التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب كراهية السخب في السوق

          ░50▒ بَابُ: كَرَاهِيَةِ السَّخَبِ فِي السُّوقِ.
          2125- ذكر فيه حديث فُلَيْحٍ، (عَن هِلَالٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ صلعم فِي التَّوْرَاةِ. قَالَ أَجَلْ، إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ...) الحديثَ.
          وفيه: (وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ...) إلى آخره، تَابَعَهُ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ هِلاَلٍ، وَقَالَ سَعِيدٌ: عَنْ هِلاَلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَن ابْنِ سَلاَمٍ.
          الشَّرح: متابعة عبد العزيز أسندها البخاريُّ فقال: حدَّثنا عبد الله، عن عبد العزيز بن أبي سَلَمَةَ، عن هلال به، وهو حديث تفرَّد به البخاريُّ، وعبد الله هذا قال ابن السَّكَن: هو ابن مَسْلَمَةَ، وقال أبو مسعودٍ الدِّمَشْقيُّ: هو عبد الله بن محمَّد بن رجاء. وقال الجَيَّانيُّ: عندي أنَّه عبد الله بن صالحٍ كاتب اللَّيث وإلى ذلك أشار أبو مسعود، على أنَّ الحاكم أبا عبد الله قطع أنَّ البخاريَّ لم يخرج في «صحيحه» عن كاتب اللَّيث. وقد روى البخاريُّ في كتاب «الأدب» هذا الحديثَ عنه.
          وأمَّا قول: (سَعِيدٌ عَنْ هِلاَلٍ) فأخرجه الطَّبَرانيُّ في «معجمه» ((حدَّثنا المطَّلب بنُ شُعيبٍ، حدَّثنا عبد الله بن صالحٍ، حدَّثني اللَّيث، عن خالدِ بن يزيدَ عن سعيدِ بن أسامةَ عن هلالٍ عن عطاءٍ، عن عبد الله بن سلَام: إنَّا لنجدُ صِفة رسول الله صلعم...)) الحديثَ.
          وأخرجه التِّرمِذيُّ مِنْ حديثِ محمَّد بن يوسُف بن عبد الله بن سَلام عن أبيه عن جدِّه، ثمَّ قال: حسنٌ غريب.
          والصَّخَبُ عند أهل اللُّغة: الصِّياح، قال صاحب «العين»: صَخِبَ صَخَبًا، إذا صاح، ولم يذكرْه في حرف السِّين، وهو في النُّسخ كما قدَّمناه بالسِّين، ونقله ابن بَطَّال عن بعض النُّسخ، وقال أبو حاتم: أمَّا ما كان مع الخاء فتجوز كتابتُه بالسِّين والصَّاد. وبخطِّ الدِّمْياطيِّ: الصَّخَبُ _بالسِّين والصَّاد_ اختلاطُ الأصوات، قال: وقيل: الصَّوت الشَّديد، قيل: الفصيح بالصَّاد، وهي بالسِّين لغةٌ قبيحةٌ لربيعةَ، أعني السَّخَب، وقال الفرَّاء أيضًا: هما لغتان. قال ابنُ التِّين: والَّذي ذكره غيره مِنْ أهل اللُّغة بالصَّاد، وهو في البخاريِّ بالسِّين. ومعنى (أَجَلْ) نعم.
          وكان عبد الله بن عمرٍو كما روى البزَّار مِنْ حديث ابن لَهِيعةَ، عن واهب عنه، رأى في المنام كأنَّ في إحدى يديه عَسَلًا وفي الأخرى سمنًا وكأنَّه يلعقُهما، فأصبح فذكر ذلك لرسول الله صلعم فقال: ((تَقْرَأُ الْكِتَابَيْنِ: التَّوْرَاةَ وَالْقُرْآن)) فكان يقرؤُهما.
          وقوله: (شَاهِدًا) أي شاهدًا بالإبلاغ، وقيل: لِمَنْ أطاعه. وقيل: على تَصديق مَنْ قبلَه مِنَ الأنبياء، وقيل: مبشِّرًا بالجنَّة ونذيرًا مِنَ النَّار. رُوِيَ عن ابن عبَّاس: لمَّا نزلت هذه الآيةُ دعا رسول الله صلعم عليًّا ومعاذًا وقال: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، فَإِنَّهُ قَدْ أُنزل عَليَّ اللَّيلةَ: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45])).
          (سَمَّيْتُكَ بِالمُتَوَكِّل) كان قد أيقن بتمام وعد الله وتوكَّل عليه.
          وقوله: (وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ) أي حافظَهم وحافظَ دينِهم. يُقال: أَحْرَزتُ الشَّيءَ أُحْرِزُهُ إِحْرازًا، إذا حَفِظْتَه وضَمَمْتَه إليك وصُنْتَه عن الأخذ. والأمِّيُّون: العربُ لأنَّ الكتابة عندَهم قليلةٌ.
          وقوله: (سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ) يعني لقناعتِك باليسير مِنَ الرِّزْق، واعتمادِك على الله في الرِّزق والنَّصر، والصَّبر عند انتظار الفرج، والأخذِ بمحاسن الأخلاق، واليقينِ بتمام وعد الله، فتوكَّلَ عليه، فَسُمِّيَ المتوكِّل.
          وقوله: (لَيْسَ بِفَظٍّ) أي سيِّئِ الخُلق.
          (وَلاَ غَلِيظٍ) وهي الشِّدَّة في القول، وهما حالتان مكروهتان.
          وقول القائل لعمر: ((أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ)) قيل: لم تأت هنا للمفاعلة بينه وبين مَنْ أُشْرِكَ معه، بل بمعنى: أنت فظٌّ غليظٌ على الجملة لا على التَّفصيل.
          والسَّخَّابُ: الكثير الصِّياح والجَلَبَة، ولم يكن سخَّابًا في سوق ولا غيره، بل كان على خُلُقٍ عظيمٍ.
          وفيه: ذمُّ الأسواق وأهلِها الَّذين يكونون بهذه الصِّفة المذمومة مِنَ الصَّخَب واللَّغَط والزِّيادة في المِدْحة والذمِّ لما يتبايَعونه، والأيمانِ الحانثة، ولهذا قال ◙: ((شَرُّ الْبِقَاعِ الْأَسْوَاقُ)) كما مضى، لِما يغلب على أهلها مِنْ هذه الأحوال المذمومة.
          ومعنى: (لاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ) لا يسيء إلى مَنْ أساء إليه على سبيل المجازاة المباحَة ما لم تنتهك لله حرمة، لكن يأخذ بالفضل كما قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} [الشورى:43] وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] وسمَّى جزاءَ السَّيِّئةِ سيِّئةً للمجاوَرة.
          والمراد (بِالمِلَّةَ العَوْجَاءَ) _أي المعْوجَّة_: ما كانوا عليه مِنْ عبادة الأصنام، وتغيير ملَّة إبراهيم عن استقامتها، وإمالتِها بعد قوامها، فأقام الله بنبيِّه عِوَج الكُفر حتَّى ظَهر دِين الإِسلام ووَضَحت أعلامُه، وأيَّد الله نبيَّه بالصَّبر والإنابة والسِّياسة في نفوس العالمين والتَّوكُّل على الله.
          وقوله: (وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا) كذا للأَصيليِّ كما نقله ابنُ التِّين، جَعَلَ (عُمْيًا) نعتًا للأعين، وهو جمعُ عمياء، وفي بعض روايات الشَّيخ أبي الحسن: <أَعْيُنَ عُمْيٍ>، فأضاف أعينَ إلى عُميٍ وهو جمعُ أَعمى، وكذلك الكلام في الآذان أيضًا.
          وقوله: (وَقُلُوبًا غُلْفًا) فليس هو إلَّا جمعَ أغلفَ سواء كان مضافًا أو غيرَ مضاف، وتركُ الإضافةِ فيه بيِّنٌ، وذلك كلُّه ممَّنْ قَبِل الإسلامَ وخرَج مِنَ الكفر إلى الإيمان. وقرأ ابن عبَّاس {غُلُفٌ} [البقرة:88] _بضمِّ اللَّام_ كأنَّه جعله جمعَ غِلاف، وهي قراءة الأعرج وابن مُحَيْصِنٍ. قال ابن عبَّاس: مملوءة لا تحتاج إلى علم محمَّد.
          وقوله: (غُلْفٌ) كلُّ شيء في غلاف يريد أنَّه مستورٌ عن الفهم والتَّمييز، وقال مجاهد: غُلف: عليها غشاوة. وقال عِكْرِمة: طابَع.
          وفي الحديث مدحُ النَّبيِّ صلعم ببعض صفاته الشَّريفة الَّتي خصَّه الله _تعالى_ وجبله عليها، وقد وصفه الله تعالى في آخر سورة براءة نحوَ هذه الصِّفة.
          وهذا الباب أخَّره ابن بَطَّال بعد باب: بركة صاعه، فاعلمْه. /