التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه

          ░100▒ بَابُ: شِرَاءِ المَمْلُوكِ مِنَ الحَرْبِيِّ وَهِبَتِهِ وَعِتْقِهِ.
          (وَقَالَ النَّبيُّ صلعم لِسَلْمَانَ: كَاتِبْ. وَكَانَ حُرًّا، فَظَلَمُوهُ وَبَاعُوهُ، وَسُبِيَ عَمَّارٌ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلاَلٌ. وَقَالَ اللهُ تعالى: {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} إِلَى قَوْلِهِ: {يَجْحَدُونَ} [النحل:71].
          2217- ثمَّ ساق حديثَ أبي هريرة في إعطاء الكافرِ آجَرَ سارةَ زوجةَ إبراهيم صلعم.
          2218- وحديثَ عائشة: (اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلاَمٍ...) الحديثَ بطوله. وقد سلف [خ¦2053].
          2219- وحديثَ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، (قَالَ عَبْدُ الرَّحمن بْنُ عَوْفٍ لِصُهَيْبٍ: اتَّقِ اللهَ وَلاَ تَدَّعِ إِلَى غَيْرِ أَبِيكَ، فَقَالَ صُهَيْبٌ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا، وَأَنِّي قُلْتُ ذَلِكَ وَلَكِنِّي سُرِقْتُ وَأَنَا صَبِيٌّ).
          2220- وحديثَ حَكيم بن حِزام: (يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ أَوْ أَتَحَنَّتُ بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ، هَلْ لِي فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ حَكِيمٌ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أسْلَفتَ مِنْ خَيْرٍ).
          الشَّرح: التَّعليق الأوَّل أسنده ابن حِبَّانَ والحاكمُ مِنْ حديث سِمَاكِ بن حَرْبٍ، عن زيدِ بن صُوحَانَ، فذكره، قال الحاكم: حديثٌ صحيحٌ عالٍ في ذكر إسلام سلمانَ.
          وفيه: ((حتَّى لقيني ركبٌ مِنْ كلبٍ فسألتهم، فلما سمعوا كلامي حملوني حتَّى أتَوا بلادهم فباعوني، فقال ◙: كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ)) وأسنده البزَّار أيضًا مِنْ حديث محمودِ بن لَبِيدٍ، عن ابن عبَّاس، فذكره مطوَّلًا. وعند البخاريِّ: ((حدَّثنا الحسن، حدَّثنا مُعْتَمِرٌ، حدَّثنا أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ تَدَاوَلَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ، مِنْ رَبٍّ إِلَى رَبٍّ)) وسيأتي طرفٌ مِنْه في الفضائل [خ¦3946].
          وقوله: (وَسُبِيَ عَمَّارٌ وَصُهَيْبٌ وَبِلاَلٌ) يعني أنَّه كان في الجاهليَّة يسبي بعضُهم بعضًا ويُمْلَكون بذلك، ورُوِّينا عن ابن سعد بإسناده عن حمزةَ بن صُهيب عن أبيه قال: إنِّي رجلٌ مِنَ العرب مِنَ النَّمِر بنِ قاسط، ولكن سُبيتُ، سَبتني الرُّوم غلامًا صغيرًا بعد أن عَقَلت أهلي وقومي، وعرفتُ نسبي.
          ومعنى الآية الَّتي ساقها: أنَّ الله فضَّل المُلَّاك على مماليكهم، فجعل المملوكُ لا يقوى على ملْكٍ مع مولاه، واعلم أنَّ المالك لا يُشْرِك مملوكَه فيما عنده، وهما مِنْ بني آدمَ، فكيف تجعلون بعضَ الرِّزق الَّذي رزقكم الله لله وبعضَه لأصنامكم، فتُشركون بين الله وبين الأصنام، وأنتم لا ترضَون ذلك مع عبيدكم لأنفسكم؟! نبَّه عليه ابنُ التِّين. وقال ابن بَطَّال: إنَّما تضمَّنت التَّقريع للمشركين والتَّوبيخ لهم على تسويتهم عبادةَ الأصنام بعبادة الربِّ تعالى، فنبَّههم _تعالى_ على أنَّ مماليكهم غيرُ مساوين لهم في أموالهم، فالله _تعالى_ أَولى بإفراد العبادة، وألَّا يُشرَك معه أحدٌ مِنْ عبيده، إذ لا مالك على الحقيقة سواه، ولا يستحقُّ الإلهيَّةَ غيرُه.
          وقال الضَّحَّاك: هو مثل لله ولعيسى بن مريمَ، أي أنتم لا تفعلون هذا لغيركم، فكيف ترضَون لي باتِّخاذ بشرٍ ولدًا؟!
          وقوله: {أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ} [النحل:71] أي: فبأنْ أنعمَ الله عليهم جحدوا النِّعمة، وجعلوا ما رزقهم لغيره. وقيل: المعنى: فبأنْ أنعم الله عليهم بالبراهين جَحدوا نعمَه.
          وغرضُ البخاريِّ في هذا الباب إثباتُ ملكِ الحربيِّ والمشرك، وجوازِ تصرُّفه في ملكه بالبيع والهِبة والعِتق وجميع ضروب التَّصرُّف، إذ أقرَّ الشَّارع سلمانَ عند مالكه مِنَ الكفَّار، فلم يزُلْ ملكُه عنه، وأمرَه أن يُكاتِب، وقد كان حرًّا، وأنَّهم ظلموه وباعوه، ولم ينقضْ ذلك ملكَ مالكه، وكذلك كان أمرُ عمَّار وصُهيب وبلال، باعوهم مالكوهم الكفَّار مِنَ مسلمين، واستحقُّوا أثمانهم، وصاروا ملكًا لهم، ألا ترى أنَّ إبراهيم قَبِلَ هبةَ الملكِ الكافر، وأنَّ عبد بن زَمْعةَ قال لرسول الله صلعم: ((هَذَا ابْنُ أَمَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ)) فأثبت لأبيه أمَةً وملكًا عليها في الجاهليَّة، فلم ينكر ذلك.
          وسماعُه الخصامَ في ذلك دليلٌ على تنفيذ عهد المشرك والحُكم به أن يحتكم فيه للمسلمين، ولذلك جوَّز _◙_ عِتق حَكيم بن حِزام وصدقتَه في الجاهليَّة، ونبَّه على عِتق القرابة بحكم الشَّارع في قضائه لأحدهما في قصَّة سعد، بناءً على أنَّ مَنْ مَلك ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فهو حرٌّ.
          فإن قلتَ: كيف جاز لليهوديِّ ملكُ سلمانَ وهو مسلم، ولا يجوز للكافر ملكُ مسلم؟ قلت: أجاب عنه الطَّبَريُّ بأنَّ حُكم هذه الشَّريعة أنَّ مَنْ غَلب مِنْ أهل الحرب على نفسِ غيره أو ماله، ولم يكن المغلوبُ على ذلك ممَّنْ دخل في الإسلام، فهو لغالبه ملكًا، وكان سلمانُ حين غُلب على نفسه لم يكن مؤمنًا، وإنَّما كان إيمانُه إيمانَ تصديق بالنَّبيِّ صلعم إذا بُعث مع إقامته على شريعة عيسى، فأقرَّه _◙_ مملوكًا لِمَنْ كان في يده، إذ كان حكمه ◙: أنَّ مَنْ أَسلم مِنْ رقيق المشركين في دار الحرب ولم يخرج مراغمًا لسيِّده فهو لسيِّده، أو كان سيِّدُه مِنْ أهل صُلح المسلمين فهو مملوك لمالكيه.
          وفيه مِنَ الفقه: إباحةُ المعاريض لقوله: (إِنَّهَا أُخْتِي)، وأنَّها مندوحةٌ عن الكذب. وفيه أنَّ أخوَّةَ الإسلام أخوَّةٌ يجب أن يُنتمى بها. وفيه الرُّخصة في الانقياد للظَّالم والغاصب، وقَبولُ صِلة السُّلطان الظَّالم، وقَبولُ هديَّة المشرك، وقد ترجم عليه هناك بذلك، وإجابةُ الدُّعاء بإخلاص النِّيَّة، وكفاية الرَّبِّ _جلَّ جلاله_ لِمَنْ أخلصها بما يكون نوعًا مِنَ الآيات، وزيادة في الإيمان، ومعونة على التَّصديق والتَّسليم والتَّوكُّل.
          وقوله: (فَغُطَّ) / أي صوَّت في نومه، يُقال مِنْه: غَطَّ غَطيطًا، ذكره ابن بَطَّال عن «الأفعال». وقال ابنُ التِّين: غطَّ، أي: خنق، وصُرع: أصابه مسُّ الشَّيطان. قال: وَضُبِطَ في بعض الأمَّهات بفتح الغين، وصوابه: ضمُّها، وكذلك هو في بعض الكتب.
          وقوله: (رَكَضَ بِرِجْلِهِ) أي ضرب بها. ومعنى: (كَبَتَ الكَافِرَ) صرعَه لوجهه، وكبتَ اللهُ العدوَّ أيضًا ردَّه خائبًا، وقيل: أذلَّه وأخزاه، وقيل: أصله كَبَدَ أي: بلغ الهمُّ كبده، فأبدل مِنَ الدَّال تاء، وقيل: معناه: ضربه وأذلَّه، والمعاني متقاربة. يُقال: إنَّ الله كشف لإبراهيم حتَّى رأى ذلك معايَنة، وأنَّه لم ينَل مِنْها شيئًا لما كان عليه مِنَ الغيرة. وفيه ابتلاءُ الصَّالحين، لرفع درجاتهم.
          ومعنى: (أَخْدَمَ) أعطى خادمًا.
          تنبيهاتٌ: أحدها: أسلم بلال وسيِّدُه كافر وهو بدار الحرب، فثبت ولاؤه عند مالكٍ وابن القاسم للصِّدِّيق، وقال أشهب: هو حرٌّ بنفس إسلامه، فلا وَلاء لأبي بكرٍ فيه. وعمَّار هو ابن ياسرٍ أبو اليَقْظان مولى بني مَخْزوم، قُتل بصِفِّين وهو ابن ثلاثٍ وتسعين، وصُهَيب: هو ابن سِنانٍ أبو يحيى مولى ابن جُدْعانَ القُرَشيُّ.
          ثانيها: (آجَرَ) بهمزة ممدودة، وقُلبت هاءً فصارت: هاجر، وأصل المادَّة: التَّرك، وكانت مِنْ حَفْنَ مِنْ كُوْرَةِ أَنْصِنَا.
          و(القَرْيَةَ) جمعها قرى، سُمِّيت بذلك لاجتماع النَّاس فيها، مِنْ قَرَيْتُ الماءَ في الحوضِ أي: جمعتُه. قال الدَّاوُديُّ: يقع على المدن الصِّغار والكبار.
          وقوله: (مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي) يريد في الإسلام، وهي مِنَ المعاريض، وفرَّ مِنْ زوجتي لذلك، لأنَّ الزوج قد يُدفع بالقتل بخلافِ الأخ. وقال الدَّاوُديُّ: فعلَه خوفًا مِنْ تغلُّبِه عليها. وستأتي زيادةٌ على ذلك.
          وفيه أنَّ مَنْ قال لزوجته: أختي، ولم ينوِ شيئًا لا يكون طلاقًا، وكذا لو قال: مثلُ أختي لا يكون ظِهارًا، وفيه: هديَّةُ المشرِك للمسلم. وفيه مستنَدٌ لِمَنْ يقول: إنَّ طلاق المكرَهِ لا يقع، وليس ببيِّن.
          وقولها: (وَأَحْصَنْتُ) أي عَفَفْتُ، وقال الدَّاوُديُّ: أَعْفَفْتُ، ولا يُعرف هذا الفعلُ رباعيًّا، وإنَّما هو ثلاثيٌّ.
          قولها: (إِنْ يَمُتْ يُقَالُ هِيَ قَتَلَتْهُ) فيه خوفُ سارةَ أن يُنسب إليها قتلُه. وفيه أخذُ الحذَر مع الإيمان بالقدَر.
          وقوله: (مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ إِلَّا شَيْطَانًا) أي: لأجل الحيلولة الَّتي وقعت بينهما حالَ دونها إخوانُها مِنَ الشَّياطين، وجاء في بعض الرِّوايات لمَّا قُبِضتْ يدُه عنها قال لها: ((ادْعِي لِي)) فقال ذلك لئلَّا تتَحَدَّثَ بما ظهر مِنْ كرامتها، فيعظُمَ في نفوس النَّاس وتُتَّبع، فلبَّس على السَّامع فذَكر الشَّيطانَ.
          وقولُ ابنِ عَوْف لصُهَيب: (اتَّقِ اللهَ وَلاَ تَدَّعِ إِلَى غَيْرِ أَبِيكَ) أراد عبدُ الرَّحمن أن يدعوَه لأبيه إن عرَفه، ولم يُنسب إلى الرُّوم، لقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] فذَكر صُهَيب أنَّه لا يعرف أباه، وانتسب إلى مَواليه.
          وحديثُ حَكيم سلف في الزَّكاة.
          وقوله هنا: (كُنْتُ أَتَحَنَّتُ _أَوْ أَتَحَنَّثُ_ بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ) كذا في الأولى بالمثنَّاة. قال عِياضٌ: وهو غلطٌ مِنْ جهة المعنى، وأمَّا الرِّواية فصحيحةٌ، والوَهْمُ فيه مِنْ شيوخ البخاريِّ بدليل: (أَوْ أَتَحَنَّثُ) بعدَه على الشَّكِّ، والَّذي رواه الكافَّة بالمثلَّثة، وكذا قال ابنُ التِّين: ضُبِطَ في الأوَّل بالمثنَّاة، وصوابُه بالمثلَّثة كما في الثَّاني، أي: أتعبَّد، ولم يذكرْه أحدٌ مِنْ أهل اللُّغة بالمثنَّاة كما في حديث الوَحي: ((كَانَ يَأْتِي حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ)) أي: يتعبَّد، وقال أبو العبَّاس: أي: يفعل فعلًا يخرجُ به مِنَ الحِنْث، كتأَثَّم وتحرَّج، زاد القزَّاز: وتَحوَّب أي: ألقى الحُوبَ، وهو: الإثم والذَّنب، ويحتمل على تقدير الصِّحة أن يكون أصلُها مِنَ الحانوت أو الحانَة.
          قال ابن الأَثير: كانتِ العرب تُسمِّي بيوت الخمَّارين: الحَوانيت، والحانة مثلُه، فعلى هذا التقدير: أتحنَّت: أتجنَّب مواضعَ الخمَّارين والحانةَ.
          وفيه أنَّهم كانوا في الجاهليَّة على بقيَّة مِنْ دِين إبراهيمَ، وأنَّهم كانوا يصنعون شيئًا يريدون به وجهَ الله. وأنَّ ما أصابوا به مِنْ ذلك ثمَّ أسلمُوا كُتب لهم، لأنَّه لا يُضيع عملَ عاملٍ كمَنْ أحبط مَنِ ارتدَّ بعد الإسلام.
          رابعها: ذكر ابن قُتَيبة في «معارفه»: أنَّ القريةَ الأُرْدُنُّ، والملِكُ صاروقُ، وكانت هاجرُ لملِكٍ مِنْ ملوك القِبْط. وعند الطَّبَريِّ: كانت امرأةَ ملكٍ مِنْ ملوك مصرَ، فلمَّا قتله أهلُ عينِ شمسٍ احتملوها معهم، وزعم أنَّ الملِك الَّذي أراد سارةَ اسمُه سِنانُ بن عِلْوانَ أخو الضَّحَّاك.
          وذكر السهيلي في «روضه» أنَّ سارةَ هي بنتُ توبيل بن ناحورَ. وقيل: بنت هارانَ بن ناحورَ، وقيل: بنت هارانَ بن تارخَ، وهي: بنت أخيه على هذا، وأختُ لوط، قاله القُتَبيُّ في «المعارف»، والنقَّاش في «تفسيره»، قال: وذلك أنَّ نكاح بنت الأخ كان حلالًا إذ ذاك ثمَّ إنَّ النقَّاش ناقضَ ذلك، وقال في تفسير قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى:13] أنَّه يدلُّ على تحريم بنت الأخ على لسان نوح.
          قال السُّهيليُّ: وهذا هو الحقُّ، وإنَّما توهَّموا أنَّها بنتُ أخيه، لأنَّ هارانَ أخوه، وهو هارانُ الأصغرُ، وكانت بنتَ هارانَ الأكبرِ وهو عمُّه. وذكر أبو محمَّد عبدُ الملك بن هِشام في كتابه «التِّيجان»: أنَّ إبراهيم _◙_ خرجَ مِنْ مَدْيَنَ إلى مصرَ، وكان معه مِنَ المؤمنين ثلاثُ مئةٍ وعشرون رجلًا، ومصرُ مَلِكُها عمرُو بن امرئ القَيسِ بن بابلْيَونَ بن سبأ، وكان خالَّ إبراهيمَ ◙ لشدَّة إعجابه به، فوشى به حنَّاطٌ كان إبراهيمُ يمتارُ مِنْه، فأمَر بإدخال إبراهيمَ وسارةَ عليه، ثمَّ نحَّى إبراهيمَ وقام إلى سارة، فلمَّا صار إبراهيمُ خارج القصر جعله الله له كالقارورة الصَّافية، فرأى الملكَ وسارةَ وسمِع كلامهما، فهمَّ عمرٌو بسارةَ ومدَّ يده إليها فيبستْ، فمدَّ الأخرى فكذلك، فلمَّا رأى ذلك كفَّ عنها. قال: يا سارةُ هكذا نصيبُ الرِّجال معَك؟ قالت: أنا ممنوعة مِنَ الخلق إلَّا مِنْ بعلي إبراهيمَ فأمرَ بدخوله، فقال: لا تحدِّثْ _يا إبراهيمُ_ نفسَك بشيء، فقال: أيها الملك إنَّ الله _╡_ جعل قصرَك لي كالقارورة، فما خفي عليَّ شيءٌ ممَّا فعلتَ، فقال الملِكُ: لكما شأنٌ عظيمٌ يا إبراهيمُ. قال ابن هشام: وكان الحنَّاطُ أخبرَ الملِكَ بأنَّه رآها تطحَنُ، فقال الملك: يا إبراهيمُ ما ينبغي لهذه أن تخدُمَ نفسَها فأمر له بهاجَرَ.
          خامسها: / وقد أسلفتُ الإشارةَ إليه. قال ابن الجوزيِّ: على هذا الحديثِ إشكالٌ ما زال يختلجُ في صدري، وهو أن يُقال: ما معنى توريته ◙ عن الزَّوجة بالأخت، ومعلومٌ أنَّ ذِكْرها بالزَّوجيَّة أسلمُ لها، لأنَّه إذا قال: هذه أختي، قال زوِّجنيها، وإذا قال: امرأتي سكتَ هذا إن كان الملِك يعمل بالشَّرع، فأمَّا إذا كان كما وُصف مِن جَوره فما يبالي أكانت زوجةً أو أختًا، إلى أن وقع لي أنَّ القومَ كانوا على دين المجوسِ، وفي دينِهم أنَّ الأختَ إذا كانت زوجةً كان أخوها الَّذي هو زوجُها أحقَّ بها مِنْ غيره، فكأنَّ إبراهيمَ أراد أن يَستعصم مِنَ الجبَّار بذكر الشَّرع الَّذي يستعملُه، فإذا هو جبَّار لا يراعي جانبَ دينه. قال: واعتُرض على هذا بأنَّ الَّذي جاء بمذهب المجوس زَرَادُشْتُ، وهو متأخِّر عن هذا الزَّمن.
          والجواب: أنَّ لمذهب القوم أصلًا قديمًا ادَّعاه زَرَادُشْتُ، وزاد عليه خرافاتٍ أُخرَ، وقد كان نكاحُ الأخوات جائزًا مِنْ زمن آدمَ، ويُقال: إنَّ حُرمَتَه كانت على لسان موسى، قال: ويدلُّ على أنَّ دِينَ المجوس له أصلٌ ما رواه أبو داود أنَّه _◙_ أخذَ الجِزية مِنْ مجوسِ هجَرٍ، ومعلومٌ أنَّ الجِزية لا تُؤخذ إلَّا ممَّنْ له كتابٌ أو شُبهة كتابٍ، ثمَّ سألتُ عن هذا بعضَ علماء أهلِ الكتاب فقال: كان مِنْ مذهبِ القومِ أنَّ مَنْ له زوجةٌ لا يجوز أن تتزوَّج إلى أن يهلِك زوجُها، فلمَّا عَلِم إبراهيمُ هذا قال: هي أختي كأنَّه قال: إن كان الملك عادلًا فخطبها منِّي أمكنني دفعُه، وإن كان ظالمًا تخلَّصت مِنَ القتل، وقيل: إنَّ النُّفوسَ تأبى أن يتزوَّج الإنسانُ بامرأةٍ وزوجُها موجود، فعدَل عن قوله: زوجتي، لأنَّه يؤدِّي إلى قتلِه أو طردِه عنها، أو تكلُّفِه لفراقها.
          وقيل: إنَّ ذلك الجبَّارَ كان مِنْ سيرته أنَّه لا يَغلب الأخَ على أخته ولا يظلمُه فيها، وكان يغلبُ الزَّوج على زوجته، وعلى هذا يدلُّ مساقُ الحديث، حكاه القُرْطُبيُّ، قال: وإلَّا فما الفرقُ بينهما في حقِّ جبَّارٍ ظالم؟ وهذا مِنْ باب المعاريض الجائزة _كما سلف_ والحيلِ مِنَ التَّخلُّص مِنَ الظَّلَمة، بل نقول: إنَّه إذا لم يتخلَّص رجلٌ مِنَ الظَّلَمة إلَّا بالكذب الصُّراح جاز له أن يكذبَ، وقد يجبُ في بعض الصُّور بالاتِّفاق، لكونه يُنْجي نبيًّا أو وليًّا ممَّنْ يريد قتلَه، أو نجاةِ المسلمين مِنْ عدوِّهم.
          سادسها: قوله: (قَالَ الأَعْرَجُ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَالَتْ...) إلى آخره، هو موقوفٌ ظاهر، أو كذا ذكره أصحابُ الأطراف، وكأنَّ أبا الزِّناد روى القطعةَ الأولى مسندةً، وهذه موقوفةً.