إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب {منه آيات محكمات}

          ░1▒ هذا(1) (بابٌ) بالتَّنوين، ثبت «باب» لأبي ذرٍّ عن الكُشْميهَنيِّ والمُستملي في قوله تعالى: ({مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} وَقَالَ مُجَاهِدٌ) مما أخرجه عبد بن حميدٍ: هي (الحَلَالُ وَالحَرَامُ، {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}[آل عمران:7]) أي: (يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}[البقرة:26] وَكَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}[يونس:100] وَكَقَوْلِهِ) تعالى: ({وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}[محمد:17]) زاد أبو ذرٍّ عن الكُشْميهَنيِّ والمُستملي: ”{وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}“ هذا تفسيرٌ للمتشابه، وذلك أنَّ المفهوم من الآية الأولى أنَّ الفاسق _وهو الضَّالُّ_ تزيد ضلالته، وتصدِّقه(2) الآية الأخرى حيث يجعل(3) الرِّجس للذي(4) لا يعقل، وكذلك حيث تزيد للمهتدي الهداية، قاله الكِرمانيُّ، وقال بعضهم: المُحْكَم: ما وَضَح معناه، فيدخل فيه النَّصُّ والظَّاهر، والمتشابهُ: ما تردَّدت فيه الاحتمالات، فيدخل فيه المُجْمَل والمُؤَوَّل، وقال الزَّمخشريُّ: {مُّحْكَمَاتٌ}: أُحكِمَت عباراتها بأن حُفِظَت من الاحتمال والاشتباه، قال الزَّجَّاج فيما حكاه الطِّيبيُّ: المعنى(5): أُحكِمَت في الإبانة، فإذا سمعها السَّامع لم يحتج إلى التَّأويل، وقسَّم الرَّاغب‼ المتشابه إلى قسمين:
          أحدهما: ما يرجع إلى ذاته، والثَّاني: إلى أمرٍ ما يعرض له، والأوَّل على ضروبٍ؛ ما يرجع إلى جهة اللَّفظ مفردًا؛ إمَّا لغرابته؛ نحو: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}[عبس:31] أو لمشاركته الغير نحو: اليد والعين، أو مركَّبًا؛ إمَّا للاختصار؛ نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}[يوسف:82] أو للإطناب نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11] أو لإغلاق اللَّفظ نحو: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا...} الاية[المائدة:107]. وثانيها: ما يرجع إلى المعنى؛ إمَّا من جهة دقَّته كأوصاف الباري ╡ وأوصاف القيامة، أو من جهة ترك التَّرتيب ظاهرًا نحو / : {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ...} إلى قوله: {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا}[الفتح:25]. وثالثها: ما يرجع إلى اللَّفظ والمعنى معًا، وأقسامه بحسب تركيب بعض وجوه اللَّفظ مع بعض وجوه المعنى _نحو: غرابة اللَّفظ مع(6) دقَّة المعنى_ ستَّة أنواعٍ؛ لأنَّ وجوه اللَّفظ ثلاثةٌ، ووجوه المعنى اثنان، ومضروب الثَّلاثة في اثنين ستةٌ.
          والقسم الثَّاني من المتشابه: وهو ما يرجع إلى أمرٍ(7) ما يعرض في اللَّفظ؛ وهو خمسة أنواعٍ؛ الأوَّل: من جهة الكميَّة؛ كالعموم والخصوص، الثَّاني: من طريق الكيفيَّة؛ كالوجوب والنَّدب، الثَّالث: من جهة الزَّمان؛ كالنَّاسخ والمنسوخ، الرَّابع: من جهة المكان، كالمواضع(8) والأمور التي نزلت فيها؛ نحو: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا}[البقرة:189] وقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}[التوبة:37] فإنَّه يحتاج في معرفة ذلك إلى معرفة(9) عاداتهم في الجاهليَّة، الخامس: من جهة الإضافة؛ وهي الشُّروط التي بها يصحُّ الفعل أو يفسد؛ كشروط العبادات والأنكحة والبيوع.
          وقد يقسم المتشابه والمحكم بحسب ذاتهما إلى أربعة أقسامٍ؛ المحكم من جهة اللَّفظ والمعنى؛ كقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى آخر الآيات[الأنعام:151] الثَّاني: متشابهٍ من جهتهما معًا؛ كقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ} الاية[الأنعام:125] الثَّالث: متشابهٍ في اللَّفظ محكمٌ في المعنى؛ كقوله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ} الاية[الفجر:22] الرَّابع: متشابهٍ في المعنى محكم في اللَّفظ؛ نحو: السَّاعة والملائكة، وإنَّما كان فيه المتشابه؛ لأنَّه باعثٌ على تعلُّم علم الاستدلال؛ لأنَّ معرفة المتشابه متوقفةٌ على معرفة علم الاستدلال، فتكون حاملةً على تعلُّمه، فتتوجَّه الرَّغبات إليه ويتنافس فيه المحصِّلون(10)، فكان كالشِّيء النَّافق؛ بخلافه إذا لم يوجد فيه المتشابه؛ فلم يُحتَج إليه كلَّ الاحتياج، فيتعطَّل ويضيع، ويكون كالشَّيء الكاسد. قاله الطِّيبيُّ.
          وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ} ({زَيْغٌ}) أي: (شَكٌّ) وضلالٌ وخروجٌ عن الحقِّ إلى الباطل {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ({ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ}[آل عمران:7]) مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، منصوبٌ على المفعول له، أي: لأجل طلب (المُشْتَبِهَاتِ) بضمِّ الميم وسكون المعجمة وفتح الفوقيَّة وكسر الموحَّدة، ليفتنوا النَّاس عن دينهم؛ لتمكُّنهم من تحريفها إلى مقاصدهم الفاسدة؛ كاحتجاج النَّصارى بأنَّ القرآن نطق بأنَّ‼ عيسى روح الله وكلمته، وتركوا الاحتجاج بقوله: { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ}[الزخرف:59] و{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ}[آل عمران:59] وهذا بخلاف المحكم، فلا نصيب لهم فيه لأنَّه دافعٌ لهم(11) وحجة عليهم، وتفسير {الْفِتْنَةِ} بالمشتبهات لمجاهدٍ وصله عبد بن حميدٍ ({وَالرَّاسِخُونَ} _يَعْلَمُونَ_) ولأبي ذرٍّ عن المُستملي والكُشْميهَنيِّ: ”{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يعلمون“ ({يَقُولُونَ}) خبر المبتدأ الذي هو {وَالرَّاسِخُونَ} أو حالٌ، أي: والرَّاسخون يعلمون تأويله حال كونهم قائلين ذلك، أو خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: هم يقولون: ({آمَنَّا بِهِ}[آل عمران:7]) زاد في نسخةٍ عن المُستملي والكُشْميهَنيِّ: ”{ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}“ أي: كلٌّ من المتشابه والمحكم من عنده(12) ”{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ}“ وسقط جميع هذه الآثار من أوَّل السُّورة إلى هنا عن الحَمُّويي.


[1] «هذا»: ليس في (د).
[2] في (ب): «تصدِّق».
[3] في (ص) و(م): «يحصل»، ولعلَّه تحريفٌ.
[4] في (د): «على الذي».
[5] «المعنى»: ليس في (د).
[6] في (م): «من».
[7] «أمر»: سقط من (د).
[8] في غير (د) و(س): «كا لمواضيع».
[9] في (ج) و(ص) و(ل): «معرفتهم».
[10] في (م): «المخلصون».
[11] «لأنَّه دافعٌ لهم»: مثبتٌ من (د) و(س).
[12] في (د): «عند ربِّنا».