التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب بيع الغرر وحبل الحبلة

          ░61▒ بَابُ: بَيْعِ الغَرَرِ وَحَبَلِ الحَبَلَةِ.
          2143- ذَكر فيه حديث ابن عمر (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الحَبَلَةِ، وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثمَّ تُنْتَجُ الَّتي فِي بَطْنِهَا).
          هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا، وكأنَّ البخاريَّ فَهم مِنْ بيعِ حَبل الحَبَلَةِ الغَرَرَ، وهو في أفراد مسلم مِنْ حديث أبي هريرة: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ)). وأخرجه ابن حِبَّانَ مِنْ حديث ابن عمر، وأخرجه أحمدُ مِنْ حديث ابن مسعودٍ. وفي الباب عن عِمرانَ بن حُصَين، وابن عبَّاس.
          وجاء تفسيرُ هذا الحديثِ كما ترى، وإن لم يكن مرفوعًا فهو مِنْ قول ابن عمرَ وحسبُك، وجعلَه الخطيب مدرَجًا مِنْ كلام نافعٍ، وبهذا التَّأويل قال مالكٌ والشَّافعيُّ، وهو الأجل المجهول، ولا خلافَ بين العلماء أنَّ البيعَ إلى هذا لا يجوز.
          وقال آخرون في تأويله: معناه بيعُ ولدِ الجنين الَّذي في بطن النَّاقة. وقال أبو عُبيد هو نِتاج النِّتاج، وبه قال أحمدُ وإسحاق، وهو أيضًا مجمَعٌ على بطلانه، لأنَّه بيعُ غَرَرٍ ومجهولٍ، وبيعُ ما لم يُخلق.
          و(حَبَلِ) بفتح الباء، وغَلِطَ مَنْ سكَّنَها، وهو مختصٌّ بالآدميَّات إلَّا ما ورد في هذا الحديث، قاله أبو عبيد وابن السِّكِّيتِ، وفي «المحْكَم»: كلُّ ذات ظُفْرٍ حُبلى. ونقله الجوهريُّ عن أبي زيد. وقال ابن دُريدٍ: يُقال لكلِّ أنثى مِنَ الإنس وغيرهم: حَبِلَتْ. وكذا ذكره الهَجَريُّ والأخفشُ في نوادرهما. وفي «الجامع»: امرأةٌ حبلى، وسِنَّوْرةٌ حبلى، وحكاه في «الموعَب» عن صاحب «العين» والكِسائيِّ.
          وقوله: (تُنْتَجُ) قال الجوهريُّ: نُتِجَتِ النَّاقةُ _على ما لم يُسمَّ فاعلُه_ تُنْتَجُ نَتَاجًا، وقد نَتَجَها أهلُها نَتْجًا إذا تَولَّوا نَتاجَها بمنزلة القابلة للمرأة فهي منتوجة. وأَنْتَجَتِ الفَرَسُ إذا حان نَتَاجها. قال يعقوبُ: إذا استبانَ حملُها، وكذلك النَّاقة فهي نَتُوج، ولا يُقال: مُنْتِجٌ.
          وأتتِ النَّاقةُ على مَنْتِجِها أي الوقت الَّذي تُنْتَجُ فيه، وهو مَفْعِل بكسر العين، ويُقال للشَّاتَين إذا كانتا سنًّا واحدة: هما نتيجة. وغَنَمُ فلانٍ نَتائجُ. أي في سنٍّ واحدة. وحكى الأخفش: نُتِجَ وأُنْتِجَ بمعنًى، وجاء في الحديث: ((فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا)) وقد أنكره بعضُهم، يعني أنَّ الصَّواب كونُه ثلاثيًّا.
          وأمَّا (الغَرَرِ) فهو ما احتمل أمرين أَغلبُهما أَخوفُهما، وأشار ابن بَطَّال إلى أنَّه ما يجوز أن يوجد وألَّا يوجد، كحَبَلِ الحَبَلَةِ وشبهِهِ، وكلُّ شيءٍ لا يعلم المشتري هل يحصل أم لا فشراؤُه غير جائز، لأنَّه غَرَرٌ، وكلُّ شيء حاصل للمشتري أو يعلم في الغالب أنَّه يحصل له فشراؤه جائزٌ.
          فالغَرَرُ الغالبُ مانعٌ بخلاف اليسير، وهو مِنْ أكلِ المال بالباطل. وقال ابن الأَثير: هو ما كان على غير عُمدة ولا ثقة، ويدخل فيه البيوعُ الَّتي لا يحيط بكُنْهِها المتبايعان مِنْ كلِّ مجهول. وزعم ابنُ حزم أنَّ بيع كلِّ ذلك مِنَ المُغَيَّبات وشبهِها جائزٌ، ويتصرَّف المرءُ في ملكه بما شاء، والتَّسليم ليس شرطًا في صحَّة البيع، وليس هذا بغرَرٍ، لأنَّه بيعُ شيء قد صحَّ في ملك بائعِه وهو معلوم الصِّفة والقَدْر، فعلى ذلك يُباع ويملكه المشتري ملكًا صحيحًا، فإن وجدَه وإلَّا اعتاض مِنْه آخرَ.
          وما ذكره الطَّبَريُّ عن ابن عَوْنٍ عن ابن سِيرينَ قال: لا أعلم ببيع الغرر بأسًا. وذكر ابنُ المنذِر عن ابن سِيرينَ قال: لا بأس ببيع العبد الآبق إذا كان علمُهما فيه واحدًا. وحُكِيَ مثله عن شُرَيْحٍ. وَذُكِرَ عن ابن عمر أنَّه اشترى مِنْ بعض ولده بعيرًا شاردًا، فليس بغررٍ للضَّابط السَّالف، فإن قيل: يحتمل قولُ ابن سِيرينَ أنَّه لا بأس ببيع الغَرر إن سَلِمَ. فالجواب: أنَّ السلامة وإن كانت فإنَّما هي في المال، كذا في ابن بَطَّال، قال: والمال لا يُراعى في البيوع في الأكثر مِنْ مذاهب أهل العلم، وإنَّما تُراعى السَّلامة في حال عقد البيع. وقد ذكرنا أنَّ الغرر هو ما يجوز أن يوجد وألَّا يوجد، وهذا المعنى موجود في عقد الغَرَر وإن سلم ماله، فلذلك لم يجز، وقد يمكن أن يكون ابن سيرين ومَنْ أجاز بيعَ الغرر لم يبلغهم النَّهي عن ذلك، ولا حُجَّة لأحد خالف السُّنَّة.