقوله هنا: (يَتَضَاغَوْنَ) أي يصيحون مِنَ الجوع ويبكون ويشْكون، والضُّغاء: _ممدودٌ مضموم الأوَّل_ صوت الذِّلَّة والفاقة.
          و(فُرْجَةً) بضمِّ الفاء وفتحها، وفي الغَمِّ مثلَّثة، وقال ابن فارسٍ وغيره: الفُرْجة في الحائط كالشَّقِّ، والفُرْجة: انفراج الكروب.
          وقوله: (فَافْرُجْ) قال ابنُ التِّين: هو بضمِّ الرَّاء في أكثر الأمَّهات، وذكر الجوهريُّ أنَّه بكسرها.
          وقوله: (حَتَّى تُعْطِيَهَا مئة دِينَارٍ) وذكر البخاريُّ بعد هذا أنَّه دفع إليها عشرين ومئةً.
          وفيه فضلُ الوالدين والصَّبرُ على المكروه.
          ومعنى: (لاَ تَفُضَّ الخَاتَمَ) أي لا تكسرْه، وقيل: الفضُّ: التَّفرُّق، والبِكر أشبهُ بالخاتَم مِنَ الثَّيِّب، لأنَّ الخاتَم عُذْرَتُها.
          ومعنى: (إِلَّا بِحَقِّهِ) بوجهٍ شرعيٍّ، وهو النِّكاح.
          وفيه: قَبول التَّوبة، وأنَّ مَنْ أصلح فيما بقي غُفر له، وأنَّ مَنْ همَّ بسيِّئة فتركها ابتغاءَ وجهه كُتب له أجرُها، {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحمن:46].
          فصل: و(الفَرَْقِ) بفتح الرَّاء وسكونها وهو ثلاثة آصُعٍ، وقال هنا: (بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ)، وقال في المزارعة: ((فَرَقُ أَرُزٍّ)). وفيه جوازُ الإجارة بالطَّعام المعلوم.
          وقوله: (فَزَرَعْتُهُ، حتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْه بَقَرًا وَرَاعِيهَا): هو موضع التَّرجمة، وبه استدلَّ الحنفيَّة وغيرُهم ممَّن يجيز بيع مال الإنسان والتَّصرُّفَ فيه بغير إذنه إذا أجازه المالك بعدُ.
          وموضع الدِّلالة قوله: (فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حتَّى جَمَعْتُ مِنْه بَقَرًا)، وفي رواية: ((فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حتَّى كَثُرَتْ مِنْه الأَمْوَالُ)) مع أنَّه شرعُ مَنْ قبلَنا، وهل هو في شرعنا؟ لنا فيه خلافٌ شَهير، ومشهورُ مذهبِ مالك أنَّ له الخيارَ، واستدلَّ به أحمدُ كما قاله الخطَّابيُّ على أنَّ المُسْتَودَع إذا اتَّجر في مال الوَديعة ورَبِحَ أنَّ الرِّبح إنَّما يكون لربِّ المال، ولا دِلالة فيه، لأنَّ صاحب الفَرَقِ إنَّما تبرَّع بفعله وتقرَّب به إلى الله، وقد قال: إنَّه اشترى بقرًا، وهو تصرُّف مِنْه في أمر لم يوكِّله به فلا يستحقُّ عليه ربحًا. والأشبَه بمعناه أنَّه قد تصدَّق بهذا المالِ على الأجير بعد أن اتَّجر فيه وأنماه.
          والَّذي ذهب إليه أكثرُ الفقهاء في المُسْتَوْدَع إذا اتَّجر بمال الوديعة والمضارِبِ إذا خالف ربَّ المال فربحا أنَّه ليس لصاحب المال مِن الرِّبح شيءٌ. قال ابنُ التِّين: وقوله في المضارِب غيرُ بيِّن، لأنَّه مال مأذون فيه، فربحُه عند مالك لربِّه، بخلاف الوديعة، وعند أبي حنيفة المضارِب ضامنٌ لرأس المال، والرِّبح له ويتصدَّق به، والوضيعة عليه.
          وقال الشَّافعيُّ: إن كان اشترى السِّلعة بعين المال فالبيع باطلٌ، وإن كان بغير عينه فالسِّلعة ملكُ المشتري، وهو ضامن للمال. ومذهبُ مالكٍ أنَّ الرِّبح للمودَع كيفما اشترى إن اشترى لنفسه ولا دليلَ عليه مِنَ الحديث لأنَّه اشتراه لربِّ الفرَق.
          وقال ابن بَطَّال: أجمعَ الفقهاء أنَّه لا يلزمه شراءُ الرَّجل لغيره بغير إذنه إلَّا حتَّى يُعلِمه ويَرضى به، فيلزمه بعد الرِّضا به إذا أحاط علمًا به، واختَلف ابن القاسم وأشهبُ فيما إذا أودع رجلٌ رجلًا طعامًا فباعه المودَع بثمن فرضي المودِع، فقال ابن القاسم: له الخيار، إن شاء أخذ مثل طعامه مِنَ المودَع، وإن شاء أخذ الثَّمن بالَّذي باعه به، وقال أشهب: إن رضي بذلك فلا يجوز، لأنَّه طعام بطعامٍ فيه خيار.
          وهذا الحديث دلَّ على صحَّة قول ابن القاسم، لأنَّ فيه أنَّ الَّذي كان تَرَكَ الأجيرُ فَرَقُ ذُرَةٍ، وأنَّه زرَعه له الَّذي بقي عنده حتَّى صار مِنْه ما ذكر، فلو كان خيار صاحب الطَّعام يحرم عليه ما جاز له أخذُ البقر وراعيها، لأنَّ أصلها كان مِنْ ذلك الفَرَقِ المزروع له بغير علمه، وقد رضي _◙_ ذلك، وأقرَّه وأخبر أنَّ الَّذي انطبق عليه الغارُ توسَّل بذلك إلى ربِّه، ونجَّاه به.
          فدلَّ هذا الحديثُ أنَّه لم يكن أخذ الأجير لذلك لازمًا إلَّا بعد رضاه بذلك لقوله: (أَتَسْتَهْزِئُ بِي؟) وإنكاره ما بذل له عوضًا مِنَ الفرق، ولذلك عظُمت المثوبة في هذه القصَّة، وظهرت هذه الآية مِنْ أجل تطوُّع الزَّارع للفَرَق بما بذل له، وأنَّه فعلَ أكثر ممَّا كان يلزمه في تأدية ما عليه، فشكر اللهُ له ذلك.
          وقد اختَلف العلماء في الطَّعام المغصوب يزرعُه الغاصب، فذكر ابن المنذِر أنَّ قول مالك والكوفيِّين أنَّ الزرع للغاصب، وعليه مثلُ الطعام الَّذي غَصب، لأنَّ كلَّ مَنْ تعدَّى على كلِّ ما لَهُ مثلٌ فليس عليه غيرُ مثل الشَّيء المتعدَّى عليه، غير أنَّ الكوفيِّين قالوا: إنَّ زيادة الطَّعام حرام على الغاصب لا يحلُّ له وعليه أن يتصدَّق به.
          وقال أبو ثور: كلُّ ما أخرجت الأرضُ مِنَ الحنطة فهي لصاحب الحنطة، وسيأتي اختلافهم فيمَنْ تعدَّى على نقدٍ فتَجَرَ به بغير إذن صاحبه في حديث ابن عمر هذا في الإجارة حيث ذكره. ولنذكر هنا نَبْذة مِنْه، فقالت طائفة: يطيب له الرِّبح إذا ردَّ رأس المال إلى صاحبه سواءٌ كان غاصبًا للمال أو كان وديعةً عندَه، متعدِّيًا فيه، هذا قولُ عطاءٍ ومالكٍ واللَّيثِ والثَّوريِّ والأوزاعيِّ وأبي يوسف، واستحبَّ مالكٌ / والثَّوريُّ والأوزاعيُّ تنزُّهَه عنه، ويتصدَّقَ به. وقالت طائفة: يردُّ المال ويتصدَّق بالرِّبح ولا يطيب له مِنْه شيء. هذا قول أبي حنيفة ومحمَّد بن الحسن وزُفَرَ، وقالت طائفة: الرِّبح لربِّ المال، وهو ضامنٌ لما تعدَّى فيه، هذا قولُ ابن عمر وأبي قِلابة، وبه قال أحمد وإسحاق، ثمَّ ادَّعى ابن بَطَّال أنَّ أصحَّ هذه الأقوالِ أنَّ الرِّبح للغاصب والمتعدِّي.