إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب: {الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم}

          ░18▒ هذا (بابٌ) بالتَّنوين في قوله تعالى: ({الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ}) في موضع جرٍّ نعتٌ لـ {أَوْلَى} أو خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: هم الذين يذكرون الله حال كونهم ({قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}) أي: يداومون على الذِّكر بألسنتهم وقلوبهم؛ لأنَّ الشَّخص لا يخلو عن هذه الأحوال، وقيل: يصلُّون على الهيئات الثَّلاث حسب طاقتهم؛ لحديث عمران بن حُصَينٍ المرويِّ في «البخاريِّ» [خ¦1117] و«التِّرمذيِّ» وغيرهما: «صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ» قال في «الأنوار»: وهو حجَّةٌ للشَّافعيِّ ☺ في أنَّ المريض يصلِّي مضطجعًا على جنبه‼ الأيمن، مستقبلًا بمقاديم بدنه، وقيل: الأوَّلان في الصَّلاة، والثَّالثة عند النَّوم، وقيل: إنَّه القيام بأوامره، والقعود عن زواجره، والاجتناب عن مخالفته ({وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[آل عمران:191]) الفكر: هو إعمال الخاطر في الشَّيء وتردُّد القلب فيه، وهو قوَّةٌ مُطرِقةٌ للعلم إلى المعلوم، والتَّفكُّر: جريان تلك القوَّة بحسب نظر العقل، ولا يمكن التَّفكُّر إلَّا فيما له صورةٌ في القلب؛ ولذا قيل: تفكَّروا في آلاء الله ولا تتفكَّروا(1) في الله؛ إذ كان الله منزهًا عن أن يوصف بصورةٍ؛ ولذا أخبر تعالى عن هؤلاء بأنَّهم تفكَّروا(2) في خلق السَّموات والأرض، وما أبدع فيهما من عجائب المصنوعات وغرائب المبدعات؛ ليدلَّهم ذلك على كمال قدرته، ودلائل التَّوحيد منحصرةٌ في الآفاق والأنفس، ودلائل الآفاق أعظم؛ قال الله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ}[غافر:57] فلذا أمر بالفكر في خلق السَّموات والأرض، لأنَّ دلائلهما(3) أعظم، فإنَّه إذا فكَّر الإنسان في أصغر ورقةٍ من الشَّجر؛ رأى عرقًا واحدًا ممتدًا في(4) وسطها، يتشعَّب منه عروقٌ كثيرةٌ إلى الجانبين، ثمَّ يتشعَّب من كلِّ عرقٍ عروقٌ دقيقةٌ، ولا يزال كذلك حتَّى لا يراه الحسُّ، فيعلم أنَّ الخالق خلق فيها قوًى جاذبةً لغذائها من قعر الأرض، يتوَزَّع في كلِّ جزءٍ من أجزائها بتقدير العزيز العليم، فإذا تأمَّل ذلك؛ عَلِم عجزه عن الوقوف على كيفيَّة خلقها وما فيها من العجائب، فالفكرة(5) تُذهِب الغفلة وتُحدِث للقلب الخشية؛ كما يُحدِثُ الماءُ للزَّرع النَّماء، وما جُلِيت(6) القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكر، وقال بعضهم: قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} هو من جعل الجرم محلًّا لتعلُّق المعنى، جَعَل الأجرام محلًّا لتعلُّق(7) الفكر لا لنفس الفكر؛ لأنَّ الفكر قائمٌ بالمتفكِّر(8)، ومنه: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[الأعراف:185] جعل السَّموات والأرض والمخلوقات كلَّها محلًّا لتعلِّق النَّظر لا لنفس النَّظر، فإنَّ النَّظر قائمٌ بالنَّاظر حالٌّ فيه، ومنه: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ}[الروم:8] أي: في خلق أنفسهم، وهذا كلُّه من مجاز التَّشبيه، وسقط لأبي ذرٍّ لفظ «باب» وقوله: «{وَيَتَفَكَّرُونَ}...» إلى آخره، وقال بعد: {جُنُوبِهِمْ}: ”الآية“.


[1] في (ج) و(ل): «تفكَّروا».
[2] في (د): «يتفكَّرون».
[3] في (د): «دلالتهما».
[4] في (د): «من».
[5] في (د): «والفكرة».
[6] زيد في (د): «عليه».
[7] قوله: «المعنى جَعَل الأجرام محلًّا لتعلُّق»، ليس في (د).
[8] في (م): «بالتَّفكُّر».