إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قوله:{لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم}

          ░8▒ هذا (بابٌ) بالتَّنوين يُذكَرُ فيه (قوله) تعالى: ({لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ}) أي: إلَّا مصحوبين بالإذن، فهي / في موضع الحال، أو إلَّا بسبب الإذن لكم، فأسقط باء السبب، وقال القاضي كالزَّمخشريِّ: إلَّا وقت أن يُؤذَن لكم، وردَّه أبو حيَّان بأنَّ النُّحاة نصُّوا على أنَّ(1) «أن»(2) المصدريَّة لا تقع موقع الظرف، لا يجوز: «آتيك أن يصيحَ الديك»، وإن جاز ذلك في المصدر الصريح؛ نحو: «آتيك صياحَ الديك» ({ إِلَى طَعَامٍ}) متعلِّقٌ بـ {يُؤْذَنَ} لأنَّه بمعنى: إلَّا أن تُدْعَوا إلى طعام ({غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}) نصب على الحال، فعند الزمخشريِّ: العامل فيه {يُؤْذَنَ} وعند غيره مقدَّرٌ، أي: ادخُلوا غيرَ ناظرين إدراكه أو وقت نضجه، والمعنى: لا تَرقُبوا الطعام إذا طبخ حتَّى إذا قارب الاستواء؛ تعرضتم للدخول؛ فإنَّ هذا ممَّا يكرهه الله ويذمُّه، قال ابن كثير: وهذا دليلٌ على تحريم التطفيل، وقد صنَّف الخطيب البغداديُّ كتابًا في ذم الطفيليِّين، ذكر فيه من أخبارهم ما يطول إيراده، وأمال حمزة والكسائيُّ {إِنَاهُ} لأنَّه مصدر أنى الطعام؛ إذا أدرك ({وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا}) تفرَّقوا واخرُجُوا من منزله ولا تمكُثوا، والآية إمَّا تقديم، أي: لا تدخلوا إلى طعام إلَّا أنْ يُؤذَنَ لكم، أوْ لا، والثاني أَولى؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ التقديم، وحينئذٍ فالإذنُ مشروطٌ بكونه إلى طعامٍ‼، فلو أذن لأحدٍ أن يدخل بيوته لغير الطعام أو لبث بعد الطعام لحاجةٍ لا يجوز، لكنَّا نقول: الآية خطابٌ لقومٍ كانوا يتحيَّنون طعامَ رسول الله صلعم ، فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه، فهي مخصوصةٌ بهم وبأمثالهم، فيجوزُ ولا يشترط التصريح بالإذن، بل يكفي العلم بالرضا، كما يُشعِر به قوله: { إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} حيث لم يُبيِّن الفاعل مع قوله: { أَوْ صَدِيقِكُمْ} ({وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ}) نُصِبَ عطفًا على {غَيْرَ} أي: لا تدخلوها غير ناظرين ولا مستأنسين، أو حالٌ مقدَّرةٌ، أي: لا تدخلوا هاجمين ولا مستأنسين، أو جُرَّ عطفًا على {نَاظِرِينَ} أي: غير ناظرين وغير مستأنسين، واللَّام في {لِحَدِيثٍ} للعلَّة، أي: لأجل أن يحدِّث بعضكم بعضًا، والمعنى: ولا طالبين الأُنسَ للحديث، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدَّثون طويلًا، فنهوا عنه ({ إِنَّ ذَلِكُمْ}) الانتظار والاستئناس ({كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ}) لتضييق المنزل عليه وعلى أهله، وإشغاله(3) فيما لا(4) يعنيه ({فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ}) أي: من إخراجكم، فهو من تقدير المضاف؛ بدليل قوله: ({وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}) أي: إن إخراجَكُم حقٌّ، فينبغي ألَّا يُترَك حياءً؛ ولهذا نهاكم وزجركم عنه، قال في «الكشاف»: وهذا أدبٌ أدَّب الله به الثقلاء، وقال السَّمرقنديُّ: في الآية حفظ الأدب، وتعليم الرجل إذا كان ضيفًا لا يجعل نفسه ثقيلًا، بل إذا أكل ينبغي أن يخرج ({وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا}) حاجةً ({فَاسْأَلُوهُنَّ}) المتاع ({مِن وَرَاء حِجَابٍ}) أي: سترٍ ({ذَلِكُمْ}) أي: الذي شرعتُه لكم من الحجاب ({أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}) من الرَّيب؛ لأنَّ العين روزنة القلب، فإذا لم تَرَ العين لا يشتهي القلب، فهو عند عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة حينئذٍ أظهر(5)، وهذه آية الحجاب، وهي(6) ممَّا وافق تنزيلُها قول عمر، كما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ({وَمَا كَانَ لَكُمْ}) وما صحَّ لكم ({أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ}) أن تفعلوا شيئًا يكرَهُه ({وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا}[الأحزاب:53]) بعد وفاتِهِ أو فراقه؛ تعظيمًا له وإيجابًا لحرمته.
          وفي حديث عكرمة عنِ ابن عبَّاس ممَّا(7) رواه ابن أبي حاتم: أنَّ الآية نزلت في رجل همَّ أن يتزوَّج بعض نساء النبي صلعم بعدَه، قال رجلٌ لسفيان: أهي عائشة؟ قال: قد ذكروا ذاك(8)، وكذا قال مقاتل وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وذكر بسنده عن السُّدِّي: أنَّ الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله ☺ ، حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك ({ إِنَّ ذَلِكُمْ}) أي: إيذاءه ونكاح نِسائِه ({كَانَ عِندَ اللهِ}) ذنبًا ({عَظِيمًا}[الأحزاب:53]) وسقط لأبي ذرٍّ قوله: «{غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}...» إلى آخره، وقال بعد قوله: {إِلَى طَعَامٍ}: ”إلى قوله: { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيمًا}“.
          (يُقَالُ: { إِنَاهُ}) قال أبو عُبيدةَ أي: (إِدْرَاكُهُ) وبلوغه‼، ويقال: (أَنَى) بفتح الهمزة والنون (يَأْنَى) بسكون الهمزة وفتح النون (أَنَاةً) بفتح الهمزة والنون من غير همز(9) آخره هاء(10) تأنيث، مقصورٌ، ولابن عساكر: ”إناء“ / بهمزة من غير هاء تأنيث، وزاد أبو ذرٍّ: ”فهو آنٍ“.
          ({لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا}[الأحزاب:63]) القياس أن يقول: قريبة بالتَّاء(11)، وأجاب المؤلف عنه: بأنك (إِذَا وَصَفْتَ(12) صِفَةَ المُؤَنَّثِ؛ قُلْتَ: قَرِيبَةً) بالتاء (وَإِذَا جَعَلْتَهُ ظَرْفًا) قال الكِرمانيُّ أي: اسمًا زمانيًّا(13) وعبارة أبي عبيدة: مجازه مجاز الظرف (وَبَدَلًا) أي: عن الصفة، يعني: جعلتَه اسمًا مكان الصفة (وَلَمْ تُرِدِ الصِّفَةَ؛ نَزَعْتَ الهَاءَ مِنَ المُؤَنَّثِ) فقلت: قريبًا (وَكَذَلِكَ لَفْظُهَا) أي: لفظ الكلمة المذكورة إذا لم تُرِدِ الصفة يستوي (فِي) لفظِها(14) (الوَاحِدِ وَالاثْنَيْنِ وَالجَمِيعِ لِلذَّكَرِ(15) وَالأُنْثَى) بغير هاء، وبغير جمعٍ، وبغير تثنية، وقال في «الدر»: الظاهر أنَّ { لَعَلَّ} تعلِّق كما يعلِّق التمنِّي، و{قَرِيبًا} خبرُ «كان» على حذف موصوفٍ، أي: شيئًا قريبًا، وقيل: التقدير: قيام الساعة(16)، فروعيت { السَّاعَةَ} في تأنيث {تَكُونُ} وروعي المضاف المحذوف في تذكير {قَرِيبًا} وقيل: {د قَرِيبًا} كَثُرَ استعماله استعمال الظروف، فهو هنا ظرفٌ في موضع الخبر، وسقط لأبوي ذرٍّ والوقت وابن عساكر لفظ «الواحد» وقال العينيُّ _كابن حجر_: وسقط لغير أبي ذرٍّ والنسفي قوله: «{لَعَلَّ السَّاعَةَ}...» إلى آخره، وصوِّب؛ لأنَّه ساقه في غير محلِّه؛ لتقديمه(17) على الأحاديث المسوقة في معنى قوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ}... إلى آخرها.


[1] «أنَّ»: ليس في (ص).
[2] «أنْ»: ليس في (م).
[3] في (د) و(م): «واشتغاله».
[4] «لا»: سقط من (د).
[5] في (م): «أطهر».
[6] في (د): «وهو».
[7] في (د): «فيما».
[8] في (م): «ذلك».
[9] في (د): «همزة».
[10] في (ب) و(د) و(م): «تاء».
[11] «بالتاء»: ليس في (د).
[12] في (ص): «وضعت».
[13] في (ص): «زمانًا».
[14] «لفظها»: ليس في (ب).
[15] في (ص): «المذكر».
[16] زيد في (د): «فيه».
[17] في (د): «لتقدُّمه».