التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب أمر النبي اليهود ببيع أرضيهم

          ░107▒ بَابُ: أَمْرِ النَّبيِّ صلعم اليَهُودَ بِبَيْعِ أَرَضِيهِمْ حِينَ أَجْلاَهُمْ.
          (فِيهِ المَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).
          كذا في البخاريِّ هاهنا مِن غير زيادةٍ، وربَّما سقط في بعض النُّسخ، والحديثُ الَّذي أشار إليه خرَّجه في آخر الجهاد، في باب: إخراج اليهود مِنْ حديث اللَّيث عن سعيد المَقْبُريِّ عن أبيه عن أبي هريرة فذكره.
          وفيه: ((فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجَلِّيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)).
          ولابن إسحاق: ((فسألوا رسول الله صلعم أن يُجْليَهم ويكفَّ عن دمائهم، على أنَّ ما حملت الإبلُ مِنْ أموالهم إلَّا الحَلْقةَ، فاحتملوا ذلك وخرجوا إلى خيبرَ وخلَّوُا الأموالَ لرسول الله صلعم فكانت له خاصَّة يضعُها حيث يشاء، فقسَمها على المهاجرين، وهؤلاء اليهودُ الَّذين أجلاهم هم بنو النَّضير، وذلك أنَّهم أرادوا الغدرَ برسول الله صلعم وأن يُلقوا عليه حجرًا، فأوحى الله تعالى إليه بذلك فأمر بإجلائهم، وأن يسيروا حيث شاؤوا، فلمَّا سمع المنافقون بذلك بعثُوا إلى بني النَّضير: اُثبتوا وتمنَّعوا، فإنَّا لن نُسْلِمَكم، إنْ قوتلتم قاتلْنا معكم، وإن خَرجتم خرجنا معكم. فتربَّصوا لذلك مِنْ نصرِهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرُّعبَ، فسألوا رسول الله صلعم أن يُجْليَهم ويكفَّ عن دمائهم، فأجابهم بما أسلفناه)).
          فإن قلتَ: هذا معارَض بحديث المَقْبُريِّ عن أبي هريرة، لأنَّ فيه: أنَّه ◙ أمرَهم ببيع أرَضيهم، وفي حديث ابن إسحاق: أنَّهم تركوا أرضهم بغير عوضٍ، وحلَّت لرسول الله صلعم، فما وجهُ ذلك؟
          فالجواب: أنَّه ◙ إنَّما أمر ببيع أرَضيهم _والله أعلم_ قبل أن يكونوا له حربًا، فكانوا مالكين أرَضيهم، وكانت بينهم وبين رسول الله صلعم مسالمةٌ وموافقةٌ للجيرة، فكان يمسك عنهم لإمساكهم عنه، ولم يكن بينهم عهدٌ، ثمَّ أطلعه الله تعالى على ما يؤمِّلون مِنَ الغدر به، وقد كان أمرُه لهم ببيع أرَضيهم وإجلائهم قبل ذلك فلم يفعلوا، لأجل قول المنافقين لهم السَّالف: اثبتوا، فإنَّا لن نُسْلِمَكم. فوثقوا بقولهم وثبتوا ولم يخرجوا، وعزموا على مقاتلته، فصاروا له حربًا، فحلَّت بذلك دماؤهم وأموالهم، فخرج إليهم ◙ وأصحابُه في السِّلاح وحاصروهم.
          فلما يئسوا مِنْ عون المنافقين ألقى الله في قلوبهم الرُّعبَ، وسألوا رسول الله صلعم الَّذي كان عرضَه عليهم قبل ذلك، فلم يُبح لهم بيعَ الأرض، وقاضاهم على أن يجليَهم ويتحمَّلوا بما استقلت به الإبل، على أن يكفَّ عن دمائهم وأموالهم، فجلَوا عن ديارهم، وكفى الله المؤمنين القتالَ، وكانت أرَضُوهم وأموالهم ممَّا لم يوجَف عليها بقتالٍ ممَّا انجلى عنها أهلُها بالرُّعب، فصارت خالصة لرسول الله صلعم يضعُها حيث شاء.
          قال ابن إسحاق: ولم يُسلِم مِنْ بني النَّضير إلَّا رجلان أسلَما على أموالهما فأحرزاها، قال: ونزلتْ في بني النَّضير سورةُ الحشر إلى قوله: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} [الحشر:3] أي: بالقتل والسَّبي، ولهم مع ذلك في الآخرة عذابُ النَّار. وقوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2] يعني: الشَّام الَّذي جلا أكثرُهم إليه، لأنَّه روي في الحديث ((أَنَّهُ تَجِيءُ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ إِلَى الشَّامِ))، ولذلك قيل في الشَّام: إنَّها أرضُ المحشَر.