التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة

          ░54▒ بَابُ: مَا يُذْكَرُ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ وَالحُكْرَةِ.
          2131- ذَكر فيه حديث ابنِ عمر قال: (رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً، يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم حتَّى يُؤْوُهُ إِلَى رِحَالِهِمْ).
          2132- وحديثَ ابن عبَّاس: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم أَنْ يَبِيعَ طَعَامًا حتَّى يَسْتَوْفِيَهُ. قُلْتُ لِابن عبَّاس: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: ذَاكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ).
          2133- وحديثَ ابن عمر: (مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حتَّى يَقْبِضَهُ).
          2134- وحديثَ مَالِك بْن أَوْسِ بْنِ الحَدَثَانِ، عَنْ عُمَرَ: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ).
          وذكر مثله في البُرِّ بالبُرِّ، والتَّمر بالتَّمر، والشَّعير بالشَّعير.
          الشَّرح: هذه الأحاديث كلها في مسلم أيضًا وسلف بعضها، مِنْها حديث ابن عمر.
          ورواه _أعني حديثَ مالك_ ابنُ حزم مِنْ طريق ابن وهب بإسقاط عمر، ثمَّ قال: مالكٌ لا يُعرف له سماع مِنْ رسول الله صلعم، وفي إسناده مجهول وكذَّاب. وعنى بالمجهول: جُبير بن أبي صالح، لكن وثِّق، و(مَالِكُ) هذا هو النَّصري _بالنُّون والصَّاد المهملة_ أدرك الجاهليَّة، وقيل: له صحبة، ولا يصحُّ، وإن ذكرها أبو نُعيم وأبو عمر وغيرهما، بل البخاريُّ في «تاريخه». مات سنة اثنتين وتسعين. ونصرٌ هذا أخو جُشَم، وفي أسد خُزَيْمة نصْر بن قُعَيْنٍ.
          (وَالحُكْرَةِ) _بضم الحاء المهملة_ حبس الطعام عن البيع مع الاستغناء عنه عند الحاجة إليه إرادة غلائه. والجزاف _بالتثليث_ بيعك الشيء واشتراؤك بلا كيل ولا وزن. قال ابنُ سِيدَهْ: وهو يرجع إلى المساهلة، وهو دخيل.
          ولم يروِ مالك لفظة (مُجَازَفَةً) وفسَّرها بأنَّهم كانوا يريدون بيعَه بالدَّين، وأمَّا بالنَّقد فلا بأس. واعترضه ابن التِّين بأنه إذا باعَه مِنْ غير بائعِه لا فرق بين دَيْن ونَقْدٍ.
          وفي قوله: (مُجَازَفَةً) جوازُ بيع الجِزاف، وأنَّ الغَرَر اليسيرَ معفوٌّ عنه في البيع.
          وقوله: (ذَاكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ) تأوله أن يشتري مِنْه طعامًا بمئة إلى أجل ويبيعَه مِنْه قبل قبضه بمئة وعشرين، وهو غير جائز لأنَّه في التَّقدير بيعُ دراهم بدراهم والطَّعام مرجأٌ غائب. وليس هذا تأويلَه عند أكثر العلماء. وقيل: معناه أن يبيعه مِن آخر ويُحيله به. قال ابن فارس: أَرْجَأتُ الشَّيء: أخَّرته، وأَرْجَيتُ أيضًا، ذكره الخطَّابيُّ. قال ابنُ التِّين: والذي سمعناه بغير همز، وهمزة في بعض النُّسخ.
          وقوله: (هَاءَ وَهَاءَ) قال الهَرَويُّ: اختُلف في تفسيره، وظاهر معناه: أن يقولَ كلُّ واحد مِنْهما: هاءَ فيعطيَه ما في يده. وقيل: معناه هاتِ وهاكَ، أي خُذْ وأَعطِ، وهو ممدودٌ لكنَّهم يقرؤونه بالقصر. وقال الخطَّابيُّ: الهمزة في هاءَ وهاءَ بدلٌ مِنَ الكاف، كأنَّه قال: هاك أي خُذْ، وقد يُقال بالكسر.
          واختَلف العلماء في بيع الطعام جِزافًا قبل أن يُقبض، فذهب أبو حنيفة وأصحابُه والشَّافعيُّ والثَّوريُّ وأحمد وأبو ثور وداودُ إلى أنَّه لا يجوز بيعه قبلَ قبضِه، وَرُوِيَ عن مالك أيضًا، وقال ابن عبد الحَكم: إنَّه استحسان مِنْ قوله.
          وقالت طائفةٌ: يجوز بيع الطَّعامِ الجزاف قبلَ قبضه، رُوِيَ ذلك عن عثمانَ بن عفَّان، وهو قول سعيدِ بن المسيِّب والحسن البصريِّ والحكم وحمَّاد، وهو المشهور عن مالكٍ، وبه قال الأوزاعيُّ وإسحاق.
          حُجَّة القول الأوَّل ظاهرُ حديثِ ابن عمر، وعمومُ نهيِه عن بيع الطَّعام قبل استيفائه، فدخل فيه الجزافُ والكيلُ، وقد أشار ابن عبَّاس إلى أنَّه إذا باعه قبل قبضِه أنَّه دراهمُ بدراهمَ والطَّعام لغوٌ، فأشبه عنده العِيْنَةَ. قال الأَبهريُّ: العِيْنَةُ من باب سلفٍ جرَّ منفعةً.
          والحُجَّة للثَّاني أنَّ مَنْ باع جِزافًا فلم يبع إلَّا ما وقعت حاسَّة العين عليه، ولذلك سقط الكيلُ عن البائع، والاستيفاءُ إنَّما يكونُ بالكيل أو الوزن، هذا مشهورٌ عند العرب، ويشهَد لذلك قوله تعالى: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} [يوسف:88]. {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} [الإسراء:35]. {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين:2]. فإنَّما عنى بالاستيفاء في المكيل والموزون خاصَّة، وما عدا هذه الصِّفةَ فلم يبقَ فيه إلَّا التَّسليم فيما يستوفي مِنْ جزاف الطَّعام كالعَقار وشِبهه.
          فإن قلتَ: لو كان كما زعمتم لمْ يتأكَّد النَّهيُ عن ذلك بضربِ النَّاس عليه، فدلَّ على أنَّ حُكمَ الجِزاف حكمُ المَكيل. فالجواب: أنَّهم إنَّما أُمروا بانتقال طعامِهم وإن كان جِزافًا لأنَّهم كانوا بالمدينة يتبايَعون بالعِيْنَةِ، فكذلك يجب أن يؤمَروا بانتقال الجِزاف في كلِّ موضع يشهَد فيه العملُ بالعيبِ ليكون حاجزًا بين دراهمَ بأكثر مِنْها، لأنَّه إذا باعه بالمكان الَّذي ابتاعَه بدراهمَ أكثر مِنْها كان الطَّعام لغوًا وكانت كدراهمَ بأكثرَ مِنْها، وقد رُوِيَ عن ابن عمر أنَّ النَّهي إنَّما ورد في المَكيل خاصَّة، وروى ابنُ وَهْب مِنْ حديث ابن عمر: ((نهى رسول الله صلعم أن يبيع أحدٌ طعامًا اشتراه / بكيل حتَّى يستوفيَه)).
          وفي حديث ابن عمر: (رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً، يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم حتَّى يُؤْوُهُ إِلَى رِحَالِهِمْ) إباحةُ الحُكْرَة، لأنَّه لو لم يجزْ لهم احتكارُه لتقدَّم إليهم في بيعِهم ولم يؤذَنْ لهم في حبسه. هذا قول أئمَّة الأمصار، وبه يزول اعتراض الإسماعيليِّ بأنَّ البخاريَّ بوَّب لها ولم يذكرْها.
          ورخَّصت طائفة لِمَنْ رفع الطَّعام مِنْ أرضِه أو جَلَبَهُ مِنْ مكان في حبسِه، ومَنعت مِنْ ذلك لمشتريه مِنَ الأسواق للحُكْرة، وَرُوِيَ ذلك عن عمرَ والحسن البصريِّ، وبه قال الأوزاعيُّ. قال مالك فيمَنْ رَفع طعامًا من ضيعته فرفَعه: فليس بحُكْرةٍ، وقال الشَّافعيُّ وأحمد: إنَّما يحرُم احتكارُ الطَّعام الَّذي هو قوتٌ دون سائرِ الأشياء. وقالت طائفةٌ: احتكار الطَّعام في الحرم إلحادٌ فيه. رُوِيَ عن عمرَ ومجاهد.
          وفي مسلم: ((لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ)) مِنْ حديث مَعْمَر بن عبد الله بن نَضْلَةَ، وَرُوِيَ عن عمرَ وعثمانَ أنَّهما نَهَيَا عنها. ومعنى هذا النَّهي عند الفقهاء: في وقت الشِّدَّة، فيما ينزل بالناس مِنْ حاجةٍ، يدلُّ على ذلك أنَّ سعيدَ بن المسيِّب راوي الحديث عن مَعْمَر كان يحتكر الزَّيت، فقيل له في ذلك فقال: كان مَعْمَر يَحتكر.
          وفي «مسند أحمد»: كان يَحتكر النَّوى والخَبَطَ والبِزْرَ، وجاء في الاحتكار أحاديثُ ضعيفة لا نطوِّل بذكرها. وقال أبو الزِّناد: قلت لابن المسيِّب: أنت تحتكر، قال: ((ليس هذا بالَّذي قال رسول الله صلعم إنَّما قال أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ للسِّلعة عِنْدَ غَلَائِهَا فَيُغَالِيَ بِهَا، وَأَمَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ إِذَا اتضَعَ ثمَّ يَرْفَعَه فإِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ، فَذَلِكَ خَيْرٌ)) فبان أنَّ معنى النَّهي عن الحُكْرة في وقت حاجة النَّاس.
          روى ابن القاسم عن مالك أنَّه قال: مَنِ اشترى الطعام في وقت لا يضرُّ بالنَّاس اشتراؤه فلا يضرُّه أن يتربَّص به ما شاء. وهو قول الكوفيِّين والشَّافعيِّ. قال مالك: وجميع الأشياء في ذلك كالطَّعام، وقال الأوزاعيُّ: لا بأس أن يشتريَ في سَنة الرُّخْص طعامًا لسنينَ لنفسِه وعياله مخافةَ الغلاء. قال مالكٌ: وأمَّا إذا قلَّ الطَّعام في السُّوق واحتاج النَّاس إليه، فمَنِ احتكر مِنْه شيئًا فهو مُضِرٌّ بالمسلمين، فليخرجْه إلى السُّوق ويبيعه بما ابتاعه ولا يزدد فيه.
          فعلى هذا القول تتَّفق الآثار، ألا ترى أنَّ الناس إذا استوت حالتهم في الحاجة فقد صاروا شركاء، ووجب على المسلمين المواساةُ في أموالهم، فكيف لا يمنع الضَّرر عنهم، وقد جمع رسول الله صلعم الأزوادَ بالصَّهْباء عند الحاجة، ونهى عن ادِّخار لحوم الأضاحيِّ بعد ثلاث للدَّافَّة، وجمع أبو عُبيدةَ بين أزواد السَّريَّة، وقسَمها بين مَنْ لم يكن له زادٌ وبين مَنْ كان له، وأَمَرَ عمرُ أن يُحمَلَ في عام الرَّمادة على أهل كلِّ بيتٍ مثلُهم مِنَ الفقراء، وقال: إنَّ المرءَ لا يهلِك عن نصف شِبَعِه.
          فرع: يصحُّ بيع الصُّبْرة مجازَفةً، وفي كراهته قولان: أظهرُهما: نعم، وكذا صُرَّة الدَّراهم، وعن مالك: لا يصحُّ بيعه إذا كان بائع الصُّبرة جِزافًا يعلمُ قَدْرَها.
          وروى الحارثُ بن أبي أسامةَ بسندٍ فيه الواقديُّ مِنْ حديثِ عِمرانَ بن أبي أَنسٍ: ((سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلعم عُثْمَانَ يَقُولُ: فِي هَذهِ الْوِعَاءِ كَذَا وَكَذَا وَلَا أَبِيعه إِلَّا مُجَازَفَةً. فَقَالَ: إِذَا سَمَّيْتَ كَيْلًا فَكِلْ)).
          وروى عبد الرَّزَّاق قال: قال ابنُ المبارك عن الأوزاعيِّ رفعَه: ((لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَبِيعَ طَعَامًا جُزَافًا قَدْ عَلِمَ كَيْلَهُ حتَّى يُعْلِمَ صَاحِبَهُ)) وروى ابن أسلمَ في كتاب «الرِّبا» عن واصلٍ قال: سألتُ مجاهدًا وعطاءً والحسنَ وطاوس عن الرَّجل يشتري طعامًا جِزافًا لا يعلم كيلَه وربُّ الطَّعام قد عرف كيلَه؟ فكرهوه كلُّهم.
          وقال ابن قُدَامة: إباحة بيع الصُّبرة جِزافًا مع جهل البائع والمشتري بقدرها لا نعلم فيه خلافًا، فإذا اشتراها جِزافًا لم يجز بيعها حتَّى ينقلَها، نصَّ عليه أحمدُ في رواية الأثرم، وقد سلفت، وعنه روايةٌ أخرى: بيعُها قبلَ نقلِها. واختاره القاضي، وهو مذهب مالكٍ، قال: ونقلُها قبضُها، كما جاء الخبرُ.