التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب النهي عن تلقي الركبان

          ░71▒ بَابُ النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ.
          (وَأَنَّ بَيْعَهُ مَرْدُودٌ لِأَنَّ صَاحِبَهُ عَاصٍ آثِمٌ إِذَا كَانَ بِهِ عَالِمًا وَهُوَ خِدَاعٌ فِي البَيْعِ، وَالخِدَاعُ لاَ يَجُوزُ).
          ذكر فيه أربعةَ أحاديثَ:
          2162- أحدها: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم عَنِ التَّلَقِّي، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ).
          2163- ثانيها: حديث ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: (سَأَلْتُ ابنَ عبَّاس مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لاَ يَبِيعَنَّ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟ فَقَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا).
          2164- ثالثها: حديث ابن مسعود: (مَنِ اشْتَرَى مُحَفَّلَةً فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا). قَالَ: (وَنَهَى النَّبيُّ صلعم عَنْ تَلَقِّي البُيُوعِ).
          2165- رابعها: حديث ابن عمر: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: لاَ يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلاَ تَلَقَّوُا السِّلَعَ حتَّى يُهْبَطَ بِهَا إِلَى السُّوقِ).
          الشَّرح: هذه الأحاديث الأربعة أخرجها مسلم أيضًا، و(عَبْدُ الوَهَّابِ) المذكور في إسناد حديث أبي هريرة، هو ابن عبد المجيد الحافظ الثِّقة، اختلط بآخرة.
          قال ابن عبد البرِّ: رُوِيَ هذا المعنى بألفاظ مختلفة، فرواية الأعرج، عن أبي هريرة: ((لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ))، ورواية ابن سِيرينَ عنه: ((لَا تَلَقَّوُا الْجَلَبَ))، ورواية ابن أبي صالح وغيره: ((نَهَى أَنْ تُتَلَقَّى السِّلَعُ حتَّى تَدْخُل الْأَسْوَاقَ)) ورواية ابن عبَّاس: ((لَا تَسْتَقْبِلُوا السُّوقَ وَلَا يَتَلَقَّى بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ)). والمعنى واحد، فحمله مالك على أنَّه لا يجوز أن يشتريَ أحدٌ مِنَ الجَلَب والسِّلع الهابطة إلى الأسواق، وسواء هبطت مِنْ أطراف المصر أو مِنَ البوادي حتَّى يُبْلَغَ بالسِّلعة سوقُها، وقيل لمالكٍ: أرأيت إن كان ذلك على رأس ستَّة أميال؟ فقال: لا بأس بذلك، والحيوان وغيره في ذلك سواء.
          وعن ابن القاسم: إذا تلقَّاها متلقٍّ واشتراها قبل أن يهبط بها السُّوق، قال ابن القاسم: تُعرض، وإن نقصت عن ذلك الثَّمن لزمت المشتريَ. قال سُحْنُون: وقال لي غيرُ ابن القاسم: يُفسخ البيعُ.
          وقال اللَّيث: أَكرهُ تلقِّيَ السِّلع وشراءَها في الطَّريق أو على بابك حتَّى تقف السِّلعة في سوقها، وسبب ذلك الرِّفقُ بأهل الأسواق، لئلَّا يقطع بهم عَمَّا لَهُ جلسوا يبتغون مِنْ فضل الله، فنُهوا عن ذلك، لأنَّ في ذلك فسادًا عليهم. وقال الشَّافعيُّ: رفقًا بصاحب السِّلعة، لئلَّا يُبخس في ثمن سلعته، وعند أبي حنيفة: مِنْ أجلِ الضَّرر، فإن لم يضرَّ بالنَّاس تلقِّي ذلك لضيقِ المعيشة وحاجتهم إلى تلك السِّلعة فلا بأس بذلك. وعن الأوزاعيِّ نحوه.
          وقال ابنُ حزم: هو حرامٌ سواءٌ خرج لذلك أم لا، بَعُدَ موضع تلقِّيه أم قَرُبَ، ولو أنَّه عَنِ السُّوق على ذراعٍ فصاعدًا، لا لأصحابه ولا لقوتٍ ولا لغير ذلك، أضرَّ ذلك بالنَّاس أم لا، فمَنْ تلقَّى جَلَبًا أيَّ شيءٍ كان فإنَّ الجالب بالخِيار إذا دخل السُّوقَ _متى ما دخله ولو بعدَ أعوام_ في إمضاء البيع أو ردِّه، واحتجَّ بحديث عليٍّ وابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود وابن عبَّاس في النَّهي عن ذلك، ثمَّ قال: هذا نقلٌ متواتر رواه خمسةٌ مِنَ الصَّحابة، وأفتى به أبو هريرة وابن عمر، ولا يُعرف لهما مخالفٌ مِنَ الصَّحابة.
          وقال ابن المنذِر: كَره تلقِّيَ السِّلع للشِّراء مالكٌ واللَّيث والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاق، وأجازه أبو حنيفة.
          واختلفوا في معنى التَّلقي، فذهب مالكٌ إلى أنَّه لا يجوز تلقِّي السِّلع حتَّى تصل إلى السُّوق، ومَنْ تلقَّاها فاشتراها مِنْهم شَرِكَه فيها أهلُ السُّوق إن شاؤوا وكان واحدًا مِنْهم. قال ابن القاسم: وإن لم يكن للسِّلعة سوقٌ عرضت على النَّاس في المصر فيشتركون فيها إن أحبُّوا، فإنْ أخذوها وإلَّا ردُّوها عليه، ولم أردَّها على بائعها. وقال غيره: يُفسخ البيع في ذلك. وقد سلف. وقال الشَّافعيُّ: مَنْ تلقَّى فقد أساء، وصاحب السِّلعة بالخيار إذا قَدِمَ به السُّوق في إنفاذ البيع أو ردِّه، لأنَّهم يتلقَّونهم فيخبرونهم بكساد السِّلع وكثرتها، وهم أهل غِرَّة ومَكر وخديعة، وحجَّته حديثُ أبي هريرة: ((وَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ)).
          فذهب مالك أنَّ نهيَه عن التَّلقِّي إنَّما يريد به نفعَ أهل السُّوق لا نفعَ ربِّ السِّلعة كما سلف، وعلى ذلك يدلُّ مذهبُ الكوفيِّين والأوزاعيِّ، وقال الأَبْهريُّ: معناه: لئلَّا يستبدَّ الأغنياءُ وأصحاب الأموال بالشِّراء دون أهل الضَّعف، فيؤدِّي ذلك إلى الضَّرر بهم في معايشهم. ولهذا المعنى قال مالك: إنَّه يُشْرَك بينَهم إذا تلقَّوا السِّلع، ليشتركَ فيها مَنْ أرادها مِنْ أهل الضَّعف ولا ينفردَ بها الأغنياء.
          ومذهب الشَّافعيِّ: إنَّما أُريد به نفعُ ربِّ السِّلعة وقد سلف، وهذا أشبهُ بمعنى الحديث، فإن تلقَّاها فصاحبُه بالخيار فجعل الخيارَ للبائع، لأنَّه المعذورُ فثبت أنَّ المراد بذلك نفعُ ربِّ السِّلعة. وقال أبو حنيفة وأصحابُه: إذا كان التَّلقِّي في أرض لا يضرُّ بأهلها فلا بأس به، وإن كان يضرُّهم فهو مكروه. واحتجَّ الكوفيُّون بحديث ابن عمر قال: ((كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ، فَنَشْتَرِي مِنْهمُ الطَّعَامَ فَنَهَانَا رَسُولُ اللهِ صلعم أَنْ نَبِيعَهُ حتَّى يُبْلَغَ بِهِ سُوقُ الطَّعَامِ)).
          وقال الطَّحاويُّ: في هذا الحديث إباحةُ التَّلقِّي، وفي الأحاديث الأُوَل النَّهيُ عنه، فأَولى بنا أن نجعل ذلك على غير التَّضادِّ، فيكون ما نهى عنه مِنَ التَّلقِّي لما في ذلك مِنَ الضَّرر على غير المتلقِّين المقيمين في السُّوق، وما أُبيح مِنَ التَّلقِّي هو ما لا ضررَ فيه عليهم. وتأويلُ هذا الحديث يأتي في الباب الآتي على الأثر، قال الطَّحاويُّ: والحجَّةُ في إجازة الشِّراء مع التَّلقي المنْهيِّ عنه حديثُ أبي هريرة: ((لَا تَلَقَّوُا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا أَتَى السُّوق)) ففيه جعلُ الخيار مع النَّهي، وهو دالٌّ على الصِّحَّة إذ لا يكون الخيار إلَّا فيه، إذ لو كان فاسدًا لأُجبر بائعه ومشتريه على فَسخه.