إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قوله:{إن الله وملائكته يصلون على النبي}

          ░10▒ (بابُ قولِهِ) ولأبي ذرٍّ: ”بَابٌ“ بالتَّنوين؛ أي(1): في(2) قوله: ({إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}) اختلف: هل {يُصَلُّونَ} خبرٌ عن الله وملائكتِهِ، أو عن الملائكة فقط؟ وخبر الجلالة(3) محذوفٌ لتغايرِ الصلاتين؛ لأنَّ صلاة الله غير صلاتهم، أي: إنَّ الله يصلِّي وملائكته يصلُّون، إلَّا أنَّ فيه بحثًا؛ وذلك أنَّهم نصُّوا على أنَّه إذا اختلفَ مدلولا(4) الخبرين؛ فلا يجوز حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه وإن كانا بلفظ واحد، فلا تقول: زيد ضاربٌ وعمرٌو؛ يعني(5): وعمرٌو ضاربٌ في الأرض، أي: مسافرٌ، وعبَّر بصيغة المضارع؛ ليدل على الدوام والاستمرار، أي: أنَّه تعالى وجميع ملائكته الذين لا يُحصَون بالعدِّ(6)، ولا يُحصَرون بالحدِّ يصلُّون عليه، وفيه الاعتناء بشرفه وتعظيم شأنه في الملأ الأعلى(7) ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ}) أي: اعتنوا أيُّها الملأ الأدنى بشرفه وتعظيمه أيضًا، فإنَّكم(8) أولى بذلك، وقولوا: اللَّهمَّ صلِّ عليه ({وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب:56]) وقولوا: السَّلام عليك أيُّها النَّبيُّ، وأكَّد السَّلام بالمصدر، واستُشكل: بأنَّ الصلاة آكد منه، فكيف أكَّده بالمصدر دونها؟ وأُجيب بأنَّها مؤكَّدة بـ {إِنَّ} وبإعلامه تعالى بأنَّه(9) يصلِّي عليه وملائكته، ولا كذلك السَّلام؛ إذ ليس ثمَّ ما يقوم مقامه، أو أنَّه لمَّا وقع تقديمها عليه لفظًا _وللتقديم مزيَّةٌ في الاهتمام_ حسن تأكيد السَّلام؛ لئلَّا يتوهَّم قلَّة الاهتمام به لتأخُّره، وأضيفت الصلاة إلى الله وملائكته دون السَّلام وأمر المؤمنون بهما؟ فيحتمل أن يقال: إن السَّلام لمَّا كان له معنيان: التحيَّة والانقياد، فأمر به المؤمنون لصحَّتهما منهم، والله وملائكته لا يجوز منهم الانقياد، فلم يضف إليهم دفعًا للإيهام، كذا أجاب الحافظ ابن حجر، والأمر للوجوب في الجملة، أو كلَّما ذُكِرَ؛ لحديث: «رغم أنف رجل ذُكِرْتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ»، رواه البخاريُّ في «الأدب»، والتِّرمذيُّ(10)، وحديث عليٍّ عند التِّرمذيِّ _وقال: حسن غريب صحيح_: «البخيل من ذُكِرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ»، أو في المجلس مرَّةً؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: «ما جلس قومٌ‼ مجلسًا لم يذكروا الله فيه ولم يصلُّوا على نبيِّهم إلَّا كان عليهم تِرَة، فإن شاء عذَّبهم، وإن شاء غفر لهم» رواه الترمذي، أو في العمر مرَّةً واحدةً؛ لأنَّ الأمر المطلق لا يقتضي تكرارًا، والماهية تحصل بمرَّةٍ، أو في القعود آخر الصلاة بين التشهُّد والسَّلام، قاله إمامُنا الشَّافعيُّ والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وهي(11) الأخيرة، وإسحاق بن رَاهُوْيَه، ونصُّه: إذا تركها عمدًا؛ بطلت صلاته، أو سهوًا؛ رجوتُ أن تُجزِئَه، وابن الموَّاز من المالكيَّة، واختاره ابن العربيِّ منهم أيضًا(12)، وألزم العراقيُّ القائل بوجوبها كلَّما ذكر _كالطحاوي_ أن يقول به في التشهُّد؛ لتقدُّم ذكره ╕ في التشهُّد، وفيه ردٌّ على مَن زعم أنَّ الشافعيَّ شذَّ في ذلك، كأبي(13) جعفرٍ الطبريِّ والطحاويِّ وابن المنذر والخطَّابيِّ، كما حكاه القاضي عياض في «الشفاء»، وفي كتابي «المواهب اللدنية بالمنح المحمَّدية» ما يكفي ويَشفي، وسقط لأبي ذرٍّ قوله: «{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}...» إلى آخره، وقال بعد {عَلَى النَّبِيِّ}: ”الآيةَ“، وقد انتزع النوويُّ من الآية الجمع بين الصَّلاة والسَّلام، فلا يُفرَدُ أحدهما من الآخر، قال الحافظ ابن كثير: والأَولى أن يقال: صلعم تسليمًا.
          (قَالَ أَبُو العَالِيَةِ) رُفيعٌ _بالتَّصغير_ ابن مِهْران الرِّياحيُّ؛ بكسر الراء بعدها تحتيَّة وبعد الألف حاءٌ مهملة، مولاهم البصريُّ، أحد أئمَّة التابعين، أدرك الجاهلية، ودخل على أبي بكرٍ / ، وصلَّى خلف عمر، وحفظ القرآن في خلافته، وتوفِّي سنة تسعين في شوَّالٍ، وقال البخاريُّ(14) سنة ثلاث وتسعين: (صَلَاةُ اللهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ المَلَائِكَةِ، وَصَلَاةُ المَلَائِكَةِ الدُّعَاءُ) أخرجه ابن أبي حاتم (قَالَ) ولأبي ذرٍّ: ”وقال“ (ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : ({يُصَلُّونَ}) أي: (يُبَرِّكُونَ) بتشديد الرَّاء المكسورة، أي: يدعون له بالبركة، أخرجه الطبريُّ من طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه(15)، ونقل التِّرمذيُّ عن سفيان الثوريِّ وغير واحدٍ من أهل العلم قالوا: صلاةُ الربِّ الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار، وعن الحسن ممَّا رواه ابن أبي حاتم: أنَّ بني إسرائيل سألوا موسى هل يصلِّي ربُّك؟ قال: فكأنَّ ذلك كَبُرَ في صدر موسى، فأوحى الله إليه: أخبرهم أنِّي أصلي وأنَّ صلاتي: إنَّ رحمتي سبقت غضبي، وهو في معجمي(16) الطبراني «الصغير» و«الأوسط» من طريق عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة ☺ ؛ رفعه: «قلت: يا جبريل، أيُصلِّي ربُّك جلَّ ذكره؟ قال: نعم؛ قلت: ما صلاته؟ قال: سبُّوحٌ قدُّوسٌ، سبقت رحمتي غضبي».
          وعن أبي(17) بكر القشيريِّ ممَّا(18) نقله القاضي عياض: الصلاة على النَّبيِّ صلعم من الله تشريفٌ وزيادة تكرُمة، وعلى من دون النبي رحمة، وبهذا التقرير يظهر الفرق بين النبيِّ صلعم وبين سائر المؤمنين، حيث قال تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}[الأحزاب:56]‼ وقال قبل ذلك في السورة: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ (19)}[الأحزاب:43] ومن المعلوم أنَّ القدر الذي يليق بالنَّبيِّ صلعم من ذلك أرفع ممَّا يليق بغيره.
          ({لَنُغْرِيَنَّكَ}) في قوله تعالى: {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ}[الأحزاب:60] أي: (لَنُسَلِّطَنَّكَ) عليهم بالقتال والإخراج، قاله ابن عبَّاس فيما وصله الطبريُّ.


[1] «أي»: ليس في (د).
[2] في (م): «من».
[3] في (د) و(م): «الله».
[4] في (د): «مدلول».
[5] في (م): «بمعنى».
[6] في (د): «بالعدد».
[7] قوله: «وفيه الاعتناء بشرفه وتعظيم شأنه في الملأ الأعلى»، تأخر في (د) و(ص) و(م) عقب قوله: «{صَلُّوا عَلَيْهِ}». وكذا في (ج): ثم أشار في الهامش تقديمه على الآية.
[8] في (م): «فأنتم».
[9] في (د) و(م): «أنه».
[10] زيد في (م): «والثوري»، ووقع في (د) بدل: «الترمذي».
[11] في (د) و(م): «في».
[12] «أيضًا»: ليس في (د).
[13] في (ص): «كأبوي».
[14] زيد في (د) و(م): «في».
[15] «عنه»: ليس في (د).
[16] في (د) و(ص) و(م): «معجم».
[17] «أبي»: ليس في (د) و(ص) و(م).
[18] في (د): «فيما».
[19] «{وَمَلَائِكَتُهُ}»: ليس في (د).