التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يكره من الخداع في البيع

          ░48▒ بَابُ: مَا يُكْرَهُ مِنَ الخِدَاعِ فِي البَيْعِ.
          2117- ذَكر فيه حديثَ ابن عمر: (أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلعم أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي البُيُوعِ، فَقَالَ: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ).
          هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا: ((فَكَانَ إِذَا بَايَعَ يَقُولُ: لَا خِلَابَةَ)).
          وهذا الرَّجلُ هو حَبَّانُ بن مُنْقِذٍ، بفتح الحاء المهملة ثمَّ باءٍ موحَّدة مفتوحة، شَهِد أحدًا وأصابته آفةٌ في رأسه، وولدُ ولدِه محمَّدُ بن يحيى بنِ حَبَّانَ، روى له الجماعة، وعمُّه واسعُ بن حَبَّان أخرجوا له أيضًا، وروى مسلم وأبو داود والتِّرمِذيُّ / لابنه حَبَّانَ بن واسعِ بن حَبَّانَ.وقيل: إنَّ هذه القصَّة لمنقِذ بن عمرٍو، قال ابن بَطَّال: وهو أصحُّ. وعاش منقذٌ مئةً وثلاثين سنةً كما سيأتي. وفي «الاستيعاب» أنَّه مُنْقِذ، وذلك محفوظ مِنْ حديث ابن عمرَ وغيره. والحاكم ذَكره مِنْ حديث ابن عمر في ولده حَبَّانَ، ثمَّ قال: متَّصل الإسناد.
          وللدَّارَقُطْنيِّ مِنْ حديثِ ابن إسحاقَ، عن نافع، عن ابن عمر أنَّ رجلًا مِنَ الأنصار كان بلسانه لُوْثَة، فذَكر ذلك لرسول الله صلعم فقال: ((إِذَا بِعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ مَرَّتَيْنِ)). قال ابن إسحاقَ: وحدَّثني محمَّد بن يحيى بن حَبَّانَ قال: هو جدِّي مُنْقِذ بن عمرو، وكان رجلًا قد أصابته آمَّة في رأسه فكَسرت لسانَه ونازعتْه عقلَه، وكان لا يدع التِّجارة ولا يزال يُغبَن.
          وفيه: وكان عُمِّر عمرًا طويلًا، عاش ثلاثين ومئة سنةٍ، وكان في زمن عثمانَ حين فشا الناس. وفي لفظٍ عن ابن عمر: كان حَبَّانُ رجلًا ضعيفًا، وكان قد سُفع في رأسه مأمومةً، فجَعل رسولُ الله صلعم له الخيارَ فيما يشتري ثلاثًا، وكان قد ثقُل لسانُه، فكنت أسمعه يقول: لا خِذابة لا خِذابة. قال الدَّارَقُطْنيُّ: وكان ضريرَ البصر. وفي الطَّبرانيِّ: لمَّا عمي قال له ◙ ذلك، ولابن حزمٍ مِنْ حديث ابن إسحاقَ: أنَّ منقِذًا سُفع في رأسه مأمومةً في الجاهليَّة فحلَّت لسانه. وفيه: ((وَأَنْتَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا)).
          وقال الجَيَّانيُّ: شُجَّ مع رسول الله صلعم في بعض الحصون بحجر. قال صاحب «المطالع»: وكان ألثغَ لا يعطيه لسانُه إخراج اللَّام، وكان ينطِق به ياءً أو ذالًا معجَمة، وصحَّف مَنْ قال: لا خيانة بالنُّون.
          و(الخِلابَةُ): المخادَعة، فلا خِلابة أي: لا خديعة ولا غِشَّ ولا كَيدَ ولا غَبْنَ ونحو ذلك. قال المهلَّب: أي: لا تخلُبُوني فإنه لا يحلُّ، فإنِ اطَّلعتُ على عيبٍ رجَعتُ به.
          واختَلف الفقهاءُ فيمَنْ باع بيعًا غُبِن فيه غَبْنًا لا يتغابَنُ النَّاس بمثله، فقال مالكٌ: إن كانا عارفين بتلك السِّلعة وبأسعارها في وقت البيع لم يُفسخ ولو كثر الغَبْن، وإن كانا أو أحدُهما غيرَ عارفٍ بتقلُّب السِّعر وتغيُّره وتفاوَت الغَبْنُ فُسخ البيع، إلَّا أن يريد أن يمضيَه. ومِن أصحاب مالك مَنِ اعتبر مقدارَ ثلث السِّلعة، ولم يحدَّ مالك في ذلك حدًّا. ومذهبُه إذا خرج عن تغابن النَّاسِ في مثل تلك السِّلعة أنَّه يفسخ. وبهذا قال أبو ثور. وقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ: ليس له أن يَفسخ في الغَبْن وإن كثُر، وبه قال ابن القاسم وحُجَّتُهم هذا الحديثُ، لأنَّ مَنْ يُخدع في عقله بضعفٍ يَلْحَقُه الغَبْنُ في عقوده، فجعلَ له الشَّارعُ الخيارَ لما يلحقُه مِنْ ذلك، فلو كان الغَبْنُ شيئًا يُملك به فسخُ العقدِ لما احتاج إلى شرط خيارٍ مع استغنائه عنه.
          قلت: ذلك بأنَّه ◙ قال: ((لَكَ الْخِيَارُ)) ولم يقل له: اشتَرِطِ الخيارَ. وقال له: (قُلْ: لَا خِلَابَةَ) أي لا خَديعة، فلو كان الغَبْن مباحًا لم يكن لقوله: (لَا خِلَابَةَ) معنًى، ولم ينفعْه ذلك، فلمَّا كان ذلك ينفعُه جعلَ له الشَّارعُ الخيارَ بعد ذلك، لينظرَ فيما باعه ويسأل عن سعره ويرى رأيَه فيه، وإنَّما جعل ذلك في حَبَّان ليعلِّمنا الحُكْمَ في مثله، وإنَّما تُعرف الأحكام بما يبيِّنه، فبيَّن مَنْ يُغْبَن في بيعِه إذا لم يكن عارفًا بما يبيعُه. وأيضًا فقد جعل الشَّارعُ الخيارَ للمتلَقِّي لأجل الغَبْن، واعترضَه ابنُ حزم بأنَّ فيه الخيارَ إلى دخولِ السُّوق، ولعلَّه لا يدخلُه إلَّا بعد عامٍ أو أكثرَ. قلتُ: خلافُ الغالب، وأيضًا لو ابتاع سلعةً فوجد بها عيبًا كان له الخيار في الردِّ لأجل النَّقص الموجود بها، فلا فرقَ بين أن يجد النَّقص بالسِّلعة أو بالثَّمن لأنَّه في كلا الموضعين قد وجد النَّقص الَّذي يخرجُ به عن القصد، ولا يُرَدُّ الغَبْنُ اليسيرُ لاحتماله غالبًا.
          وذَكر ابنُ حَبيبٍ عن مالكٍ أنَّه سُئِلَ عن جاهلٍ باع حجرًا أو دُرَّة بدرهمين فألْفاه _أي وجدَه_ المشتري ياقوتةً، فلم يرَ فيه رجوعًا لأنَّ الغَلط ماضٍ على البائع والمبتاع في المساوَمة، وإنَّما يُرَدُّ في البيع على المرابحة، إلَّا أن يبيعَه بائعُه على أنَّه زجاجٌ فألفاه المشتري ياقوتةً فإنَّه يُرَدُّ البيع، وكذلك لو باعه على أنَّه ياقوت فألفاه المشتري زجاجًا يُردُّ أيضًا. وزعم ابن عبد البرِّ أنَّ هذا خاصٌّ بحَبَّانَ، وأنَّ الغَبْنَ بين المتبايعَين لازمُهُ، ولا خيارَ للمغبون بسببها، سواءٌ قلَّت أو كثرت، وهو أصحُّ الرِّوايتين عن مالكٍ. وقال البغداديُّون مِنْ أصحابِه: للمغبونِ الخيارُ بشرط أن يبلغَ الغَبْنُ ثلثَ القيمة. وكذا حدَّه أبو بكر وابن أبي موسى مِنَ الحنابلة. وقيل: السُّدس، وعن داود: العقد باطل. ويؤيِّد الخصوصَ روايةُ ابن لَهيعة عن حَبَّانَ، عن طلحةَ بن يزيدَ بنِ رُكَانة ((أنَّه كلَّم عمر بن الخطَّاب في البيوع، فقال: ما أجد لكم شيئًا مما جعله سيدنا رسول الله صلعم لحَبَّان، ورواية ابن لَهيعةَ أيضًا عن حَبَّانَ بن واسعٍ عن أبيه عن جدِّه، قال عمر بن الخطَّاب...)) الحديث، لكنَّهما ضعيفان.
          وتمسَّك بهذا الحديث مَنْ لا يرى الحَجْر على الكبير، لاسيَّما وقد جاء في بعض طُرقه: أنَّ أهل هذا الرَّجل سألوا رسول الله صلعم أن يحجر عليه لما في عقوده مِنَ الغَبْن، فلم يحجرْ عليه، وأمره بقوله: (لَا خِلَابَةَ).
          قلت: قد يُقال: إنَّ الحَجْر عليه يؤخذ مِنْه لأنَّهم سألوه ما أنكر عليهم، وقد قال له: ((قُلْ: لَا خِلَابَةَ، وَلَكَ الْخِيَارُ ثَلَاثًا)). وَيُرْوَى ((وَاشْتَرِطِ الْخِيَارَ ثَلَاثًا)). ويجوز أن يكون تركَه لكونه يسيرًا لا يُحجر بمثله.
          قال الدَّاوُديُّ: أسفر لنفسه فدلَّه على وجه يختصُّ به، ولم يَضرب على يديه. وأجاب ابنُ العربيِّ بأنَّه يحتمل أن تكون الخديعةُ كانت في العيب أو في الغَبْن أو في الكذب أو في الثَّمن أو في العَين، وليست قضيَّةً عامَّة فتحملَ على العموم، وإنَّما هي خاصَّة في عينٍ وحكايةِ حال.
          وعند المالكيَّة خلافٌ في الحجر على مَنْ يُخدع في بيعه، قال ابن شَعبانَ: نعم. وقال غيره: لا عملًا بهذا الحديث، واستدلَّ به على أنَّ بيع السَّفيه إذا لم يكن عليه وصيٌّ على الجواز حتَّى يُضرَب على يده، لإجازة الشَّارع ما تقدَّم مِنْ بُيوعه. وعُورض بأنَّه يحتمل أن يكون بائعُه غيرَ معروف أو غائبًا. وقد قال ابن القاسم: يُفسخ بيعُه وإن لم يُضرب على يديه، وخالفه جميعُ أصحاب مالكٍ.
          قال ابن حزمٍ: مَنْ قال حين يبيع أو يبتاع: لا خِلابة، فله الخيار ثلاثَ ليالٍ بما في خلالهنَّ مِنَ الأيام، إن شاء ردَّ بعيبٍ أو بغيره / أو بخديعةٍ أو بغيرها بغَبْن أو بغيره، وإن شاء أمسكَه، فإذا انقضت اللَّيالي الثَّلاث بطَل خيارُه ولزمه، ولا ردَّ إلَّا مِنْ عيبٍ إذا وُجد، فإنْ قال لفظًا غيرَ لا خِلابة بأن يقول: لا خديعةَ، أو لا غِشَّ، أو لا كَيدَ، أو لا غَبْنَ، أو لا مَكْر، أو لا عيبَ، أو لا ضررَ، أو على السَّلامة، أو لا داءَ، أو لا غائلةَ أو لا خبثَ، أو نحوَ هذا لم يكن له الخيارُ المجعول لِمَنْ قال: لا خِلابةَ لكن إن وجد شيئًا ممَّا بايع على ألَّا يعقد بيعَه عليه بطَل البيعُ، وإن لم يجدْه لَزِمَ البيعُ.
          وحكى ابنُ التِّين قولًا أنَّ معنى: (لَا خِلَابَةَ) في صِفة النَّقد، وفي وفاء الوزن والكيل، قال: ويحتمل أن يأمره بذلك على وجه الإعذار لبائعه. وقيل: إنَّه ◙ جعل له ذلك علامةً يَثْبُتُ له بها الخيارُ ثلاثًا. واحتجَّ به على جواز اشتراطِه للبائع والمشتري والأجنبيِّ لإطلاق الحديث.
          وفيه: ما كان القومُ عليه مِنْ أداءِ الأمانة لِمَنْ عاملَهم والنُّصحِ لِـمَنِ استنصَحَهم.