إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا}

          ░5▒ هذا (بابٌ) _بالتَّنوين_ في قوله تعالى: ({إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا}) مفعولٌ من أجله، أي: يحاربون لأجل الفساد، أو حال، أي: مفسدين ({أَن يُقَتَّلُواْ}) خبر المبتدأ، وهو {جَزَاء الَّذِينَ} ({أَوْ يُصَلَّبُواْ}... إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ}[المائدة 33]) أي: من أرض الجناية إلى غيرها، وقال أبو حنيفة: بالحبس؛ لأنَّ المحبوس لا يرى أحدًا من أحبابه، ولا ينتفع بلذَّات الدُّنيا، و{ أَوْ}: قيل: للتَّخيير، أي: للإمام أن يفعل بهم أيَّ خصلةٍ شاء، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاسٍ من طريق عليِّ(1) بن أبي طلحة، فيما رواه ابن جريرٍ، قال شارح «البزدويِّ» _فيما حكاه الطِّيبيُّ_: نَظَر هذا القائل أنَّ كلمة {أَوْ} للتَّخيير حقيقةً، فيجب العمل بها إلى أن يقوم دليل المجاز، ولأنَّ قطع الطَّريق في ذاته جنايةٌ واحدةٌ / ، وهذه الأجزية ذُكِرَت بمقابلتها، فيصلح كلُّ واحدٍ جزاءً له، فيثبت التَّخيير كما في كفَّارة اليمين. انتهى. والجمهور: أنَّها للتَّنويع، قال إمامنا الشَّافعيُّ: أخبرنا إبراهيم _هو ابن أبي يحيى_ عن صالحٍ مولى التَّوءمة عن ابن عبَّاسٍ في قطَّاع الطريق إذا قَتَلوا وأَخَذوا المال: «قُتِلوا وصُلِّبوا، وإذا قَتَلوا ولم يَأخُذوا المال، قُتِلوا ولم يُصَلَّبوا، وإذا أَخَذوا المال ولم يُقْتُلوا؛ قُطِّعت أيديهم وأرجلُهم من خلافٍ، وإذا أخافوا السَّبيل ولم يأخذوا مالًا؛ نُفُوا من الأرض» ورواه ابن أبي شيبة عن عطيَّة عن ابن عبَّاسٍ بنحوه، وأجاب في «فتوح الغيب» عمَّا سبق من(2) القول بالتَّخيير: بأنَّه غير ممكنٍ؛ لأنَّ الجزاء على حسب الجناية ويزداد بزيادتها وينقص بنقصانها، قال تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}[الشورى:40] فيبعد أن يُقَال: عند غلظ الجناية يعاقب بأخفِّ الأنواع، وعند خفَّتها بأغلظها، وذلك أنَّ المحاربة تتفاوت أنواعها في صفة الجناية؛ من تخويفٍ‼، أو أخذ مالٍ، أو قتلِ نفسٍ أو جمعٍ بين القتل وأخذ المال، والمذكور في الآية أجزيةٌ متفاوتةٌ في معنى التَّشديد والغلظة، فوقع الاستغناء بتلك المقدَّمة عن بيان تقسيم الأجزية على أنواع الجناية نصًّا، وهذا التَّقسيم يرجع إلى أصلٍ لهم؛ وهو أنَّ الجملة إذا قُوبلت بالجملة ينقسم البعض على البعض. انتهى. واختُلِف في كيفية الصَّلب؛ فقيل: يُصلَب حيًّا، ثمَّ يُطعَن في بطنه برُمْحٍ حتَّى يموت، وعن(3) الشَّافعيِّ: يُقتَل أوَّلًا، ثمَّ يصلَّى عليه ثمَّ يُصلَب، وهل يُصلَب ثلاثة أيَّامٍ ثمَّ يُنزَل، أو يُترَك حتَّى يتهرَّى ويسيل صديده؟ وسقط قوله: «{أَن يُقَتَّلُواْ}...» إلى آخره لأبي ذرٍّ، وقال بعد قوله تعالى: {فَسَادًا}: ”الآية“.
          (المُحَارَبَةُ للهِ) قال سعيد بن جبير فيما وصله ابن أبي حاتمٍ من طريق ابن لهيعة عن عطاء ابن دينارٍ(4) عنه: هي (الكُفْرُ بِهِ) تعالى، وقال غيره: هو من باب حذف المضاف، أي: يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله؛ وهم المسلمون، ففيه تعظيمٌ لهم، ومنه قوله تعالى: «من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالحرب» وأصل الحرب: السَّلب، والمحارب: يَسلِب الرُّوح والمال، والمراد هنا: قطع الطَّريق، وهو أخذ المال مكابرة اعتمادًا على الشوكة، وإن كان(5) في مصرٍ.


[1] «عليَّ»: ليس في (م).
[2] في (ص): «في».
[3] في (د): «وعند».
[4] في (ب) و(س): «يسار»، ولعلَّه تحريفٌ.
[5] في (د): «كانت».