التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إثم من باع حرًا

          ░106▒ بَابُ: إِثْمِ مَنْ بَاعَ حُرًّا.
          2227- ذكر فيه حديثَ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، عَنِ النَّبيِّ صلعم قَالَ: قَالَ اللهُ تعالى: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمنه، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْه وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ).
          هذا الحديث مِنْ أفراده، قال البَيْهَقيُّ: رواه النُّفَيليُّ عن يحيى بن سليم فقال: عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة. وشيخ البخاريِّ فيه بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ، وهو بِشر بن عُبَيْس بن مرحومٍ، فمرحومٌ جدُّه مولى آل معاويةَ، مات سنة ثمان وثلاثين أو ثلاثين ومئتين، انفرد به البخاريُّ عن الخمسة.
          قال البَيْهَقيُّ في «المعرفة»: رُوِّينا في الحديث الثَّابت عن المَقْبُريِّ عن أبي هريرة مرفوعًا: ((قَالَ اللهُ ╡: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ..)).
          إذا عرفتَ ذلك فالرَّبُّ _تعالى_ خصمٌ لجميع الظَّالمين، إلَّا أنَّه أراد التَّشديد على هؤلاء الثَّلاثة كما نبَّه عليه ابنُ التِّين، وقد ذكر في الغادر أنَّه يُنشر له لواءٌ يومَ القيامة، والخصمُ يقع على الواحد والاثنين والجماعة بلفظ واحد، وكذا المذكَّر والمؤنَّث.
          وقوله: (بَاعَ حُرًّا) أي عالمًا، فإن كان جاهلًا فلا يدخل في هذا.
          ومعنى: (أَعْطَى بِي ثمَّ غَدَرَ) يريد نَقَضَ عهدًا عاهده عليه، قاله ابن بَطَّال. وقال ابن الجوزيِّ: يعني حلف بي، لأنَّه اجترأ على الله.
          وقوله: (وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا...) إلى آخره، هو داخل في معنى (بَاعَ حُرًّا) لأنَّه استخدمه بغير عِوَض، وهذا عين الظُّلم، وإثمه أعظمُ الإثمِ فيمَنْ باع حرًّا، لأن المسلمين أَكْفاء في الحرمة والذِّمَّة، وللمسلم على المسلم أن ينصرَه ولا يظلمَه، وأن ينصحَه ولا يُسلمَه، وليس في الظُّلم أعظمُ مِنْ أن يستعبده أو يعرِّضه إلى ذلك، ومَنْ باع حرًّا فقد منَعه التَّصرُّفَ فيما أباح الله تعالى له، وألزَمه حالَ الذِّلَّة والصَّغار، فهو ذنبٌ عظيم ينازع الله به في عباده.
          قال ابنُ المنذِر: وكلُّ مَنْ لقيتُ مِنْ أهل العلم على أنَّه مَنْ باع حرًّا لا قَطْعَ عليه ويعاقَب، وَيُرْوى عن ابن عبَّاس قال: يُردُّ البيعُ ويُعاقَبان. وروى خِلَاسٌ عن عليٍّ أنَّه قال: تُقطع يدُه. والصَّواب قولُ الجماعة، لأنَّه ليس بسارقٍ، ولا يجوز قطعُ غيرِ السَّارق.
          وقال ابنُ حزمٍ: لا يجوز بيعُ الحرِّ، وفيه خلافٌ قديمٌ وحديثٌ، نُورد مِنْه _إن شاء الله_ ما تيسَّر ليعلمَ مدَّعي الإجماعِ فيما هو أخفى مِنْ هذا أنَّه غيرُ جيِّد، ثمَّ ذكر عن عبد الله بن بُرَيْدةَ أنَّ رجلًا باع نفسه، فقضى عمرُ بن الخطَّاب بأنَّه عبدٌ كما أقرَّ على نفسه، وجعلَ ثمنَه في سبيل الله.
          وعند ابن أبي شَيبةَ عن شَريكٍ عن الشَّعبيِّ عن علي قال: إذا أقرَّ على نفسه بالعبوديَّة فهو عبدٌ. ومِنْ طريق سعيد بن منصور حدَّثنا هُشَيمٌ، أخبرنا مُغيرةُ بن مِقْسَمٍ عن النَّخعيِّ فيمَنْ ساقَ إلى امرأته رجلًا، فقال إبراهيم: هو رهنٌ بما جُعل فيه حتَّى يفتكَّ نفسَه.
          وعن زُرارةَ بن أَوفى قاضي البصرة التَّابعيِّ أنَّه باع حرًّا في دَينٍ عليه، قال: وقد رُوِّينا هذا القولَ عن الشَّافعيِّ، وهي قولةٌ غريبةٌ لا يعرفها مِنْ أصحابه إلَّا مَنْ تبحَّر في الآثار.
          قلتُ: قد أخرجتُها وذكرتُها في الشُّروح قال: وهذا قضاءُ عمرَ وعليٍّ بحضرة الصَّحابة ولم يعترضْهم معترِضٌ.
          قال: وقد جاء أثرٌ في أنَّ الحرَّ يُباع في دَينه في صدر الإسلام، إلى أن أنزل الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]. روى دينارٌ عن أبي سعيد الخُدْريِّ ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم بَاعَ حُرًّا أَفْلَسَ)) ورواه الدَّارَقُطْنيُّ مِنْ حديثِ حجَّاجٍ عن ابن جُريجٍ، فقال: عن أبي سعيدٍ أو أبي سعدٍ، على الشَّكِّ.
          ورواه البزَّار مِنْ حديث مسلم بن خالدٍ الزَّنْجيِّ عن زيد بن أسلمَ عن عبد الرَّحمن بن البَيْلَمانيِّ، عن سُرَّفٍ أنَّه اشترى مِنْ أعرابيٍّ بعيرين فباعهما، فقال صلعم: ((يَا أَعْرَابِيُّ، اذْهَبْ فَبِعْهُ حتَّى تَسْتَوْفِيَ حَقَّكَ)) فأعتقه الأعرابيُّ.
          ورواه ابن سعدٍ عن أبي الوليد الأزرقيِّ عن مسلمٍ وضعَّفه عبدُ الحقِّ بأن قال: مسلمٌ وعبد الرَّحمن بن زيد بن أسلمَ ضعيفان وليس بجيِّدٍ، لأنَّ مسلمًا وثَّقه غيرُ واحدٍ وصحَّح حديثَه، وعبد الرَّحمن لا مدخلَ له في هذا، لا جَرَمَ أخرجه الحاكمُ مِنْ حديث بُنْدار، حدَّثنا عبد الصَّمد بن عبد الوارث، حدَّثنا عبد الرَّحمن بن عبد الله بن دينارٍ، حدَّثنا زيد بن أسلمَ ثمَّ قال: على شرط البخاريِّ.
          قلتُ: قد يعارضُه ما في «مراسيل أبي داودَ» عن الزُّهْريِّ: كَانَ يَكون عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم دُيُونٌ عَلَى رِجَالٍ، مَا عَلِمْنَا حُرًّا بِيعَ فِي دَيْنٍ.
          فائدة: أسلفنا أنَّ الخَصْم يقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكَّر والمؤنَّث بلفظٍ واحد، تقول: هو خَصْمٌ، وهما خَصْمٌ، وهم خَصْمٌ، وهو قول ثعلبٍ في «فصيحه». وقال الهَرَويُّ: الخَصْم _بالفتح_: الجماعة مِنَ الخصوم، والخِصْم _بكسر الخاء_: الواحد. وقال الخطَّابيُّ: الخَصِم هو المولَع بالخصومة الماهرُ فيها، وعن يعقوب: يُقال للخصم خَصِمٌ. وفي «الواعي»: خَصِيم / للمخاصِم والمخاصَم. وقال الفرَّاء: كلام العرب الفصحاء ألَّا يثنُّوا الاسمَ إذا كان مصدرًا ولا يجمعونه، ومِنْهم مَنْ يثنِّيه ويجمعُه، فالفصحاء يقولون: هذا خصمٌ في جميع الحالات، والآخرون يقولون: هذان خصمان، وهم خُصوم، وخُصَماء، وكذا مَا أشبهه.