حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل عنده بأجل مسمي

          67- قولُه: (أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ) [خ¦1284] هُو الحبُّ ابنُ الحبِّ، أي: المحْبوبُ ابنُ المحبُوْبِ للنَّبيِّ صلعم.
          قَوله: (ابْنَةُ).
          قيل: إنَّها زيْنبُ، فيكون ذلك الابنُ عليَّ بنَ أبي العاصِ.
          وقيل: إنَّها رُقيَّةُ، فالمرادُ بالابنِ: عبدُ الله بنُ عُثمانَ.
          وقيل: إنَّها فاطِمةُ، فالمرادُ بالابنِ: مُحْسنُ بنُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ.
          وفي رِوايةٍ: «بِنْتُ».
          وهذا على رِواية (اِبْناً)، مَع التَّذكير؛ كما صوَّبَه العَيْنيُّ، والجمعُ بين ذلك باحتمالِ تعدُّدِ الواقِعة(1).
          وأمَّا على رِواية: «بِنْتاً لي»، فهيَ أُمامةُ بِنْتُ زَيْنَبَ.
          واستشكلَ بأنَّ أُمامةَ عاشتْ بَعْد النَّبيِّ صلعم حتَّى تزوَّجَها عليُّ بنُ أبي طالبٍ بعد وَفاةِ فاطِمةَ، ثمَّ عاشَتْ / بعدَ(2) عليٍّ حتَّى قُتِلَ عَنْها!؟
          وأُجِيْبَ بأنَّ الذي يظهر، أنَّ اللهَ سُبحانه وتعالى أكرمَ نَبِيَّه ╕ لمَّا سلَّمَ لأمْرِ رَبِّه وصَبَّر ابنتَه، ولم يملك مع ذلك عَيْنَيه من الرَّحْمة والشَّفقةِ بأنْ عافى ابنةَ ابْنَتِه في ذلك الوَقْت، فخلصت منَ الشِّدَّة وعاشتْ تلْك المدَّة.
          قوله: (قُبِضَ) أي: هو(3) في حال القَبْض ومُعالجة الرُّوح، لا أنَّه قُبِضَ بالفِعْل.
          قوله: (يُقْرِئُ) بضمِّ أوَّلِه، وكسرِ الرَّاءِ، مِن اِقْرَأْ.
          وقوله: (إنَّ لله مَا أَخَذَ) يحتملُ أن تكونَ (مَا) مَوصُولاً اسميّاً، والعائدُ محذوفٌ، أي: إنَّ لله الذي أخَذَه، ولَه الذي أعطاهُ.
          ويحتملُ أنْ تكون [مَا] مَوصُولاً حرفيّاً، والتَّقديرُ: إنَّ لله الأخذَ وله الإعْطاء، وقدَّم ذِكْرَ الأخذِ على الإعطاءِ _وإنْ كان متأخِّراً في الواقع_ لما يقتضيه المقامُ.
          والمعنى: إنَّ الذي أرادَ اللهُ أنْ يأخُذَه هو الذي كان أعطاه؛ فإنْ أخذَه أخذ ما هو له فلا ينبغي الجزع؛ لأنَّ مستَودعَ الأمانةِ لا ينبغي له أن يجزع إذا استُعيدت مِنْه.
          ويحتملُ أن يكونَ المرادُ بالإعْطاءِ إعْطاءَ الحياةِ لمن بقيَ بَعْد المَوْتِ، أو ثَوابهم على المصيْبةِ، أو ما هو أَعمُّ.
          قولُه: (وَكُلٌّ) أي: من الأخْذِ والإعطاءِ، أو مِن الأنفس، أو ما هو أعمُّ من ذلك، وهي جملةٌ ابتدائيَّةٌ معطوفةٌ على الجملة المؤكَّدة.
          ويجوزُ في (كُلٌّ) النَّصبُ عَطْفاً على اسم (إنَّ).
          وقوله: (عِنْدَهُ) أي: عند الله، ومعنى العِنْديَّة: العِلْمُ، وهو من مَجاز الملازمةِ.
          وقوله: (بِأَجَلٍ) يطْلَق على الجزْءِ الأخير، وعلى مجموع العُمر.
          وقوله: (مُسَمًّى) أي: مَعلومٍ مُقدَّرٍ مُعيَّنٍ.
          قوله: (فَلْتَصْبِرْ) أي: تحمل المشقَّة.
          وقوْله: (وَلْتَحْتَسِبْ) أي: تنو بصَبْرِها طلبَ الثَّوابِ منْ رَبِّها ليحسبَ لها ذلك من عملِها الصَّالح، أو تجعل الوَلَد في حياتِه لله تعالى راضيةً بقضاءِ الله وقَدَره، قائلةً: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.
          قوله: (فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ تُقْسِمُ) أي: أرسلَتِ البنْت إلى النَّبيِّ صلعم في حالِ كونها تُقسمُ عليه، هذا يُفيد أنَّها راجعَتْه مرَّةً، وقامَ في الثَّانية.
          والذي وقعَ في حديث عبد الرَّحمن بنِ عَوْفٍ أنَّها راجعته مرَّتَين، وأنَّه إنَّما قامَ في ثالث مرَّةٍ، وكأنَّها ألحَّتْ عليه في ذلك دَفْعاً لما يظنّه بعضُ أهل الجهْلِ أنَّها ناقصةُ المَكَانَةِ عِنْده، والمرادُ بالمكانةِ: الرُّتْبةُ.
          أو ألهَمَها اللهُ تعالى أنَّ حُضورَ نَبِيِّه صلعم عندها يَكُفُّ عنْها ما هيَ فيه من الألَمِ ببَرَكَةِ حُضورِه ودُعائه، فحقَّق اللهُ ظنَّها.
          والظَّاهرُ أنَّه امتنعَ أوَّلاً مُبالغةً في إظهارِ التَّسليم لرَبِّه المبين، وإشارةً لجوازِ أنَّ مَن دُعي لذلك لم تجبْ عليه الإجابةُ، بخلاف الوَليمة مَثَلاً.
          قوله: (فَقَامَ، وَمَعَهُ) وفي رِواية حَمَّادٍ: «فَقَامَ وَقَامَ مَعَهُ رِجَالٌ(4)» [خ¦7377].
          وفي رِوايةٍ، أنَّ أُسامةَ راوي الحديْث كانَ معَهُم [خ¦7448]. /
          قوله: (فَرُفِعَ) كذا هُنا بالرَّاءِ.
          وفي رِواية حمَّادٍ: «فَدُفِعَ»، بالدَّالِ.
          وبيَّن في رِواية شُعْبةَ(5) أنَّه «وُضِعَ في حَجْرِه صلعم»، وفي هذا السِّياق حَذْفٌ، والتَّقدير: فمَشوا إلى أنْ وصلُوا إلى بيْتِها، فاستأذنوا، فأذِن لهم، فدخلوا فُرفع.
          ووقعَ بعضُ هذا المحذوف في رِواية عبد الواحِد، ولفظُه: «فَلمَّا دخَلْنا، ناوَلوا رسوْلَ الله صلعم الصَّبِيَّ» [خ¦7448].
          وقولُه: (تَتَقَعْقَعُ) بتاءَيْن، وقافَين، أي: تتحرَّك وتضْطرِبُ، وهي كِنايةٌ عن حركةٍ يُسمع معها صَوْتٌ.
          وقوله: (قَالَ) أي: الرَّاوي عَن أُسامةَ بنِ زيدٍ.
          وقوله: (حَسِبْتُ) أي: ظننتُ.
          وقوله: (أَنَّهُ) أي: أُسَامةُ بنُ زَيْدٍ.
          وقوله: (كَأَنَّها شَنٌّ) هُو بفَتْح الشِّين، وتشديدِ النُّون: القِرْبةُ الخلِقةُ اليابِسةُ، فقد شبَّه النَّفْسَ بنفْسِ الجلدِ.
          قوله: (فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) أي: النَّبيُّ صلعم.
          وصرَّحَ بِه في رِواية شُعْبةَ، أي: سالَتا بالبكاءِ.
          وفي روايةٍ: «وَفَاضَتْ» بالواوِ.
          وهذا موضعُ التَّرجمة؛ وذلك لأنَّ البكاءَ العاري عنِ النَّوْح لا يُؤاخَذ به الباكي ولا الميتُ مُطْلقاً، والبكاءُ المشتملُ على النَّوحِ يُؤاخذ به الباكي مُطْلقاً والميِّتُ إنْ أوْصى بذلك.
          قوله: (فَقَالَ سَعْدٌ) أي: ابنُ عُبادَةَ المذْكورُ.
          وصرَّحَ به في رِواية عبد الواحدِ [خ¦7448].
          ووقعَ في رِواية ابنِ ماجَهْ مِن طرِيق عبد الواحدِ: «فَقَالَ سَعْدُ بنُ الصَّامِتِ»(6)، والصَّوابُ ما في «الصَّحيْح».
          قوله: (مَا هذا) وفي رِواية عبد الواحِد: «أَتَبْكِي»، وزادَ أبو نُعيْمٍ: «وتَنْهى عَنِ البكَاءِ»(7).
          قوله: (قَالَ: هذِهِ رَحْمةٌ) أي: قالَ النَّبيُّ صلعم: هذه الدَّمعةُ التي تَراها نزلتْ بغير تعمُّدٍ أثر رَحْمةٍ، أي: رِقَّة قلْبٍ، فهذه الدَّمعةُ ناشئةٌ مِن رِقَّة القَلْبِ، فلا مُؤاخذة عليه فيها، وإنَّما المنهيُّ عنه الجزعُ وعَدَمُ الصَّبْر.
          قوله: (جَعَلَهَا) أي: تلْك الرَّحْمة.
          وقوله: (في قُلُوْبِ عِبَادِهِ) أي: الرُّحماء.
          قوله: (فَإنَّمَا) بالفاءِ.
          وفي رِوايةٍ بالواوِ.
          وقوله: (مِنْ عِبَادِهِ)، (مِنْ) بَيانيَّةٌ، وهي حالٌ مِن المفعولِ قدَّمَه ليكون أوقع.
          وقوله: (الرُّحَمَاءَ) يحتملُ أنْ يكونَ بالنَّصْب مفعولاً لقوله: (يَرْحَمُ) بناءً على أنَّ (مَا) في قوله: (فإنَّمَا) كافَّةٌ ﻟ (إنَّ) عنِ العَملِ.
          ويحتملُ أنْ يكونَ بالرَّفْع خبرُ (إنَّ) بناءً على أنَّها مَوصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ وهو مفعولُ (يَرْحَمُ)، والتَّقديرُ: إنَّ الذين يرحمُهمُ اللهُ تعالى من عِبادِه الرُّحماءُ، وهو جمْعُ رَحِيْمٍ، ورَحِيْمٌ، منْ صِيَغ المُبالَغة، ومقتضاهُ: إنَّ رحْمةَ الله تعالى مُختصَّةٌ بمَن اتَّصف بالرَّحْمة البليغة دون مَن فيه أصل الرَّحمة، لكن ثبتَ في حديثٍ آخَر: «الرَّاحِمُوْنَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحمنُ»(8)، والرَّاحموْنَ جمعُ راحِمٍ، فيشمل مَنْ فيه أصلُ الرَّحْمةِ؛ إلَّا أنْ يقال: إنَّما ذكر هُنا صيغةَ المُبالَغة لكون الكلام مسوقاً للتَّعْظيم، بقَرِينة ذِكْر لفظِ الجلالةِ الدَّالّ على العَظَمة، بخلافِ الحديث الآخَر؛ فإنَّ لفظ «الرَّحْمن» دالٌّ على العفوِ، فناسبَ أن يذكُرَ معه كلَّ ذِي رحْمةٍ وإن قلَّت.
          وفي الحديث مِن الفوائدِ: جوازُ استحضارِ ذَوي الفضْلِ للمُحتضر لرجاءِ بركتِهم ودُعائهم، وجوازُ القسَم عليهم لذلك.
          وجوازُ إطْلاقِ / اللَّفظِ الموهم لما لم يقعْ بأنَّه وقع مبالغةً في ذلك، لسعة خاطرِ المسؤول في المجيءِ للإجابةِ إلى ذلك.
          وفيه استحبابُ إبْرارِ القسَم.
          وأمرُ صاحِب المصيبة بالصَّبْر قبل وُقوع الموْتِ ليقع وهو مُستشعِرٌ بالرِّضا مقاوِماً للحزْنِ بالصَّبْر.
          وإخبارُ مَن يُسْتَدْعى بالأمْرِ الذي يُسْتَدْعى من أجْلِه.
          وتقديمُ السَّلام على الكلام.
          وعيادةُ المريض ولو كانَ مفضولاً أو صبِيّاً صغيراً.
          وفيه أنَّ أهلَ الفَضْلِ لا ينبغي أن يقطعَ النَّاسُ من فضلهم، ولو ردوا أوَّل مرَّة.
          واستفهامُ التَّابع(9) مِن إمامِه عمَّا يشكل عليه ممَّا لم يتعارضْ(10) ظاهرُه.
          وحُسن الأدب في السُّؤال لتقديمه قوله: (يَا رَسُوْلَ الله) على الاستِفْهام.
          وفيه التَّرغيبُ في الشَّفَقة على خلْقِ الله تعالى والرَّحمة لهم، والتَّرهيبُ من قَساوَة القَلْبِ وجُمود العَيْن، وجوازُ البكاءِ مِن غير نَوْحٍ ونحوه.
          وهذا الحديثُ ذكَره البخاريُّ في باب: تعْذيب الميِّت ببكاءِ أَهْلِه.


[1] عمدة القاري 8/72.
[2] كذا في الأصل، وفي «ز1» و«م»: عند.
[3] كذا في الأصل، وسقطت من «م».
[4] كذا في الأصل، وسقطت من «م».
[5] كذا في «ف3»، وفي الأصل و«م» وباقي النُّسخ: سعيد.
[6] لم أجدها في ابن ماجه وا في غيره.
[7] في الحلية 6/341.
[8] د 4941، ت1924.
[9] كذا في الأصل و«ز6»، وفي «ز2» و«م»: أحد التَّابعين. وفي «ز2» و«ز3» و«ز4»: التابعي.
[10] في هامش «ز1»: لعله: مما يتعارض.