التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم وكل محفلة

          ░64▒ بَابُ: النَّهْيِ لِلْبَائِعِ أنْ لَا يُحَفِّلَ الإِبِلَ، وَالبَقَرَ وَالغَنَمَ وَكُلَّ مُحَفَّلَةٍ.
          (وَالمُصَرَّاةُ: الَّتي صُرِّيَ لَبَنُهَا وَحُقِنَ فِيهِ وَجُمِعَ، فَلَمْ يُحْلَبْ أَيَّامًا، وَأَصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ المَاءِ، يُقَالُ: صَرَّيْتُ المَاءَ إِذَا حَبَسْتَهُ).
          2148- ذَكر فيه حديثَ الأعرج (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَهُو بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ).
          (وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ، وَمُوسَى بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبيِّ صلعم: صَاعَ تَمْرٍ).
          (وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَن ابْنِ سِيرِينَ: صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَهُوَ بِالخِيَارِ ثَلاَثًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَن ابْنِ سِيرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ ثَلاَثًا، وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ).
          2149- ثم ساق حديثَ عبد الله بن مسعود: (مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَرَدَّهَا، فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ). (وَنَهَى النَّبيُّ صلعم أَنْ تُلَقَّى البُيُوعُ).
          ثم ذكر حديثَ الأعرج (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلاَ تُصَرُّوا الغَنَمَ، وَمَنِ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا، إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ).
          ثمَّ ترجم:
          ░65▒ بَابٌ: إِنْ شَاءَ رَدَّ المُصَرَّاةَ وَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ.
          2151- ثمَّ ساق مِنْ حديثِ أبي هريرة: (مَنِ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً، فَاحْتَلَبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ).
          الشَّرح: حديثُ أبي هريرة مِنْ طُرقه أخرجه مسلم، ولمَّا ذكر ابنُ حزم مَنْ رواه عن الأعرج ومَنْ رواه عن أبي هريرة قال: هؤلاء الأئمَّة الثِّقات الأثبات رواه عنهم مَنْ لا يحصيهم إلَّا الله، فصار نقلَ كافَّةٍ وتواترٍ لا يردُّه إلا محرومٌ غير موفَّق.
          وحديثُ ابن مسعود مِن أفراد البخاري.
          (وَالوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ) دَوْسِيٌّ مولى ابنِ أبي ذُبابٍ لم يخرجا له، إنما أخرج له أصحاب «السُّنن» خلا النَّسائيَّ، وهو صدوقٌ. (وَمُوسَى بْنِ يَسَارٍ) روى له الجماعة إلَّا البخاريَّ، كذا بخطِّ الدِّمْياطيِّ، ولم يعلِّم له المِزِّيُّ علامة التِّرمِذيِّ. وثَّقه ابن مَعينٍ.
          وشيخُ البخاريِّ في الحديث في باب: إن شاء ردَّ المصرَّاة (مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو) وهو البَلْخيُّ السَّوَّاق، روى له مع البخاريِّ التِّرمِذيُّ، مات سنة ستٍّ وثلاثين ومئتين، وشيخُ شيخِه مكِّيٌّ، وهو ابن إبراهيمُ الحَنْظليُّ البَلْخيُّ الحافظ، روى عنه البخاريُّ، والجماعة بواسطة، قال عبد الصَّمد بن الفضل: سمعته يقول: حججتُ ستِّين حَجَّة وتزوَّجت ستِّين امرأةً، وكتبتُ عن سبعةَ عشر تابعيًّا. مات سنة خمس عشرة ومئتين ببَلْخَ وقد قارب المئة.
          (وَابْنُ جُرَيْجٍ) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، و(زِيَاد) هو ابن سعدٍ البَلْخيُّ.
          والتَّعليق عن أبي صالح أخرجه مسلم مِنْ حديث سُهيلٍ ولدِه عنه، وكذا أخرج تعليق موسى بن يَسارٍ مِنْ حديث داود بن قيس عنه به. وتعليق مجاهد قال البزَّار: حدَّثنا محمد بن موسى القطَّان، حدَّثنا عِمران بن أَبَان، حدَّثنا محمَّد بن مسلم، عن ابن أبي نَجيحٍ عنه، عن أبي هريرة مرفوعًا: ((مَنِ ابْتَاعَ مُصَرَّاةً فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا وَصَاعًا مِنْ طَعَامٍ)). ثمَّ قال: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ إلَّا محمَّد بن مسلم، ورواه عن محمَّدٍ عمرانُ وأبو حُذيفة. وما ذكره عن ابن سِيرين: ((صَاعًا مِنْ طَعَامٍ)). أخرجه مسلم مِنْ حديث قُرَّةَ عنه به، وفيه: ((وَهُوَ بِالْخِيارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ)). وفيه: ((صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، لَا سَمْرَاءَ)).
          قال البَيْهَقيُّ: المراد بالطَّعام هنا التَّمرُ لقوله: ((لَا سَمْرَاءَ))، وكذا رواه عَوفٌ عن الحسن مرسلًا وفيه: ((إِنَاءٌ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ يَأْخُذَها)) قال: ورواه إسماعيلُ بن مسلم عن الحسن، عن أنس مرفوعًا، وفيه: ((وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ)) وفي حديث عوفٍ عن ابن سِيرينَ عن أبي هريرة: ((هُوَ بِالْخِيارِ، إِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَإِنَاءً مِنْ طَعَامٍ)).
          وما ذكره البخاريُّ، عن ابن سِيرينَ ثانيًا أخرجه مسلم أيضًا مِنْ حديث أيُّوب عنه، فذكره. وادَّعى الدَّاوُديُّ أنَّ قول ابنِ سِيرينَ ليس بمحفوظ. ورواه البَيْهَقيُّ مِنْ طريق يزيدَ بن هارونَ، حدَّثنا هشام بن حسَّان عن ابن سِيرينَ: ((مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً فَرَدَّهَا، فَيَردُّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ)). ورواه ابن ماجَهْ مِنْ حديث هِشام عنه، وفيه: ((وَهُوَ بِالْخِيارِ ثَلَاثَة أَيَّامٍ)) وقال: ((صَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ)) يعني الحنطة.
          قال الإسماعيليُّ: حديثُ ابن مسعود هو مِنْ قوله، وقد رفعه أبو خالدٍ الأحمرُ، عن التَّيميِّ، ورواه ابن المبارك ويحيى بن سعيد وجَريرٌ وغيرهم موقوفًا عليه، ثمَّ أسند مِنْ حديث أبي عثمان، عن عبد الله قال النَّبيُّ صلعم: ((مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَرَدَّهَا، فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ)). وفي ابن ماجَهْ مِنْ حديث جابر، عن أبي الضُّحى عن مسروق عنه أنَّه قال: أشهد على الصَّادق المصدوق أنَّه قال: ((بَيْعُ الْمُحَفَّلَاتِ خِلَابَةٌ وَلَا تَحِلُّ الْخِلَابَةُ لِمُسْلِمٍ)) قال البزَّار: ولا نعلمه يُرْوَى عن أبي الضُّحى إلَّا مِنْ حديث جابرٍ الجُعْفيِّ.
          وفي الباب غير حديث أبي هريرة وابن مسعود، ابن عمر أخرجه ابن ماجَهْ، وابن عبَّاس أخرجه ابن أبي شَيْبةَ، ورجل مِنَ الصَّحابة أخرجه البَيْهَقيُّ، وفيه: ((صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ)) قال البَيْهَقيُّ: يحتمل أن يكون هذا الشَّكُّ مِنْ بعض الرُّواة، لا أنَّه على وجه التَّخيير، ليكون موافقًا للأحاديث الثَّابتة في هذا الباب.
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام على المصرَّاة مِنْ أوجهٍ: /
          أحدها: (الْمُحَفَّلَة) هي المصرَّاة، مأخوذ مِنْ حَفَلَ النَّاسُ واحتَفَلُوا أي اجتمعوا وكَثُروا، وكلُّ شيءٍ كثَّرْتَه فقد حَفَّلْتَه، ولمَّا كانت التَّصرية في الإبل والبقر والغنم وما في معناها يؤخِّر صاحبُها حَلبَها حتَّى يجتمع لبنُها في ضَرْعها، فإذا رآها مَنْ يطلُبها يحسبُها غزيرةَ اللَّبن فيزيد في ثمنها، ثمَّ يظهر له بعد ذلك نقصُ لبنها عن أيَّام تحفُّلِها. وذكر ابنُ سِيدَهْ مادة حفل، وأنَّها للاجتماع.
          وقوله: (وَحُقِنَ فِيهِ) أي: حبس، وتعبيره في المصرَّاة أنَّه مِنْ صَرَّيت صحيحٌ، وليس هو مِن الصِّرار، إذ لو كان مِنْه كانت مصرورة.
          ووقع في «غريب البخاريِّ» للقزَّاز قال: صَرَّت النَّاقةُ، وأصرَّت. قال ابنُ التِّين: وأُراه وَهَلًا مِنَ الكاتب، لأنَّه قال: تقول: تَصَرَّيتُ الماءَ تَصْرِيةً إذا جمعتَه، فدلَّ على وَهَلِهِ. قلت: قال ابنُ سِيدَهْ: صَرِيَتِ النَّاقةُ، وصَرَتْ وأَصْرَتْ: تحفَّلَ لبنُها في ضَرْعها، وصَرِيَتِ النَّاقة وغيرُها مِنْ ذوات اللَّبن، وصَرَّيتُها وأَصْرَيتُها: حفَّلتُها، وناقةٌ صَرْياءُ: محفَّلةٌ، وجمعُها: صَرَايا، على غير قياس.
          ثانيها: الأفصح: (لا تُصَرُّوا) بضمِّ أوَّله على مثال: لا تُزَكُّوا، وما بعده منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ وَرُوِيَ رفعُه _وَرُوِيَ بفتح أوَّلِه مِنَ الصَّرِّ_ وأصلُه: تُصَرِّيُوا، فاستُثقلت الضَّمَّة على الياء فنُقلت إلى ما قبلها، لأنَّ واو الجمع لا يكون ما قبلها إلَّا مضمومًا، فانقلبت الياءُ واوًا واجتمع ساكنان، حُذفت الأولى وبَقيت واو الجمع.
          ويحتمل أن يكون أصلها مصرَّرة أُبدلت إحدى الرَّاءين كقوله تعالى: {مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] أي: دسَّسها، كرهوا اجتماع ثلاثة أحرف مِنْ جنسٍ واحد، ويحتمل أن يكون أصلها مصرورة، فأُبدل مِنْ إحدى الرَّاءين ياء، وغَلِطَ أبو عليٍّ البغداديُّ فذكره في باب الثُّنائيِّ المضعَّف، وكلُّهم ذكرها في الثُّلاثيِّ المعتلِّ اللَّام.
          ثالثها: معنى (التَّصْرِيَةِ) الجمعُ كما سلف، نهى عن جمع اللَّبن في ضَرعها عند إرادة بيعها حتَّى يعظُم ضَرعها، فيظنَّ المشتري أنَّ كثرة لبنها عادةٌ مستمرَّة. وعبارة الشَّافعيِّ أنَّه رَبطُ أخلافِها اليومين والثَّلاثةَ لجمع لبنها، وهو صواب، وهي حرامٌ لما فيها مِنَ الغِشِّ.
          رابعها: هذا الحديثُ أصلٌ في الرَّدِّ بالغِشِّ والتَّدليس، وقد سلف مِنْ حديث ابن مسعود أنَّه خِلابة، ولا تحلُّ خِلابةُ مسلمٍ، ولا تختصُّ بالنَّعم على الأصحِّ عندنا، بل تعمُّ كلَّ مأكول والجاريةَ والأتانَ، نعم لا يَرُدُّ مع الجارية والأتانِ شيئًا، وقد جاء في أبي داودَ: ((مَنْ بَاعَ مُحَفَّلَةً...)) فالْبَيعُ صَحِيحٌ وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيار. والأصحُّ أنَّه على الفور كالردِّ بالعيب. وفي قول: يمتدُّ ثلاثةَ أيَّام. وهذا مختاري لحديث أبي هريرة في مسلم: ((فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ)) وإذا ردَّها بعد تَلَفِ اللَّبن ردَّ معها صاعَ تمرٍ، سواءٌ اشتراها به أم لا، لحديث الباب، وهو الأظهر عند الشَّافعيِّ، وبه قال مالكٌ في رواية، واللَّيث وابن أبي ليلى وأبو يوسف وأبو ثور وفقهاءُ الآثار.
          والواجب التَّمر الوسَط مِنْ تمر البلد، كما حكاه أحمدُ بن بشرى المصريُّ عن النصِّ، وقيل: يكفي صاعُ قوتٍ، لأنَّه ورد في أبي داودَ: ((القمح)) وليس إسناده بذاك. وعن مالكٍ أنَّه إذا كان في موضعٍ لا تمر فيه فصاعُ حنطةٍ، وعنه: يردُّ مكيلَه ما خلَّف مِنَ اللَّبن تمرًا أو قيمته.
          خامسها: قال بحديث المصرَّاة جمهور العلماء مِنْهم ابنُ أبي ليلى ومالكٌ واللَّيث وأبو يوسف والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاقُ وأبو ثور، وخالف أبو حنيفة وطائفةٌ مِنْ أهل العراق وبعضُ المالكيَّة، ومالكٌ في رواية عنه غريبةٍ، وابن أبي ليلى في رواية، فقالوا: يردُّها ولا يَردُّ معها صاعًا مِنْ تمر، قالوا: وهذا الحديثُ مخالف للأصول المعلومة مِنْ وجوه ثمانية. وقد ذكرتُها مع جوابها في «شرح العمدة»، فليراجَعْ مِنْه، وذكرتُ فيه حكايةً صحيحةً بإسنادي تتعلَّق به، بل قال أبو حنيفةَ ومحمَّد: التَّصرية عيب، ولا يُرَدُّ به. وَحُكِيَ عن أبي حنيفة أنَّه يَرجع بأرش التَّصرية، قالوا: ويعارضه حديثُ الخراج بالضَّمان، ووجهُه أنَّ مشتريَ المصرَّاة ضامنٌ لها لو هلَكتْ عنده واللَّبن عليه، فلا يكون له، وأين هذا مِنْ قوَّة ذاك؟ ثمَّ هذا عامٌّ وحديثُ المصرَّاة خاصٌّ، ولا يُعترض على السُّنَّة بالمعقولات.
          قال مالك فيما نقله عنه ابن عبد البرِّ: أوَلأحدٍ في هذا الحديث رأي؟ قال ابن القاسم: وأنا آخذ به، إلَّا أنَّ مالكًا قال لي: أرى أهلَ البلد إذا نزل بهم هذا أن يعطوا الصَّاع مِنْ عيشهم، قال: وأهلُ مصرَ عيشُهم الحِنطة.
          وَرُوِيَ عنه أنَّه قال: أوَلأحدٍ في هذا الحديث رأيٌ؟
          وعنه أنَّه لمَّا سُئِلَ عنه قرأ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ...} الآية [النور:63]. وزعم أبو حنيفة أنَّه كان قبل تحريم الرِّبا، وروى أشهبُ نحوَه عن مالكٍ، وأنَّ ذلك كان حين كانت العقوبةُ بالمال، وهو واهٍ، لأنَّه إثباتُ نَسخٍ بالاحتمال، وهو غير سائغٍ. وقيل: نَسخه حديث الخراج بالضَّمان والكالئ بالكالئ.
          ومِنْهم مَنْ حمله على ما إذا اشترط ذلك وليس بشيءٍ، ومِنْهم مَنِ ادَّعى نسخه بقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] ولم يجعلوا حديث المصرَّاة أصلًا يقيسون عليه ولدَ الجارية إذا ولدت عند المشتري ثمَّ رُدَّت بالعيب. فالشَّافعيُّ: يحبسُ الولدَ، ومالكٌ يخالفُه، ووافقه ابنُ القاسم، وخالفه أشهبُ، ومِنْ جملة ما ردُّوا به الحديثَ اضطرابُه، حيث قال مرَّةً: ((صَاعًا مِنْ تَمْرٍ)) ومرَّةً قال: ((مِنْ طَعَامٍ)). ومرَّةً قال: ((مِثْلَ _أَوْ مِثْلَيْ_ لَبَنِهَا قَمْحًا)). وجوابه: أنَّ الأخبار كلَّها متَّفقة على إثبات الخيار، ومِنْهم مَنْ قال: إنَّه مخالف لقوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] فإذنْ يُعَلُّ الحديث بذلك. وقال محمَّد بن شجاعٍ فيما نقله الطَّحاويُّ: نسخه حديث: ((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا)).
          فلمَّا قطع بالفُرقة الخيارَ ثبت بذلك ألَّا خيارَ لأحد بعد هذا، إلَّا ما استثناه الشَّارع في قوله: ((إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ)) ثمَّ أفسده الطَّحاويُّ بأنَّ الخيار المجعولَ في المصرَّاة / خيارُ عيبٍ، وخيارُ عيبٍ لا تقطعه الفُرقة، وهو كما قال. قال ابن حزمٍ: صحَّ عن ابن مسعود: ((مَنِ اشْتَرَى مُحَفَّلَةً فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ)) وصحَّ أيضًا عن أبي هريرة مِنْ فُتْياه، ولا مخالفَ لهما مِنَ الصَّحابة في ذلك، وعن زُفَرَ: يردُّها وصاعًا مِنْ تمرٍ أو شعيرٍ أو نصفَ صاع مِنْ بُرٍّ. وقال ابن أبي ليلى في أحد قوليه وأبو يوسف: يردُّها وقيمةَ صاعٍ مِنْ تمر. وقال أبو حنيفة ومحمَّد: إن كان اللَّبن حاضرًا لم يتغيَّر ردَّها وردَّ اللبن، ولا يردُّ معها صاعَ تمر ولا شيئًا، وإن كان قد أَكله لم يكن له ردُّها، لكن يرجع بقيمة العيب فقط. وعن داود: لا يثبت الخيار بتصرية البقر، لأنَّها ليست مذكورةً في الحديث.
          قلت: فيه ((مَنْ بَاعَ مُحَفَّلَةً)) كما تقدَّم، وهو أعمُّ.
          وعند المالكيَّة: لو ردَّ عين اللَّبن لم يصحَّ ولو اتَّفقا، لأنَّه بيعُ الطَّعام قبل قبضِه. وقال سُحْنُون: إقالة، فإن تعذَّرت ففي الاكتفاء بصاعٍ قولان عندهم، ولو رُدَّت بعيبٍ غيره ففي الصَّاع قولان لهم. ونَقَل ابنُ عبد البرِّ عن مذهب الشَّافعيِّ وأحمدَ تعدُّدَ الصَّاع في الأولى.
          تنبيهات: أحدها: أكثرُ أصحاب مالكٍ أنَّ التَّصرية عيبٌ خلافًا لبعض متأخِّريهم، ذكره ابنُ التِّين.
          ثانيها: في الحديث أربعةُ أدلَّة للجمهور: نهيُه ◙ عنها، ونهي عيب، وجعلُ الخيار لمبتاعها، وإيجابُه الصَّاعَ مِنَ التَّمر، وعندهم لا يجب، وأنَّ اللَّبن له قِسط مِنَ الثَّمن.
          ثالثها: في «المدوَّنة» إذا حلبها ثالثةً، فإن كان ما تقدَّم اختيارًا فهو رضًا، وقال مالكٌ: له ذلك. وقال محمَّد: يلزمه. وقال عيسى: يحلف في الثَّالثة ما كان رضي بها.
          رابعها: انفرد أحمدُ بقوله: إذا حلبها له الأَرْشُ ولا ردَّ، فخالف النَّصَّ، وانفرد ابنُ أبي ليلى وأبو يوسفَ فقالا: يردُّ قيمةَ ما حلب مِنَ اللَّبن.
          خامسها: في الحديث أنَّ بيع شاةٍ لَبونٍ بمثلها غيرُ جائز، لأنَّ اللَّبن يأخُذ قِسطًا مِنَ الثَّمن، قاله الخطَّابيُّ.